خطاب جلالة الملك محمد السادس في القمة المغربية الخليجية بالرياض هو خطاب تتويج لمسار سياسي واستراتيجي حكم رؤية المغرب، وشكل البوصلة الموجهة لموقفه المبدئي من قضية الصحراء المغربية والنزاع الإقليمي المفتعل حولها والذي ترعاه وتسوق له القيادة الجزائرية بشكل منهجي قائم على عداء مستحكم للمغرب ولوحدته الترابية لفائدة إقامة كيان قزمي جديد في المنطقة يلبي طموحاتها الهيمنية ومعاداتها لتطلعات شعوب المنطقة إلى اعتماد سياسات تقرب ولا تبعد، توحد ولا تفرق، بين مصالحها المشتركة أصلا بحكم الانتماء الجغرافي والنضالي في مختلف مراحل تاريخها الكفاحي في مواجهة الاستعمار وأطماعه رغم زعم القيادة الجزائرية منذ توليها قيادة المساعي المناهضة لوحدة المغرب الترابية حرصها على بناء “مغرب الشعوب”.

يمكن رصد أهم مراحل هذا المسار بالإشارة إلى بعض المواقف المفصلية للمغرب من تطورات قضية وحدته الترابية شكلت لبنات محددة وأسسا لبلورة هذا الخطاب القاطع في وضوحه والصارم في لغته ومراميه.

المفصل الأول، مبادرة الحكم الذاتي الموسع باعتبارها اختراقا للجمود ومنطق العبث السياسي والاستراتيجي الذي أدت إليه محاولات تنظيم الاستفتاء، واستجابة صادقة لدعوة مجلس الأمن الدولي إلى إطلاق مفاوضات في سبيل إيجاد حل سياسي متوافق عليه بعد فشل خطة الاستفتاء وسقوطها في أول امتحان وهو تحديد هوية الهيئة الناخبة.

ورغم تثمين عدد من الدول الكبرى لمبادرة الحكم الذاتي أساسا للتفاوض، فإن الجزائر قد أوعزت لوكلائها الانفصاليين، في قيادة جبهة البوليساريو، برفض مبادرة الحكم الذاتي جملة وتفصيلا، والعمل على إفشال المفاوضات على قاعدتها لتبرير المطالبة بالعودة إلى خطة الاستفتاء، مع إدراكها لاستحالة إعادة الحياة إليها بعد دفنها من قبل الأمم المتحدة من خلال الدعوة إلى اعتماد البحث عن الحل السياسي. بل إن قيادة جبهة البوليساريو قد حاولت وبنوع من التذاكي الغبي الإيحاء والدفع نحو زعم أن هناك عمليا مواقف ثلاثة يمكن الاختيار بينها وهي: خيار الانضمام إلى المغرب أولا، وخيار الانفصال والاستقلال ثانيا، وخيار القبول بالحكم الذاتي ثالثا، وذلك انطلاقا من وهم مزدوج:

الوهم الاول، فرضية انطلاء الحيلة على المغرب من هدف المساواة بين تلك الخيارات، مما يعني قبوله بطرحها جميعها على الاستفتاء الافتراضي، وهو العمل على إضعاف مؤكد للموقف المغربي في كل المعادلات التي يمكن ان تسفر عنها نتائج الاستفتاء، والحال، انه لم يقدم مبادرته الا على اساس مغادرة مفردات خطة الامم المتحدة الفاشلة، وترجيح كفة الحل الوسط الذي تمثله مبادرة الحكم الذاتي اي ان الخيار الأساسي للمغرب يظل هو ان الأقاليم الجنوبية جزء لا يتجزأ من ترابه الوطني وان سيادته عليها ليست موضوع تساؤل، دون ان يعني ذلك انغلاقه في وجه أي مبادرة من شأنها تمكين ساكنة هذه الأقاليم من صلاحيات واسعة في تدبير شؤونهم المحلية على مختلف المستويات خاصة ان المغرب قد دخل في مرحلة تطبيق الجهوية المتقدمة بالنسبة لمختلف جهاته.

الوهم الثاني، هو يقوم على فرضية ان العمل على إفشال المفاوضات حول الحكم الذاتي قد يحتم العودة الى خطة الامم المتحدة الراحلة، في حين ان المغرب قد بلور البديل عنها وهو تطبيق الجهوية المتقدمة على أقاليمه الجنوبية التي اصبحت عبارة عن جهتين أساسيتين من جهات المملكة.

المفصل الثاني، هو كيفية تعامل المغرب مع المبعوث الشخصي للامين العام للامم المتحدة كريستوفر روس عبر هذا الأخير عن مواقف مناهضة للمغرب في خرق سافر لمقتضيات اداء وظيفته في مجال الوساطة بين المغرب وجبهة البوليساريو الانفصالية وخاصة عندما صاغ تقريرا ضمنه ضرورة توسيع صلاحيات بعثة المينورسو لتشمل مجال مراقبة قضايا حقوق الانسان في الصحراء المغربية في مسعى واضح الى تكريس التشكيك في شرعية المؤسسات المغربية المختلفة من خلال الطعن في سيادته على أقاليمه الجنوبية. وقد أدى هذا الى رفض المغرب قبوله وسيطاً الامر الذي دفع الامم المتحدة بعد تدخل عدد من اصدقاء المغرب الحريصين على إحلال السلام بالمنطقة الى عدم الأخذ بتوصيات كريستوفر روس وتلقي المغرب ضمانات واضحة من ان أي تعديل لن يطرأ على صلاحيات المينورسو وان روس سيلتزم الحياد في التعاطي مع قضية الصحراء على قاعدة موقف الامم المتحدة.

المفصل الثالث، خطاب العيون في الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء وهو عبارة عن رسائل واضحة في عدة اتجاهات ولمن يهمهم الأمر منها:

التأكيد من جديد على ان مبادرة الحكم الذاتي الموسع للصحراء ضمن السيادة الوطنية هي أقصى ما يمكن للمغرب ان يقدمه في معرض البحث عن حل سياسي، مع عدم السماح بإرباك مسعاه التنموي في أقاليمه الجنوبية التي قرر ان تكون نموذجا للتنمية بالنسبة لمختلف جهات المملكة.

وهو رسالة تأكيدية وتحذيرية الى الأمين العام للامم المتحدة الذي كان يخطط لزيارة المنطقة في اجواء تسريبات توحي انه على وشك الإقدام على طرح بعض الأفكار الرامية الى تغيير معادلات النزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، من القيام بأي خطوة من شأنها تغيير مفردات الملف لخدمة أجندات معادية للمغرب. وهو موقف يكشف عن عزم المغرب على التصدي لكل مخطط يرمي الى النيل من وحدته الترابية بأي شكل من الأشكال.

وهو تأكيد على ان الجزائر لم تقم خلال الأربعين عاما الماضية الا على استغلال والمتاجرة بقضية المغاربة المحتجزين في مخيمات تيندوف الخاضعة لإدارة مخابراتها العسكرية، سواء على مستوى تحويل اتجاه ملايين دولارات المساعدات الدولية الى حسابات وكلائها في قيادة جبهة البوليساريو الانفصالية في مختلف عواصم العالم، كما فضح ذلك اكثر من تقرير دولي بما في ذلك تقرير الاتحاد الاوروبي الذي تم الكشف عنه خلال العام الماضي.

المفصل الرابع او خطاب تتويج هذا المسار وهو خطاب الملك محمد السادس في الرياض خلال القمة المغربية الخليجية بعد ان تبين من خلال تصريحات بان كي مون الاستفزازية وغير المسبوقة انطلاقا من الاراضي الجزائرية تصميم بعض الأطراف المعادية للمغرب على توظيف الأمين العام في تنفيذ اجنداتهم المخالفة لميثاق الامم المتحدة ولمسلسل التفاوض لإيجاد حل سياسي للنزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء رغم ما يمكن ان يتسبب فيه هذا من تصعيد للموقف بما يهدد بتفجير الوضع وتهديد أمن واستقرار شعوب المنطقة.

ان تأكيد خطاب ملك البلاد على خطورة الموقف، وعلى وجود نوايا مبيتة للنيل من وحدتنا الترابية في سياق مخططات الخريف العربي الذي يستهدف نشر الفوضى وتغيير الانظمة السياسية دون استثناء أي بلد من البلدان هو العامل الأساسي الذي يفسر التركيز على الترابط الصميمي بين أمن المغرب وأمن دول الخليج العربي الأمر الذي يحتم على الجميع الانخراط في اي عمل يستهدف الامن والاستقرار في مجمل البلدان العربية والتصدي للمخططات التي تستهدف وحدتها الوطنية وسيادتها.

من هنا، يمكن القول ان خطاب جلالة الملك محمد السادس بالرياض قد استطاع التعبير عن مصالح المغرب العليا بالترابط مع مصالح الأشقاء العرب ضمن احترام السيادة واعتماد مفهوم الشراكة الحقيقية في التعامل مع مختلف القوى الكبرى في مختلف بقاع العالم في اطار من الندية وتبادل المصالح ضدا على منطق التبعية أراد البعض ان يسود علاقاته مع دول العالم.

*الخميس 28 ابريل 2016

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…