يعني الحديث عن الآخر اكتشاف الذات لنفسها ولعلاقتها مع الآخر سياسيا واجتماعيا وحضاريا وثقافيا. وتقوم هذه العلاقة على أساس أن الذات هي الأصل والصواب، وأن الآخر هو الخطأ… وقد تكون العلاقة بين الأنا والآخر على حساب هذا الأخير، أو إلغائه لصالح الذات، حيث تقوم هذه العلاقة على ثنائية الأشياء، وعلاقة التضاد القائمة بينها، ما يستحيل معه الدمج بين طرفي هذه الثنائيات أو على الأقل التوفيق بينهما، مثل الخير والشر، والصواب والخطأ، وما إلى ذلك من العلاقات الثنائية والضدِّية التي تحكم منطق الأشياء. والصراع بين الأنا والآخر صراع طويل يعود إلى البدايات الأولى لوجود الإنسان على الكرة الأرضية، كما أنه يدخل في أخصِّ العلاقات الإنسانية. لذلك، فالعلاقات الإنسانية من حيث طبيعتها قائمة على أساس الاختلاف والتغاير لا التمازج والاندماج الكامل. وقد تقترب هذه الغيرية أو تبتعد بين الأطراف حسب طبيعة الثقافات والمصالح، ولكنها تبقى ولا تُلغى، كما أجاد التعبير عن ذلك الشاعر الألماني “غوتة”عندما قال: “أنا أحب الألمانية، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أحب الفرنسية، ولكني أفهم حقيقة أن الفرنسي يحب الفرنسية ويعيشها، ولا يمكنه أن يحب الألمانية كما يحب لغته القومية”.
وتشكل نظرة الأنا لنفسها، عندما ترى أنها الأكمل والأصوب والأفضل في حين ترى الآخر – أو تصوره – باعتباره الأنقص والأسوأ والأكثر ارتكابا للأخطاء، مَصْدرَ تعدُّد الأنا والآخر في مجالات السياسة والفكر والفلسفة والأدب والفنون، وما إلى ذلك من مجالات الحياة والمعرفة.
عندما تخلَّصَت مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الاستعمار، كان من المفروض في كل واحد منها أن ينخرط مباشرة في بِنَاء مجتمع حداثي ودولة قائمة على الحد الأدنى من الحريات والحقوق الطبيعية التي حرمها الاستعمار منها، لكن أنظمة الحكم الوطنية التي حلَّت محلَّ النظام الاستعماري، وبفعل ظروف تاريخية وثقافية، أعرضت عن ذلك، وأعادت إنتاج الاستبداد بأدوات محلِّية، وبقيت الأمور تقريبا على ما كانت عليه، فعاشت هذه المجتمعات تكلُّسا وفشلا سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا… وكان الشيء الوحيد الذي تم إنجازه عموما في هذه المرحلة هو بِنَاء أنظمة استبدادية. فعلى مدار حوالي ستين سنة تقريبا لم تنتج هذه المجتمعات سوى الركود والانحسار، فبقيت – وما تزال – بدون مستقبل واضح في وقت استفاقت فيه تقريبا أغلب الأمم في كافة القارات، وانطلقت في تحديث بلادها وبنائها ديمقراطيا، لكن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ظلت تشكل استثناء، إذ لم تنخرط بعد في هذا المسلسل للبناء، كما لم تفصل بعد بين الدين والدولة…
يمكن تفسير ذلك بعدة عوامل، لعل أبرزها العامل الثقافي الذي يلعب دورا أساسيا في ذلك. فالثقافة السائدة في مجتمعنا لا تعطي أي اعتبارا للفرد، ما يحول دون أن نكون ديمقراطيين، لأن الديمقراطية تنهض على أساس احترام الاختلاف والتغاير، حيث تكون الذات والآخر رغم اختلافهما جزءا من حقيقة واحدة يختلفان على تأويلها. لكن المشكلة في مجتمعنا مطروحة بصيغة مناقضة لهذه الأخيرة، لأن هناك اختلاف بين الذات والآخر حول هذه الحقيقة نفسها. لذلك، يخترق مجتمعنا تناقض صارخ بسبب تباين تمركز كل مٌكَوِّن من مكونات المجتمع حول حقيقته وانغلاقه فيها، وعدم اعترافه بباقي المكونات الأخرى. وهذا ما يحول دون بناء مجتمعنا ودولتنا ديمقراطيا، لأن هذا التناقض يعوق ذلك. تبعا لذلك، يكاد الآخر أن يكون غير موجود في ثقافتنا، حيث يتم تذويبه في الذات؛ فنحن لا نعترف بالآخر بكونه كامل الشخصية والحقوق مثل ما للذات شخصيتها وكامل حقوقها. لذلك فالعلاقة بين الذات والآخر هي العلاقة الشاذة التي يجب أن يٌعاد فيها النظر لكي تتحول من رغبة في إقصاء الآخر إلى الاعتراف به…
ولا يمكن للدِّين، كما يمارس اليوم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن يقدم أي حلّ لأي شيء بما في ذلك علاقة الذات بالآخر، لأن الإرهاب التكفيري حوَّله إلى مصدر للمشكلات والدمار. وفي موازاة مع ذلك، يمكن لأي ديمقراطي أن يقبل المواقف النائية عن الدين أو اللامبالية به، لأن الديمقراطية تحترم حرية الموقف والمعتقَد وتحميهما، كما أنه لا إكراه في الدين. في هذا الصدد، أرى أن الدِّين تجربة روحية شخصية، وبالتالي يجب فصله عن السياسة، حيث كلما استعمل الدين في السياسة أفضى هذا الاستخدام إلى العنف والإقصاء، ما يجرده من أبعاده الروحية ويحرِّفٌه ويقضي على ما يفيض منه من حب وجمال…
لكن عملية الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي ليست مجرد فكرة نظرية، بل تتطلب وقتا طويلا، لأن هناك تحالفا متينا بين دعاة الإسلام السياسي وأصحاب المال والسلطة، ولا يمكن تفكيك هذا التحالف في وَقْت وجيز، بل إن الأمر يتطلب مشروعا ثقافيا وسياسيا، وتأطيرا، وعملا ومثابرة ووقتا…
أضف إلى ذلك أنه ينبغي أن تكون علاقة الإنسان بخالقه علاقة حبّ كما يعيشها المتصوفة، حيث يجب أن تكون علاقة فردية. فالإنسان في حاجة إلى الإيمان ليحل مشكلاته مع الغيب، ما يستوجب الدفاع عن هذا الحق. لكن إذا تحوَّل الإيمان إلى مؤسسة، أو إلى سياسة، أو إلى نظام يُفرض على المجتمع بكامله، فإنه ينقلب إلى عدوان. فالدِّين قوي، ولا يخاف من الحرية، كما أنه يعترف بالآخر، ولا يمكنه أن يكون دينا بدون هذا الاعتراف، لأنه لن يكون هناك تواصل ولا إقناع، وإنما حروب مٌدَمِّرة تفضي إلى الخراب، في حين أن الدين في عمقه محبة وليس دمارا…
لم يعد اليوم ممكنا لدولة في هذا العالم المتغير، أن تنعزل عن المجتمع الدولي، وكأن في إمكانها بمفردها، أن تعيش حياتها بأسلوب يخصُّها في الحكم والإدارة… لذلك أصبح ضروريا أن يدرك العرب والمسلمون أنهم جزء من هذا العالم، وأنه ينبغي أن تكون ثقافتهم جزءا من ثقافته، وأن تكون مجتمعاتهم جزءا من المجتمعات البشرية التي خرجت من القرون الوسطى، وفصلت بين الدين والدولة، واعترفت للفرد بحرياته وحقوقه، أنثى كان أو ذَكرا… فصارت هذه الطريق كونية ينبغي أن نسلكها لنبني مجتمعا يقوم على المواطَنَة وثقافة حريات الإنسان وحقوقه…