استقرّ استخدام مصطلح الحكم الذاتي في العقود الأخيرة، للإشارة إلى الأقاليم التي تحظى بقدر من الاستقلال الذاتي مع الخضوع في عدد من الصلاحيات إلى سيادة الدولة المركزية، وبخاصة على مستوى تدبير الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية..
ويستمد الحكم الذاتي مقوماته من القانون الدستوري للدول، وقد اعتمدته العديد من الدول كسبيل لتدبير الاختلافات العرقية أو الثقافية داخل بعض الأقاليم، عبر منحها استقلالاً لممارسة مجموعة من الصلاحيات في إطار لامركزية سياسية تنبني على تقاسم السّلطات (التشريعية والقضائية والتشريعية)، تحت إشراف السلطة المركزية، وهو بذلك يجسد حلاً توفيقياً بين مطالب الاستقلال من جهة ومطالب فرض السيادة الكاملة، وهو وإن كان له مجموعة من المقومات والشروط المتعارف عليها عالمياً، فإن تطبيقاته ميدانياً، غالباً ما تتخذ أشكالاً متباينة تبعا لخصوصيات الدول ولدوافع اعتماده.

أمام الوضعية المأزومة والحرجة التي وصل إليها ملف قضية الصحراء، نتيجة لاستحالة تطبيق خيار الاستفتاء، وازدياد المخاوف من انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار المبرمة بين الجانبين (المغرب والبوليساريو) ومن إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية جديدة، بعد استقالة مبعوث الأمين العام الأممي المكلف بملف القضية «جيمس بيكر»، كان من اللازم والضروري البحث عن سبل جديدة تسمح بتذليل العقبات في أفق إيجاد حلّ يحظى بموافقة الطرفين، وبخاصة وأن الأمم المتحدة لم تخف رغبتها في طي هذا النزاع الذي كلف الكثير من الوقت والإمكانات.

وفي ظل هذه الأجواء التي طبعها الجمود، قام المغرب بطرح مشروع الحكم الذاتي، كأرضية بناءة عبر من خلالها عن رغبته الطوعية والفعلية في الطي النهائي للملف، وكاقتراح يستلهم عمقه من تجارب دولية واعدة، تدعم إخراج الملف من المأزق الذي وصل إليه.. وهو ما سمح بإعطاء دينامية حقيقية للملف.
لقي المشروع ارتياحاً كبيراً في أوساط الساكنين بأقاليم الصحراء، كما سمح بعودة عدد كبير من النخب الصحراوية المغتربة إلى المغرب، لقناعتها بجدية وواقعية المشروع، كما قوبل هذا الأخير باستحسان مختلف القوى الدولية الكبرى، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وفرنسا.. فيما ظل مجلس الأمن يشيد بدوره بهذه المبادرة ويعترف بجديتها وأهميتها على امتداد مجموعة من القرارات الصادرة بشأن الملف.
إن الحكم الذاتي هو شكل متطور من أشكال تقرير المصير، اعتمدته الكثير من الدول الديمقراطية على امتداد مناطق مختلفة من العالم.

وقد سبق للمبعوث الأممي السابق إلى الصحراء «فان فالسوم» الذي تابع تطورات الملف ووقف على خلفياته لأكثر من ثلاث سنوات، أن عبّر صراحة ضمن أحد تقاريره المقدمة إلى مجلس الأمن عن عدم واقعية إنشاء كيان مستقل في الصحراء..
إن كلفة الانفصال باهظة إقليميا ودوليا، وتشير حالة السودان إلى أن إحداث دويلات هشة، يسهم بشكل كبير في تفتيت الدول ويخلق أجواء من التوتر والفوضى وعدم الاستقرار الإقليمي والدولي.
لقد فوت المشكل فرصاً عديدة على المنطقة المغاربية برمتها، في زمن أصبح فيه التكتل خياراً استراتيجياً ملحاً، وكانت كلفته الاقتصادية على دول المنطقة ضخمة جداً.

إن إذكاء التوتر في منطقة شمال إفريقيا الاستراتيجية، لن يكون في صالح أي طرف، فخيار التسوية السلمية والبحث عن حل واقعي ومقبول لدى الطرفين؛ يفتح آفاقاً واسعة من التنسيق والتعاون بين دول المنطقة لمواجهة تحديات ومخاطر مشتركة، ولبناء الاتحاد المغاربي في زمن التكتلات الكبرى.
فقد أفرزت تحولات «الحراك العربي» إشكالات خطيرة طالت المنطقة المغاربية على مستوى تسرب الأسلحة الليبية وتمركز الجماعات الإرهابية وانتعاشها بالمنطقة.. علاوة على تحالف الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل .
ومن هذه المنطلقات الاستراتيجية، تكمن أهمية المبادرة التي طرحها المغرب في ظل المتغيرات والتحديات الإقليمية والدولية الراهنة، ذلك أن مناطق التوتر والأزمات، عادة ما تستقطب الجماعات المسلحة ومختلف المعضلات والتهديدات غير «الدولاتية» العابرة للحدود من هجرة سرية وتهريب..

إن أمن منطقة المتوسط الاستراتيجية رهين بأمن ضفتيه معا..، ومن تم فتنامي التهديدات في شمال إفريقيا، يتطلب وجود دول قوية في مستوى التحديات، فيما تظل كلفة الانفصال ضخمة – في كل الأحوال – على السلم والأمن الإقليميين والدوليين.

 

*عن صفحة الكاتب

       السبت 23 ابريل 2016

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…