يستنفر العالم اليوم لقتال داعش، وتتسابق الدول لإصدار القرارات التي تحد من دخول اللاجئين إلى أراضيها، ولا يمكن لعاقل إغفال ارتداد ما حصل في الآونة الأخيرة، سواء في باريس أم في انفجار الطائرة الروسية، عدا عن تفجيرات بيروت، على وضع المسلمين في العالم، ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في موضع شبهة، سواء كأفراد أم جماعات.

ورغم كل التحليلات التي تصدر عن وضع منفذي الهجمات وخلفياتهم، وما قد عانوه من عنصرية أو اضطهاد أو فقر أو تهميش وما إلى ذلك، وكل التحليلات التي تبحث عن المحرض والمستفيد، وكل نظريات المؤامرة وسواها، إلا أن ما لا يحتمل التحليل هو كون المنفذين شبان في مقتبل العمر أقدموا على تفجير أنفسهم بدوافع دينية بهدف قتل أناس لا ذنب لهم.

واليوم ونحن نرى في الإعلام البوارج تنتقل إلى البحر المتوسط من جهة، وجحافل اللاجئين تنتقل إلى أوربا من جهة أخرى، لا يسعني إلا القول أنه قد يتمكن التحالف العالمي من القضاء على داعش في سوريا والعراق في وقت قريب، لكنه لن يتمكن من منع ظهور غيرها على شاكلتها، فالمصدر الذي أخذت منه داعش أدبياتها موجود، وكما أنتج القاعدة وداعش ومثيلاتها سينتج غيرها، والأسباب لطالما كانت متوفرة، والصراعات لا تنتهي.

وكما يحدث دائماً يتبارى الغريب والقريب والقاصي والداني لنفي الشبهة عن الإسلام فيما يرتكبه هؤلاء المارقون، لكن علينا ألا ندفن رؤوسنا في الرمال، ولنملك الجرأة على الاعتراف أن ثقافتنا الإسلامية الموروثة تقبل كل ما يجري باسم الإسلام، ولا تنظر له بعين الاستنكار، فكلُ له ما يبرره.

فإذا نظرنا إلى الإسلام “المعتدل” الذي يتغنى المتشدقون بسماحته، نجد دعاته ينادون بمقاطعة الغرب الكافر، وعدم هجر ديار الإسلام مهما كان الوضع فيها مضنياً، لأن ديار الكفر تغرق في العهر والفجور، بينما ترزح ديارنا بالفضيلة والتقوى، وإن اضطررنا فعلينا ألا نصاحب أهل تلك البلاد بل نضمر لهم العداء والكراهية، ومهما حاول هؤلاء التخفي وراء مفهوم “الوسطية” إلا أنها بقيت تخريجة انتقائية، تستعمل عند اللزوم ووفق الظروف السائدة، وعلماؤنا الأفاضل أتقنوا اللعبة، ففي ظروف كالتي نعيشها حالياً تخرج آيات السلم والسلام والتآخي، وفي المدارس وحين وضع المناهج تدرس آيات القتال والحرب والجهاد دون أي تمييز بين ما هو تاريخي وما هو صالح لكل زمان ومكان، وبين المشركين في عصر النبوة والناس في العصر الحالي.

أما الإسلام المتشدد فله في الشيخ الأكبر “ابن تيمية” خير معلم، إذ قدمت فتاويه منهجاً متكاملاً في تكفير الناس وقتالهم وقتلهم بكل سهولة، ولأسباب تافهة غالباً، فمن لا يحضر صلاة الجماعة وهو قريب من المسجد يستتاب وإلا يقتل، ومن يجهر في النية بالصلاة يستتاب وإلا يقتل، والمسافر في رمضان يحرم عليه الصيام يستتاب وإلا يقتل، والأمثلة كثيرة، وهذا ينطبق على من يعتبرهم من المسلمين، أما الفرق الأخرى فيذهب بعيداً في تطرفه إلى أسوء ما يمكن، بحيث لا يترك لأحدهم ترف الاستتابة، فيقتل فوراً، في حين أن باقي الناس كل من بلغته دعوة رسول الله ولم يستجب لها، وجب قتاله.

وفيما اعتبر معاصرو ابن تيمية من رجال الدين أنه مثير للفتن والقلاقل وخارج عن الدين، حتى أنهم رفضوا دفنه في مقابر المسلمين، ودفن خارج سور دمشق، جاء الفكر السلفي ليتبنى أفكاره ويعطيها الأولوية، ورفعها على كل كتب الحديث الملفقة والصحيحة، وما نراه اليوم من أعمال إجرامية ما هي إلا منتج طبيعي لهذا الفكر، يجد في عقول الأطفال والمراهقين الضائعين أرضاً بوراً يزرع فيه أفكاره.

وقد يتساءل البعض عن هذه الأعداد الهائلة من الانتحاريين الذين يقدمون على قتل أنفسهم وقتل الناس معهم، فالسبب يكمن في الإيديولوجيا السائدة، حيث رسخت فكرة العبودية في الأذهان، إذ من الطبيعي أن يرمي الإنسان نفسه وغيره إلى التهلكة، ويلقي اللوم على الله الذي كتب ذلك منذ الأزل، والله في هذه الثقافة هو حاكم مستبد، سادي يتربص بالعباد ليلقي بهم إلى جهنم، فيحصي عثرات المؤمنين به، أو كشيخ قبيلة يقبل الوساطات والأعطيات، وإلا يعاقب الناس على أقل خطأ، وهذا ما رواه البخاري في صحيحه “عن أنس بن مالك قال النبي (ص): لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول: قط قط وعزتك ويزوي بعضها إلى بعض.”، وهذه الفكرة البدائية عن الإله جعلت المسلم يتربى على الخنوع، ابتداءً لسلطة الأب ثم إلى سلطة المعلم، إلى سلطة الحاكم وأجهزته القمعية، فإذا مات وجد بانتظاره أنكر ونكير والشجاع الأقرع يذيقونه العذاب، ثم يبعث في يوم القيامة فيقف ألف سنة تحت الشمس ينتظر التحقيق، ثم يأتي بعدها الصراط الذي هو أحد من السيف وفيه كلاليب وتحته النار، لذلك فمن يفجر نفسه يوفر عليها كل ذلك، ويذهب مباشرة حسب زعمه وزعم شيخه إلى الجنة ليجد الحور العين بانتظاره، فينجو من النار، لا سيما إذا قتل آخرين كفار يستحقون القتل.

إضافة إلى ذلك، فإن ثقافتنا الموروثة غرست في أذهاننا فكرة الفرقة الناجية، ففي الحديث المنسوب إلى رسول الله، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم؟ قال الجماعة”). فراوي هذا الحديث اعتبر الله هو إله الشرق الأوسط فقط، وبالتالي كل أهل الأرض سواء من الهندوس أم البوذيين أم الملحدين أم المسيحيين أم اليهود أم الفرق غير الناجية من أمة محمد، كل أولئك في النار، وبالتالي لا مانع من قتلهم، وللأسف هذه الإيديولوجيا عقيمة والإيمان بها، هو أحد أسباب ما نحن فيه.

والسؤال الذي يجب طرحه على أنفسنا هو ما علاقة الإسلام بهذا الذي تحدثنا عنه؟ أقول لا توجد أي علاقة، وكل ما قلناه هو دخيل تم تلفيقه على مدى العصور وجرى لصقه بالإسلام من قبل الفقهاء، فالرسالة المحمدية أتت رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) لا إرعاباً لهم، وللعالمين جميعاً لا للعرب فقط، والإسلام الذي اكتمل مع محمد لا عبودية فيه لأحد، حتى الله تعالى لم يطلب فيه العبودية لنفسه، بل طلب العبادية، أي حرية الإنسان في الطاعة والمعصية، يختارها بكامل إرادته ليكون مسؤولاً عنها أمام الله، ودنما إكراه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256)، كذلك تراكمت من خلاله القيم الإنسانية، وشكلت مرجعية أخلاقية يقبلها كل أهل الأرض، أساسها العمل الصالح، والحرام فيها بيّن، أحد أهم بنوده {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الأنعام 151) و {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة 32)، لا يحوي فرقة ناجية وأخرى غير ناجية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات 13)، وتحديد الأتقياء بيد الله وحده لا أحد غيره {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، أما علاقة المسلمين مع غيرهم فتقوم على السلم {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (النساء 86) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} (النساء 94).

أما {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (البقرة 191) وآية السيف {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة 5) فهي تاريخ نفهمه ضمن سياقه وظروفه، علماً أن الرسول (ص) لم يبادر إلى قتال، بل رد العدوان، وكل شعوب العالم في تاريخها صور مشابهة، لكنها اندثرت ولا تطبق بعد مئات السنين، فتطبيق آيات سورة التوبة في عصرنا، يماثل محاولة يهودي شق البحر بعصا كعصا موسى.

بالنهاية سنقف يوم القيامة بين يدي الله ونحن مسؤولون بطريقة أو بأخرى عن صورة الإسلام التي نقدمها للعالم، وعن النفوس البريئة التي تزهق باسمه، إما ذلك أو علينا إعلان القطيعة مع الموروث الفقهي الذي أوصلنا إلى هنا، فصحيح البخاري ومسلم وفتاوى الشافعي وابن حنبل وابن تيمية وغيرهم حملت أكاذيب لا تمت للحقيقة بصلة، ولو أن شرورها اقتصرت على فقه الطهارة والنجاسة لكان خيراً، إلا أنها تجاوزت ذلك إلى ما هو أبعد بكثير.

أخيراً أوجه ندائي إلى المسلمين المؤمنين بالرسالة المحمدية ليعلموا أن دولة الخلافة ذهبت ولن تعود، كما ذهب لدى المسلمين النصارى زمن تعيين الملوك من قبل البابا ولن يعود، كذلك أقول للمسلمين اليهود إن ملك داوود وسليمان ذهب ولن يعود فلا تبحثوا عن الهيكل فلن تجدوه.

 

*عن موقع  : د . محمد شحرور

‫شاهد أيضًا‬

تيار التجديد وأسئلة المرحلة * بقلم : د. حسن حنفي

  نشأت في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر ثلاثة تيارات فكرية واختيارات سياسية، م…