1- البداية من المتحف …!
تهدف هذه المحاولة إلى مناقشة موضوع من أكثر الموضوعات التي شغلت وتشغل الفكر العربي الحديث والمعاصر: موضوع علاقة الماضي بكل من الحاضر والمستقبل. وبما أن معظم الكتابات العربية التي تناولت وتتناول هذا الموضوع هي –على العموم- كتابات “خطابية” (=تقوم على الدعوة إلى رأي جاهز، وبالتالي على السجال الذي يرفض الرأي الآخر أو يسعى إلى إبطاله)، فإن النتيجة هي أن جوهر الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع، وهي إشكالية فلسفية عميقة الأغوار، يقع تسطيحها وبالتالي الانحراف بها، بقصد أو بدون قصد، إلى عالم اللبس والتزييف والمغالطة!
إن محاولتنا هذه تريد أن تعالج الموضوع في إطاره الفلسفي وفي سياق التطور التاريخي. ومن أجل ذلك سننطلق من سؤال منهجي واضح يعقبه استهلال توضيحي للإشكالية المطروحة، لنعود بعد ذلك إلى “صلب” الموضوع، وهو صلب حقا، لن ندخر جهدا في تليينه.
أما السؤال المنهجي فنصوغه صياغة مبسطة كما يلي: متى بدأ الناس يوظفون الماضي في النظر إلى المستقبل؟ ومتى بدءوا يوظفون المستقبل في نظرتهم إلى الماضي؟ وبعبارة أخرى: متى صار الناس يفكرون في المستقبل بوصفه يمثل، بشكل من الأشكال، تجاوزا للحاضر والماضي؟
هذا سؤال حديث، بدون شك. أعني بذلك أنه يطرح إشكالية تنتمي إلى الفكر الأوربي في العصر الحديث. وسنرى فيما بعد كيف طُرِح أول مرة في هذا الفكر، وكيف تطور التفكير فيه داخل الفلسفة أولا، لينتقل بعد ذلك إلى عالم الإيديولوجيا والفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي.
حقا، إن تاريخ فكرة “المستقبل” يبدأ مع ظهور فكرة “التقدم” في الفكر الأوربي في القرن السابع عشر، وسيادتها على الفكر الفلسفي في الثامن عشر. ومع ذلك فلكل ذي تاريخ “ما قبل تاريخ”. فلنبدأ إذن بـ “ما قبل تاريخ” هذه الفكرة فهو أسهل بسطا وأقرب إلى الفهم عند غير المتخصصين، وسيكون ذلك فيما أعتقد مقدمة مناسبة لـ “إثارة الشهية” للموضوع!
كنت في زيارة للبحرين بدعوة من “نادي العروبة” عام 1992، وكان برنامج الزيارة يشتمل، من بين مواد أخرى- على محاضرة بعنوان “مستقبل العرب في ظل النظام الدولي”. وقد شاءت المصادفة أن يكون وقت إلقاء المحاضرة عقب زيارة لمتحف البحرين، بحيث انتقلنا منه إلى مكان المحاضرة مباشرة. وشاءت المصادفة أيضا أن يكون أول شيء بدأنا به زيارتنا لأروقة المتحف رواق كان عبارة عن “مدخل” رتب بكيفية معينة، ذكية، عرضت فيه على التتابع معروضات ثلاثة شدت انتباهي بصورة خاصة، نظرا لانشغال فكري بموضوع المحاضرة، “مستقبل العرب…”، فأخذت أقرأ، بدون شعور، تلك المعروضات تحت تأثير فكرة “المستقبل”. ثم ما لبث أن تحولت أشياء ذلك الرواق/المدخل إلى مدخل للمحاضرة التي كلفت بإلقائها. وهكذا قدمت للمحاضرة بالعبارات التالية:
قلت بعد التحية والشكر وعبارات بالمناسبة : “… وقد زرت صباح اليوم متحف البحرين، ولفت انتباهي ثلاثة أمور:
الأمر الأول قبور عليها بقايا عظام وبجانب هذه البقايا أواني الطعام. كان الناس يدفنون موتاهم ويضعون إلى جانب رؤوسهم طعاما ليأكلوه في “المستقبل”. ذلك دليل على أنهم كان يفهمون المستقبل على أنه حياة أخرى تأت بعد “نوم” يسمى الموت. وبالتالي فالميت/النائم سيستيقظ يوما، كما يستيقظ الحي/النائم في الصباح، وسيحتاج ليأكل!
أما الأمر الثاني فقد لفت نظري عندما تقدمنا قليلا داخل المتحف فوجدتني فجأة، اقرأ في عدد من جريدة معلقة على الجدار اسمها “البحرين”، وكان مؤرخا، إذا لم تخني الذاكرة، بـسنة 1939، وفي صفحته الأولى مقال رئيس بعنوان “الوحدة العربية…”.
وأما الشيء الثالث الذي شدني إلى هذا المتحف فهو تلك الرغبة الصادقة والمشروعة في إبراز خصوصية الشعب البحريني في ثقافته العملية وأسلوب حياته، ونضاله اليومي من أجل قوته ومن أجل بلده”.
ثم أضفت:
“فإذا تعاملنا مع هذه الأشياء الثلاثة على أنها رموز أمكن القول إنها تلخص المحاضرة التي أنوي إلقاءها. فالمشهد الأول الذي يتألف من بقايا أجسام موتى وبجانبهم أواني الطعام يمكن أن نقرأ فيه -ولو أن المسافة بيننا وبين أشيائه مسافة طويلة تعد بمئات القرون- مظهرا من مظاهر تشبثنا بمستقبلنا، ولكن مستقبلنا كأفراد: كل فرد لـه “قبره” وأوانيه. والواقع أننا، نحن العرب، ما زلنا نفكر في المستقبل بطريقة فردية، أشخاصا وأقطارا! مازلنا نفكر في المستقبل وكل منا يريد أن يحمل معه جرته وحده، ليأكل بمفرده، وكأن المستقبل هو للفرد وليس للجماعة.
ومع ذلك فـ”نحن العرب” نقول عن أنفسنا إننا مدعوون إلى الارتفاع بهذا المستقبل الفردي إلى مستوى العنوان الذي قرأته في جريدة “البحرين”، إلى مستوى “الوحدة العربية”. فهذا العنوان يقدم لنا نفسه اليوم كرمز آخر لمستقبل آخر، ولتفكير آخر للمستقبل الجماعي. إذن نحن مطالبون بالارتفاع من المستقبل الفردي -واقصد بالفرد هنا الفرد كفرد، والفرد كقبيلة، والفرد كقطر- نحن مدعوون إلى الارتفاع بتفكيرنا وبتمسكنا بالمستقبل الفردي، الشخصي والقبلي والقطري، إلى مستقبل جماعي يجد إطاره في “الوحدة العربية”.
يبقى العنصر الثالث الذي لفت انتباهي في هذا المتحف وهو الشخصية القطرية، شخصية القطر الذي يحكي المتحف تاريخه، شخصية “البحرين” نفسها التي يجب أن تبقى معبرة عن إبداعاتها، عن آلامها وآمالها وطموحاتها وشخصيتها، في إطار الوحدة المنشودة. الوحدة لا تعني أن الأخ الكبير يجب أن يدخل في جلبابه الاخوة الصغار! كلا. الوحدة لا تعني القفز على واقع أصبح الآن واقعا نفسيا واجتماعيا واقتصاديا فضلا عن كونه سياسيا ودوليا. إنه واقع الدولة القطرية التي تبني كيانها القطري، ليس بالمخططات التي تخطط المستقبل فحسب، بل وبالمتاحف أيضا، المتاحف التي تعيد بناء الماضي و”تخطط” له”.
بعد هذا المدخل الأول انتقلت إلى مدخل ثان عندما بدأت أتحدث عن مفهوم “المستقبل” في عبارة العنوان: “مستقبل العرب في ظل النظام الدولي”. فكان مما قلته: “التفكير في “المستقبل” بالمعنى الذي نتحدث به عنه اليوم شيء جديد تماما في تاريخ البشرية! في الماضي البعيد -بعدا حضاريا وليس بالضرورة بعدا زمانيا- كان المستقبل هو ذلك الذي تمثله في المتحف تلك القبور التي مازالت تحتفظ ببقايا عظام إنسان ومعه طعام يأكله، عندما يستيقظ، عندما يبعث. كان المستقبل “ما ورائيا”، يأمل فيه الناس في حياة أخرى يشخصونها تشخيصا. وهذا واضح في متاحف الأقطار التي كانت لها حضارة قديمة وبقيت منها عاديات، مثل البحرين والعراق ومصر الخ.
ثم جاءت الديانات السماوية لترتفع بهذه الصورة المجسمة للمستقبل بعد الموت، إلى مستوى أرفع، مستوى روحي. لكن التفكير في معظمها بقي مع ذلك يتحرك في أفق “الفرد” وحده. الفرد الصالح يدخل الجنة بمفرده، لا أحد يضمن لأبيه أو أمه أو زوجته أو صديقه الخ، أن يدخل معه الجنة. المستقبل في الآخرة مستقبل فردي.
في الديانات الوثنية، كالديانات الشعبية عند اليونان مثلا، لم يكن هناك مستقبل ما ورائي منفصل عن الدنيا، لقد كانوا يتصورون الزمان دائريا، فربطوا مصير الإنسان بحركات الفلك. الفلك يدور و”الدنيا” تدور معه. والدوران على محيط الدائرة يقتضي أن يعود الشيء الدائر، في لحظة معينة، إلى كل نقطة فيها. وبما أن العالم تدبره حركة الأفلاك وهي دوائر وهمية في السماء، فإن كل ما حدث فيه، في لحظة معينة سيحدث هو نفسه مرات ومرات. وقد بقي هذا التصور حيا في الفلسفة اليونانية، ولكن بصورة أكثر تجريدا.
أما اليهود الذين يعتبرون أنفسهم “شعب الله المختار”، والذين جعلوا الله راعيا لهم وحدهم، -هم وحدهم رعيته وقطيعه بالتعبير العبراني- فمستقبلهم، كما يعتقدون، هو في “الأرض الموعودة” (فلسطين)، يعيشون على أمل مستقبل جماعي في “الأرض الموعودة” التي ينتظرون…
أما المسيحية فـ”المستقبل” عندها، أعني مستقبل معتنقيها، مرتبط بالخلاص من “الخطيئة الأولى”. وهذا الخلاص يتم على خط زمني متصاعد كلما ارتقى فيه الإنسان اقترب من “يسوع” وضمن لنفسه الخلاص.
وأما الإسلام فهو دين ودنيا، والمستقبل فيه مستقبلان: مستقبل الفرد على صعيد الدين وهو في الآخرة، هو وحده مسؤول عن أعماله وهو وحده الذي سيجازي عنها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. لكن الإسلام ليس دين الفرد فحسب، بل هو دين الأمة أيضا. إن من خصوصيات الإسلام أنه جاء بفكرة الأمة، وهي مفهوم لا يتقيد بقبيلة ولا بجنس، أمة الناس كافة، أعني المؤمنين به. وهدف الإسلام على هذا المستوى هو أن يجعل من الأمة الإسلامية “خير أمة أخرجت للناس”. وهذا نوع من المشروع المستقبلي. لكن مع ذلك لا يمكن أن نقول إن المسلمين في القرون الوسطى فهموا المستقبل كما نفهمه اليوم. نعم كان هناك دوما مستقبل مرتبط بتبليغ الرسالة والنضال من أجلها، بل كان هناك نوع من التخطيط لمستقبل الأمة في الدنيا، كما فعل عمر بن الخطاب عندما عدل عن تقسيم أرض سواد العراق بين المقاتلين الفاتحين وفضل تركها كما هي مع فرض الخراج عليها، مبررا قراره بالتفكير في المستقبل، مستقبل الأجيال القادمة. وهذا نوع من “التخطيط” للمستقبل، بدون شك.
ومع ذلك فالتفكير للمستقبل بالمعنى المعاصر هو شيء جديد تماما، نظرا للتطور الذي حصل. ذلك أن فكرة “المستقبل” في الفكر الحديث ترتبط بفكرة أساسية وهي فكرة التقدم التي ظهرت في أوربا خلال القرن السابع عشر وانتشرت في القرن الثامن عشر. فعندما أخذت أوروبا تتقدم علميا وتكنولوجيا وثقافيا وفكريا، وصار الجديد شيئا يلمس في كل مجال، برزت فكرة “التقدم”، لا بوصفها تحيل إلى تقدم الفرد أو الجماعة فحسب، بل بوصفها تعبر عن اتجاه التاريخ، تاريخ البشرية كلها. ومن هنا ذلك الفرع من المعرفة، أو قل ذلك “المبحث” من الفلسفة الذي أطلق عليه “فلسفة التاريخ”، والذي في إطاره سنتحرك ملتمسين الجواب عن السؤال الذي طرحناه في مدخل هذا المقال ، والذي صغناه كما يلي”: “متى بدأ الناس يوظفون الماضي في النظر إلى المستقبل؟ ومتى بدءوا يوظفون المستقبل في نظرتهم إلى الماضي؟ وبعبارة أخرى: متى صار الناس يفكرون في المستقبل بوصفه يمثل، بشكل من الأشكال، تجاوزا للماضي والحاضر؟”.
2- مفهوم “التقدم” … والرجوع إلى أصل المسألة..!
إذا نحن انتقلنا بهذا السؤال إلى فضاء تاريخ الفكر الفلسفي فإننا سنحصل على جواب نلخصه في الفقرات التالية (قبل الانتقال إلى الخوض فيه بتفصيل):
لم يبدأ المستقبل –كما ننظر إليه اليوم- يدخل في دائرة المفكر فيه في الفكر الفلسفي إلا مع النهضة الأوروبية، وبالخصوص في القرن الثامن عشر مع ظهور “فلسفة التاريخ” في ألمانيا مع كل من هردر وكانط وهيجل، هؤلاء الذي أعطوا للتاريخ معنى من خلال فكرة “التقدم”.
ومن أجل التأسيس لهذا المنطلق ارتأينا التذكير هنا بما ميز به كل من هردر وكانط تصورهما للتاريخ عندما صرَّحا، في إطار السجال الذي قام بينهما، بأن المهم ليس ما يختلفان فيه بل المهم –في نظرهما- هو أن لا تصير فلسفتهما للتاريخ على “طريق ابن رشد”، الذي تصور “التقدم” على أنه عملية تتم على صعيد “النوع” الإنساني، بينما يرى هذا الفيلسوفان أن التاريخ الذي هو مسرح للتقدم والذي يشكل موضوعا لفلسفة التاريخ، هو التاريخ البشري كما يتشخص في الحضارات المتعاقبة. ومن هنا السؤال الذي يفرض نفسه علينا تاريخيا، وهو: لقد دعا هردر وكانط إلى تدشين قطيعة مع ابن رشد، فلماذا لم يفعل هذا الأخير مثل ذلك مع أفلاطون، مع أنه خالفه في مسألة أساسية، وهي رفضه ليأسه –يأس أفلاطون- من إقامة “المدينة الفاضلة” على الأرض، بينما يرى هو –ابن رشد- بأن ذلك ممكن “في زماننا هذا وبلدنا هذا”، يقصد الأندلس في عصره؟
كان لابد أن يؤدي بنا هذا السؤال –الذي يستعيد أفلاطون- إلى طرح التصور اليوناني الدائري للزمن والتاريخ (الذي لا مكان فيه للتقدم بل كل شيء يدور ويتكرر)، وهو التصور الذي بقي سائدا، بهذه الدرجة أو تلك عند مفكري الإسلام بما فيهم ابن رشد، وابن خلدون أيضا، كما بقي سائدا في أوروبا نفسها طوال العصور الوسطى إلى عصر النهضة، ولم تتخلص منه نهائيا إلا مع الفيلسوف الألماني إيمانوييل كانط الذي أدخل بصورة حاسمة مفهوم “التقدم” في التاريخ. وكان ذلك، بطبيعة الحال، نوعا من التعبير عن التحول التاريخي الكبير الذي كانت أوروبا مسرحا لـه في زمانه: الثورة العلمية (نيوتن) والثورة الصناعية، خاصة في بريطانيا، والثورة السياسية الاجتماعية (الثورة الفرنسية).
ومع أن التقدم الذي كان حقيقة ملموسة في الميادين العلمية والصناعية والسياسية قد قطع نهائيا -أو كان يعني على الأقل- القطيعة مع الوضع السابق، فإن نقل مفهوم “التقدم” إلى ميدان التاريخ، -وهذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة التاريخ الألمانية أو الإيديولوجية الألمانية بتعبير كارل ماركس- كان يعني إعادة بناء التاريخ بالصورة التي تجعل من الحاضر، وبالتالي المستقبل، نتيجة طبيعية للماضي. ومن هنا دخل “الماضي”، لأول مرة في التاريخ، كعنصر ضروري في كل تفكير في المستقبل، وصار التفكير في “الماضي” أي كتابة التاريخ، وبالأحرى فلسفته، موجها هو الآخر بحاجةِ المستقبل إليه. وبدون هذا النوع من “شهادة” الماضي لفائدة المستقبل، و”حاجة” الماضي نفسه إلى إسقاط المستقبل عليه نوعا من الإسقاط، لم يكن من الممكن التبشير بمستقبل للإنسانية تتحقق فيه الحرية والعدالة وكل صنوف “التقدم”، كما فعل كانط وفلاسفة الأنوار عامة.
كان ذلك هو محور ما عرف بـ”فلسفة الأنوار”. إنه “الحداثة” باختصار. وبما أن “التاريخ” لا يسير دائما حسب تصور الناس ولا حسب رغباتهم، فقد تبين بسرعة، من خلال الأحداث والوقائع، أن “الأنوار” لم تف بوعودها وأن “الحداثة” قد خانت قضيتها، وأن تصحيح الوضع أصبح يتطلب إعادة الاعتبار للفرد وحريته وتلقائيته ومعقولـه ولامعقولـه، وبالتالي التحرر من هيمنة فلسفة “التاريخ” وأوهامها. ومن هنا “النزعة الوضعية” ونزعة “ما بعد الحداثة”، في آن واحد!
هذا الطرح التاريخي لإشكالية علاقة المستقبل بالماضي والماضي بالمستقبل، قد مكننا في هذه المحاولة من النظر إلى الموضوع من زاوية النسبية. وهكذا ميزنا بين هذه الإشكالية كما تطرح في الغرب، وبين الوضع في العالم الثالث، لنختم بالنظر إلى الموضوع من خلال معطيات ما يعرف اليوم بـ “العولمة”. وفي هذا المجال خلصنا إلى نتيجة نعتبرها أساسية وهي أن الرغبة في التحرر من قيود الماضي أو من أوهام المستقبل أو منهما معا، يجب أن لا تنسينا الحاضر. ليس فقط لأن عملية التحرير المطلوبة لا يمكن أن تتم إلا في “حاضر”، بل أيضا لأن ما يجعل المستقبل مرهونا للماضي ليس هو الماضي نفسه بل حاجة الحاضر إليه، تماما مثلما أن ما يدفع إلى إسقاط طموحات المستقبل على الماضي ليس المستقبل نفسه، بل عجز الحاضر عن تحقيقها.
وما يطبع حاضرنا اليوم –في عصر العولمة- هو فعلا هذه الثورة التي لم يسبق لها مثيل على مستوى الاتصال ونشر المعلومات، والتي من خصائصها أنها بصدد إنشاء جيل محرر من “الماضي” تماما: من الانتماء الجغرافي والتاريخي والثقافي، وباختصار من الانتماء القومي. هذا صحيح، ولكن هذا ليس إلا أحد وجهي عالم “العولمة”. أما الوجه الآخر فهو ذلك الجيل الأكثر عددا والذي تعج به شوارع بلدان العالم الثالث، وأيضا أحياء مدن العالم “الأول” –المتقدم المصنع- الجيل الذي يعاني من الفقر وسوء التغذية ومن الأمية والبطالة الخ. وبما أن هذا الجيل من أبناء الفقراء لا يرى أي بصيص من النور في “المستقبل الآتي”، فهل يمكن أن نحول دونه ودون الاستلاب في “المستقبل الماضي”؟
ممكن. ولكن شريطة أن يكون ذلك مرفوقا بتحسين أوضاع الحاضر.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى يبدو أن الجوانب الإيجابية في “العولمة” لن يكون لها ذلك الدور المأمول منها في تعميم المعرفة إلا إذا تحررت المعرفة من الاحتكار الذي تمارسه الدول المصنعة، وبالخصوص منها الرافعة شعار العولمة مقرونا بسلوك يستهدف الهيمنة على العالم.
بعد هذا الجواب/ الخلاصة على السؤال الذي طرحناه أعلاه ننتقل إلى تفصيل ما أوجزنا منطلقين من الوجه الفلسفي “الخالص” للمسألة، فنتساءل: ما هي حقيقة العلاقة، التي أشرنا إليها أعلاه، بين ابن رشد من جهة والفيلسوفين الألمانيين، هردر وكانط، من جهة أخرى، وهما اللذان يعتبران المؤسسين لفلسفة التاريخ في الفكر الحديث، التي في إطارها تطرح العلاقة بين الماضي المستقبل؟
للجواب عن هذا السؤال يجب أن نعود إلى شرح فيلسوف قرطبة لـ”كتاب النفس” لأرسطو، وهو الكتاب الذي يحيل إليه في كتبه الأخرى بوصفه يتضمن رأيه النهائي في المسائل التي تركها أرسطو معلقة، وبالخصوص منها طبيعة ذلك الجزء من النفس البشرية الذي سماه أرسطو بـ “العقل بالقوة” intellect en puissance وعُرف عند شراحه بـ”العقل الهيولاني” أو “المادي” intellect materiel، والمقصود: ذلك الجزء من العقل البشري الذي هو عبارة عن الاستعداد لتقبل المعقولات intelligibles، أي المفاهيم والتصورات والأحكام التي ليس لها وجود حسي.
وبما أن كل “ما هو بالقوة” en puissance (أي ما وجوده ممكن فقط وليس قائما بالفعل) لابد له من ذات أخرى تنقله إلى الفعل en acte ، حسب المنظومة الأرسطية، فإن تحول هذا “الاستعداد العقلي” في الإنسان إلى “عقل بالفعل” يمارس فعالياته العقلية يحتاج إلى عقل من مرتبة أعلى يقوم بهذه المهمة، سمي بـ “العقل الفاعل”” intellect agent. وقد قطع أرسطو في أمر هذا العقل الأخير، فقال عنه إنه “مفارق séparé ، ليس مختلطا بالمحسوسات أصلا، وبالتالي فهو لا يفنى بفناء المحسوسات، بل من طبيعته أنه خالد أزلي، لا يفسد ولا يفنى بفناء أشخاص النوع الإنساني. وقد جعل منه بعض شراح أرسطو الإله نفسه، بينما جعل منه آخرون كائنا إلهيا في مرتبة أدنى من الله.
أما “العقل الهيولاني”، أي الذي حاله حال “القوة” والاستعداد، فقد جاءت عبارة أرسطو عنه غامضة تحتمل القول بفساده corruption وعدم أزليته وتحتمل العكس -على الأقل في الترجمة العربية التي اشتغل عليها ابن رشد.
تصدى ابن رشد لهذه المشكلة فحلل كعادته آراء شراح أرسطو السابقين، مثل الإسكندر الإفروديسي d’Aphrodise Alexandre وثامسطيوس Thémistius ، وبين مواطن الضعف فيها وانتهى إلى رأي خاص يقول بأزلية العقل الهيولاني، ولكن دون أن يعني ذلك أنه يقع خارج النفس البشرية. فالعقل الإنساني واحد عند ابن رشد. وما نسميه العقل الهيولاني، والعقل الفاعل أو الفعال، والعقل بالفعل أو المكتسب، ليس سوى مظاهر ثلاثة للنفس العاقلة، توجد كلها داخل النفس وليس خارجها وهي واحدة في حقيقتها، وإنما تتبدَّى في صورة “العقل بالقوة” باعتبار، وفي صورة “العقل الفاعل” باعتبار، وعلى هيأة “عقل بالفعل” باعتبار آخر.
والمشكلة التي تعترض القول بأزلية العقل الهيولاني –وهو، كما قلنا، ذلك الاستعداد الذي في النفس لأن يصير عقلا بالفعل يمارس عملية التعقل- هي أن أفراد البشر الذين يتميزون كنوع، بالعقل، تفنى أجسادهم وبالتالي يفنى معها كل ما يرجع في عقولهم ومعارفهم إلى الإحساسات والمحسوسات. فكيف يمكن تصور أزلية العقل البشري أو جزء منه أو مظهر من مظاهره والحالة هذه؟
3- كيف فكر فلاسفة الألمان في فلسفة التاريخ تحت مظلة ابن رشد!
انتهى ابن رشد من مناقشة الإشكالات المنطقية التي تعترض القول بأزلية “العقل الهيولاني” إلى تقرير أن العقل الذي يسمى بهذا الاسم هو بمثابة “المكان” للمعقولات النظرية، ويعني التصور الذي تعطيه الفلسفة البرهانية –فلسفة أرسطو- عن الكون. ومعلوم أن المكان والمتمكن فيه يشكلان كلا واحدا، وبالتالي فليس العقل الهيولاني هو وحده أزلي، بل المعقولات النظرية أيضا أزلية. والمعقولات النظرية ليست شيئا آخر غير الفلسفة، وبكلمة أوضح المعرفة “العلمية” بحقيقة الوجود. والقول بأزلية العقل الهيولاني وبخلود الفلسفة بهذا المعنى، يستلزم خلود الإنسان، لأن المعرفة “العلمية” بحقيقة الوجود هي من اختصاص الإنسان، ولكن لا الإنسان كفرد بل الإنسان كنوع، الإنسان الذي يتحدد بقولنا: “حيوان عاقل”. فهو إنما يكون “عاقلا” بحصول المعقولات فيه.
كيف يمكن تصور ذلك؟
كان ابن رشد قد أدلى قبل خوضه في مسألة العقل برأي طريف في مسألة الوجود التي كان النزاع فيها بين الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين يدور أساسا حول ما إذا كان العالم قديما أزليا، وهذا رأي الفلاسفة، أم أنه حادث مخلوق من عدم كما يقول المتكلمون؟ وفي رأي ابن رشد أن العالم ككل لا يمكن أن يقال فيه إنه حادث لأن ما نعرفه ونشاهده هو أن العالم مسرح للكون والفساد génération et corruption: أشياء تتكون وأخرى تفسد، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نحكم بذلك على عالم السماء لأنه ليس موضوعا لمشاهدتنا، وبالتالي فأليق شيء بالعالم ككل، أن يقال عنه –يقول ابن رشد- لا إنه قديم ولا إنه حادث، بل إنه “دائم الحدوث”، أو إنه في “حدوث دائم”.
وقد طبق ابن رشد مفهوم “الحدوث الدائم” على مسألة العقل التي أثرناها أعلاه فقال: إنه إذا كان القول بأزلية العقل الهيولاني وأزلية الفلسفة يؤديان إلى القول بخلود النوع الإنساني، فإنه لا شيء يمنع من قبول ذلك، خصوصا إذا فهمنا الخلود على أنه الحدوث الدائم. وهكذا يمكن أن نفترض أن “المعمورة” لا تخلو من إنسان يكون عن إنسان عن إنسان الخ، كما يكون الحصان عن حصان الخ. وإذا كان الربع الجنوبي من الأرض خاليا من السكان كما يقال، فالأرباع الأخرى لا تخلو من النوع البشري، خصوصا وقد ثبت أن الإقليم المعتدل (حوض البحر البيض المتوسط) صالح لسكنى بني الإنسان؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كان الوجود البشري يقتضي قيام صناعات طبيعية بها يستقيم وجوده، فمن الممكن أن نتصور وجود صناعة الفلسفة ملازمة لوجود الإنسان. أو ليست الفلسفة نظرا عقليا، والعقل هو ما يميز الإنسان؟ أليست الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، وهذا نزوع ملازم للإنسان؟ ويذهب ابن رشد إلى أبعد من ذلك فيقرر أن التقدم في الفلسفة، أي في فهم العالم، ممكن من حيث أن الناس يمكن أن يتعاونوا على ذلك، وأيضا من حيث أن الخلف يستفيد مما يتركه السلف، وبعبارته هو: إن “دور السلف هو أن يكون معينا للخلف” في التقدم على صعيد المعرفة.
عندما وصلت في قراءتي لكتاب ابن رشد المعروف بـ”الشرح الكبير لكتاب النفس” إلى هذه النقطة تذكرت المساجلة التي قامت بين المفكرين الألمانيين الكبيرين، هردر وكانط، حول التصور الذي ينبغي أن تنبني عليه “فلسفة التاريخ”، وقد كانا بصدد تشييدها. كان كانط قد كتب في نوفمبر من سنة 1784 مقالة بعنوان “فكرة من أجل تاريخ عام من منظور كوني” عرض فيها وجهة نظر جديدة في التاريخ تقوم على فكرة التقدم -وهي الفكرة التي تأسس عليها الفكر الأوربي منذ ذلك الوقت- فقال: إن التقدم يسري عبر التاريخ بخطى بطيئة ولكن متصلة، وأن هذا التقدم يتم على مستوى قدرات الإنسان الأصلية وأنه لا يظهر بصورة صريحة في الفرد بل هو يتحقق في النوع الإنساني”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان معاصره وصديقه هردر قد شبه الحياة الإنسانية بالكائن الحي الذي وُضع تصميمُه بحيث يتمكن من خلق كائنات عليا تنمو من داخله، فانتقد كانط هذا التصور وقال عنه إنه يحمل جميع عيوب “الفلسفة التأملية” التي يتجاوز طموحها حدود العقل الإنساني.، فرد عليه هردر منتقدا فكرته حول التقدم الذي قال عنه إنه “يتحقق عبر النوع الإنساني” فكتب يقول في كتابه “أفكار من أجل فلسفة لتاريخ البشرية” (1785):
“إذا قال شخص بأن ما يجب تربيته ليس الإنسان الفرد بل النوع البشري فهو بالنسبة لي يقول كلاما لا معنى له، فالجنس والنوع مفهومان مجردان لا يتحقق لهما وجود إلا في الأفراد”، ثم أضاف، وهذا ما يهمنا هنا، فقال: “ينبغي أن لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على شعاب فلسفة ابن رشد”. وعلى هذا النقد رد كانط موضحا وجهة نظره، مؤكدا أنه لم يكن يقصد أن النوع يتحقق بصفة كاملة في الفرد، وإنما يقصد أن الفرد البشري يمكن أن يتقدم تدريجيا ويقترب من أن يتحقق فيه النوع، ولكن دون أن يتحقق يوما تحققا كاملا. ثم ختم بالقول: “ومهما يكن فإن سوء التفاهم، الذي أبرزناه في المقطع السجالي أعلاه، لا يعدو أن يكون أمرا تافها، والأهم من ذلك هو خاتمة المقطع التي نقرأ فيها قوله (=هردر): “ينبغي أن لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على شعاب فلسفة ابن رشد”.
واضح أن كلا من هردر وكانط يحيلان هنا إلى نظرية ابن رشد في خلود النوع الإنساني التي شرحناها أعلاه. إنهما يريدان أن يكون موضوع فلسفة التاريخ هو التاريخ البشري الحي الذي يصنعه الأفراد. أما “التاريخ” العام” أو الكوني الذي يتحدثان عنه فيجب أن لا يفهم منه “النوع” الذي هو مقولة فلسفية، مجردة، لا وجود لها في الواقع، بل المقصود هو الإنسانية في تاريخها المشخص عبر القرون والأجيال.
والغالب على الظن أن هذين الفيلسوفين الألمانيين الكبيرين، الذين كانا يفكران في هذه المسألة تحت مظلة ابن رشد، لم يطلعا، أو على الأقل لم يستحضرا نظرية ابن رشد التي يقرر فيها إمكانية قيام المدينة الفاضلة في عالم الإنسان المشخص، عالم التاريخ: تاريخ الأجيال. ذلك أن فيلسوف قرطبة قد اعترض على أفلاطون الذي عبر عن يأسه من إمكانية قيام المدينة الفاضلة ما دام رؤساؤها يجب أن يكونوا فلاسفة، وما دام الناس لا يسلمون الحكم للفلاسفة. لقد عقب ابن رشد على هذه النتيجة اليائسة، في الشرح “المختصر” الذي كتبه لـ”الجمهورية”، فقال معترضا على أفلاطون: “يمكن أن نربي أناسا بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها ومع ذلك (=إلى جانب ذلك) ينشأون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لامناص منه لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها. وذلك كما هو الحال في زماننا هذا وفي ملتنا هذه. فإذا ما اتفق لمثل هؤلاء أن يكونوا أصحاب حكومة [حكم ]، وذلك في زمن لا ينقطع، صار ممكنا أن توجد هذه المدينة ” الفاضلة”.
أعتقد أنه لو اطلع هردر وكانط على هذا النص لما ألحَّا ذلك الإلحاح على أنه “ينبغي أن لا تبقى فلسفتنا للتاريخ على طريق الفلسفة الرشدية”. فالطريق الرشدية في “المدينة الفاضلة” طريق تاريخي يقوم على الإيمان بالتقدم التدريجي الذي قال به كانط، كما يتفق مع هردر في أن ما يجب تربيته ليس النوع البشري بل الإنسان الفرد: أعني أناسا مشخصين، كما هو الحال “في زماننا هذا وفي ملتنا هذه”، كما يقول ابن رشد. ويمكن أن يذهب المجادل إلى أبعد من ذلك فيرى فكرة التاريخ العام عند كانط تنتمي هي الأخرى إلى فضاء “المدينة الفاضلة” وليس إلى النظرة التاريخية: فـ”التقدم” الذي جعل منه كانط القانون العام الذي يحكم حركة التاريخ، يجب أن يؤدي في نظره إلى قيام دولة عالمية واحدة أو جمعية دول يتحقق بها السلام على الأرض.
أنا لا نقصد الدخول في جدال حول هذا الموضوع الذي ربما ينتمي إلى ذلك النوع من”الماضي” الذي يجب أن نحرر منه نظرتنا للمستقبل. ومع ذلك فإن هناك سؤالين هامين لابد من طرحهما :
أما السؤال الأول فيمكن صياغته كما يلي: ألا يعبر إلحاح كل من كانط وهردر، على ضرورة تجنب “طريق الفلسفة الرشدية” في تشييد فلسفة للتاريخ، عن نوع من الرغبة في تجنب النظر إلى الماضي بوصفه يحكم المستقبل، باعتبار أن “طريق ابن رشد”، أي الميتافيزيقا أو “فلسفة الوجود”، تمثل الماضي، وأن “فلسفة التاريخ” تمثل المستقبل؟
وأما السؤال الثاني فيمكن التعبير عنه بالقول: لقد قرر ابن رشد أنه من الممكن تشييد المدينة الفاضلة على غير الوجه الذي ذكره أفلاطون وأعطى مثالا على ذلك، فلماذا لم يذهب إلى حد القول: “ينبغي أن لا تبقى مدينتنا الفاضلة على طريق الفلسفة الأفلاطونية”، على غرار الموقف الذي اتخذه كل من هردر وكانط من “طريق الفلسفة الرشدية”؟ وإذا نحن أردنا استعمال مفهوم رائج في عصرنا أمكن أن نصوغ هذا السؤال كما يلي : لقد دعا كل من هردر وكانط إلى تدشين قطيعة ابيستيمولوجية مع ابن رشد، فلماذا لم يدعُ ابن رشد إلى تدشين قطيعة مماثلة مع أفلاطون، وبالتالي مع الفكر اليوناني؟
يجب القول ابتداء إننا لا نقصد من القطيعة الإبيستيمولوجية غير شعور الباحث أو المفكر –أو من يدرس فكره- بأن المرحلة التي يمثلها بمنهجيته ورؤاه –في الحقل العلمي الذي يعمل فيه- تشكل في تاريخ هذا الحقل نقطة اللارجوع non retour. إن هذا يعني أن كلا من هردر وكانط كانا يشعران أن تطور المعرفة –ويتعلق الأمر هنا بالمعرفة التاريخية ولنقل بالوعي التاريخي بالأحرى– قد بلغ في عصرهما نقطة يشعر المرء معها بانفصال المستقبل عن الماضي. وبالتالي فالحاضر في مثل هذه الحالة ليس عبارة عن نقطة اللقاء التي يتصل عندها المستقبل بالماضي، اتصال حلقات السلسلة، بعضها مع بعض، كما هو الشأن في الأحوال العادية، بل إن الحاضر، في حال القطيعة، ويمكن أن نقول في حال الطفرة التاريخية باصطلاح الماركسية، هو النقطة التي تقوم فيها بداية جديدة تدَّعي لنفسها الجدة التامة والأصالة والاستقلال.
4- الوعي التاريخي … بين فلاسفة أوروبا وفلاسفة العرب
وإذا نحن أردنا أن نعبر بلغة أبسط قلنا إن الفرق بين “طريقة ابن رشد” و”طريقة هردر وكانط”، هو أن الطريقة الأولى –أعني الرؤية التي تقدمها للعالم- كانت تقوم على الاعتقاد في أن الحقيقة توجد في “الماضي” أساسا، عند أرسطو -أو أفلاطون لا فرق- أما المستقبل فهو مجرد امتداد للماضي، وما قد يحصل فيه من تقدم لن يكون سوى شرح وتكميل، وفي أحسن الأحوال تطوير لما تقرر في الماضي. وواضح أن هذه النظرة كانت مستوحاة من استعراض أحوال الماضي و”الحاضر” وهي أحوال بقيت متشابهة في جميع المجالات، فلم تحدث طفرة علمية ولا صناعية ولا ثورة سياسية، تجعل من غير الممكن استمرار حضور الماضي بكل بنياته في الحاضر. وبالعكس من ذلك الطريقة الثانية، طريقة هردر وكانط ومن سار على دربهما. فهؤلاء كانوا يرون أن الحقيقة توجد في “المستقبل” وليس في الماضي، وذلك هو مفهوم “التقدم” في فلسفة التاريخ عند كانط خاصة، هذا المفهوم الذي سيضع هيجل مكانه فكرة “المطلق”.
غير أن “اللغة الأبسط” لا تعبر دوما عن الحقيقة بإخلاص، ذلك لأن الواقع المشخص هو دوما على درجة ما من التعقيد، وكلما بدا بسيطا كان أكثر تعقيدا. والحق، كما يقول باشلار، أن البسيط هو المبسَّط! نقول هذا لأننا إذا فكرنا مليا في الدعوى المبسطة السابقة سنجد أن أهم ما يميز “طريق الفلسفة الرشدية” عن طريق “فلسفة التاريخ الكانطية” هو غياب التاريخ، وبالتالي “الماضي” في المنظور الفلسفي الرشدي أي اليوناني، وفي المقابل حضوره حضورا قويا مهيمنا في المنظور الكانطي أي الأوربي الحديث!
وهكذا فبالنسبة للمنظور اليوناني: التاريخ شيء مزعج وغامض. إنه، كما يقول رويسن، مصدر قلق لهذا الفكر: ذلك لأن التاريخ بالنسبة لفكري اليونان هو صيرورة تجري في الزمن. والصيرورة والزمن تقلقان الروح اليونانية لأنها ترى فيهما مزيجا غامضا من الوجود واللاوجود، بينما كان همها الأول البحث، وراء ذلك، عما هو ثابت أزلي، عن أصل الوجود ومبدأه (مادة الأيونيين، وجود بارمينيد، ذرات ديموقريط، مثُل أفلاطون، المحرك الأول عند أرسطو).
ومعروف أن اليونان كانوا يتصورون الزمن على أنه مقدار حركة الكواكب، وهي حركة دائرية وبالتالي فالزمن دائري. ومن هنا فكرة، بل عقيدة “العود الأبدي” ومفهوم السنة الكبرى التي تستأنف دورتها مع دورات الكواكب. وقد عبر عن ذلك أفلاطون باليأس من قيام مدينة فاضلة في هذا العالم لأن “المدن” أو نظم الحكم (الملكية، والأرستقراطية، والأوليغارشية، والديموقراطية، والطغيان) يتحول بعضها إلى بعض على صورة دائرية، ومن هنا كانت “الكارثة الدورية” للإنسانية التي تتمثل في كوارث متتالية تظهر على أشكال مختلفة. وبكيفية عامة تنتمي الصيرورة التاريخية من المنظور اليوناني إلى عالم الكون والفساد (الحياة والفناء)، عالم ما تحت فلك القمر المحكوم بدورية حركة الكواكب. ومن هنا كان الكون وكان الفساد دوريان، يقول أرسطو: “الكون” (خروج الشيء من العدم إلى الوجود) هو دوري ضرورة. وإذن فمن الضروري أن يحدث كل شيء بصورة دورية. فإذا كان من الضروري أن يحدث شيء ما في هذا الوقت فقد كان كذلك من قبل. وإذا كان شيء ما موجودا الآن فمن الضروري أن يوجد في المستقبل، وهكذا دواليك”.
ومن هنا كان التاريخ في التصور اليوناني، وكذا الروماني، تأريخا للحاضر أو للأزلي، تاريخا بدون تاريخية. وكما لاحظ شبينغلر فـإن “جميع أعمال المؤرخين القدماء كانت تقف عند عرض الوضعية السياسية زمن المؤرخ، وذلك في تعارض تام مع الأعمال التاريخية في عصرنا التي تتناول كل شيء، بدون استثناء، في الماضي البعيد”.
بالفعل بدأ الماضي –الماضي البعيد- يمارس سلطته مع بداية عصر النهضة، في القرن الخامس عشر والسادس عشر، حينما تجاوزت أوروبا ما عرف بـ “الرشدية اللاتينية” لترتبط مباشرة بالآداب اليونانية الرومانية. هنا أصبح الماضي مرجعية للحاضر والمستقبل. لقد تحولت الأنظار إلى الماضي البعيد بحماس منقطع النظير، فأصبح أقرب إلى الناس من الماضي القريب الذي يلتصق بحاضرهم. وهذا ما كان يبرر عملية “الرجوع إلى الأصول” ويؤجج “الرغبة في البحث في الماضي عن إنسانية أفضل، أكمل وأكثر حرية”. لقد اكتشف الوعي الأوروبي الناهض الحاضرَ في العودة إلى الماضي، واستند إلى الماضي المستعاد، ماضي “العصر القديم” لكي يسفه جمود العصر الوسيط. وتبلغ فلسفة التاريخ قمة أوجها مع هيجل الذي قرر بأسلوب تجريدي وبضباب فلسفي أن التاريخ بأجمعه هو عبارة عن مسيرة “الروح” أو “الفكرة” في تطورها ونموها نحو المطلق، روح الشعوب وروح الحضارات. ومن هنا كان التاريخ هو تاريخ هذا التطور لـ”الروح”. ذلك لأنه إذا كانت العملية التاريخية تتألف من أعمال الإنسان، فإن هذه الأعمال ليست سوى التشخيص العملي لما يريده الناس ويفكرون فيه. ولما كان التاريخ بهذا المعنى هو تاريخ “الفكرة” فإن العملية التاريخية هي في صميمها عملية منطقية. ومن هنا فإن كل ما هو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي.
وهكذا ربطت فلسفات التاريخ، التي عرفت رواجا واسعا في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بين “العقل” و”الواقع”، فأعطت للتاريخ عقلا ومنحت للعقل تاريخا، فربطت بين “المستقبل” الذي هو مجال العقل، مجال الممكن الذي لم يتحقق، وبين “الماضي” الذي هو مجال التاريخ، مجال الممكن الذي تحقق، فدمجت “المستقبل الماضي” و”المستقبل الآتي” في صيرورة واحدة تبلغ قمتها وكمال سيرورتها في الحاضر (الأوروبي) الذي أصبح ينظر إليه لا على أنه مجرد التقاء الماضي بالمستقبل، بل على أنه نقطة اندماج “حاصل الممكنات التي تحققت” و”مشروع الممكنات التي يجب أن تتحقق”.
ما نريد أن نخلص إليه مما تقدم هو أن اشتباك وارتباط المستقبل بالماضي، والماضي بالمستقبل، هو خاصية أساسية من خاصيات الوعي الأوربي الذي تشكل مع عصر النهضة. وما دمنا قد انطلقنا من استعادة حضور ابن رشد في حقل تفكير أكبر “المشرعين” للمستقبل انطلاقا من الماضي، في الوعي المذكور، أعني كانط، فلنقف لحظة مع ابن رشد لنطرح عليه السؤال حول نوع العلاقة التي كانت تقوم في وعيه بين الماضي والمستقبل.
يمكن الإجابة، مبدئيا، عن هذا السؤال بأن ابن رشد ينتمي فلسفيا إلى الفكر اليوناني الذي رأيناه يستبعد الصيرورة التاريخية من مجال اهتمامه، ويضع مكانها تصورا دوريا للزمن يجعل من “التقدم” فكرة تنتمي إلى مجال اللامفكر فيه، بل إلى مجال غير القابل للتفكير فيه. ومع أن فكرة خلود النوع البشري عند ابن رشد، التي نوهنا بها أعلاه، كانت تنطوي في نفس الوقت على الاعتقاد في إمكانية نمو وتقدم معارف الإنسان إلى المستوى الذي يقترب فيه من “العلم المحيط” بنظام الكون وحقائق أسراره، فإن منتهى هذا “التقدم” هو الخلاص والسعادة القصوى: جنة الفلاسفة، حسب التقليد اليوناني. كما أن ذلك الخلود لم يكن من الناحية الأنطولوجية خلودا للنوع على خط مستقيم، مشخصا في تتابع الحضارات، كما تصورت فلسفات التاريخ في أوروبا، بل خلودا بيولوجيا يتم على شكل دائري: إنسان يُصنع من مادة إنسان قبله بفعل تحريك المحرك الأول وهكذا. وقد لا يجوز أن نلوم ابن رشد على عدم اهتمامه بالتاريخ، على الرغم من اهتمامه بجميع حقول المعرفة في عصره، من علوم دينية وعلوم فلسفية. ذلك لأن التاريخ في الحضارة العربية، كما في الحضارة اليونانية، لم يكن يعتبر علما ولم يدخل في أي تصنيف للعلوم من ذلك النوع الذي يرتكز على مفهوم “العلم” كما حدده أرسطو بقوله: “لا علم إلا بالكليات”. والتاريخ كما عرفته الثقافة العربية، والذي ازدهر فيها ازدهرا، هو ميدان الجزئيات بامتياز.
لنختصر الطريق إذن، ولننظر إلى نوع الوعي التاريخي الذي كان لدى ذلك المؤرخ العربي الذي جاء بعد ابن رشد يحمل إرثه الثقافي، والذي عبر بصراحة عن طموحه إلى الارتفاع بالتاريخ إلى مستوى العلم. أقصد بذلك ابن خلدون، الذي جعل من مفهوم “طبائع العمران” ما يوازن قولنا “كليات الاجتماع والتاريخ”. غير أن ما يثير الانتباه حقا، هو غياب فكرة “المستقبل” في تحليلات ابن خلدون. لقد كان فكره مسكونا بالحاضر الذي كانت تعمره الفوضى، وتتجه فيه الأمور نحو مزيد من التدهور والانحلال. لقد انخرط في عالم السياسة ولمس عن قرب كيف أن الصراعات والحروب والمنافسات كانت تجري مجرى العبث، فأراد أن يجد لهذا “العبث” معنى من خلال استعراض جزئيات التاريخ العربي الإسلامي، فانتهى إلى نظريته في “الدورة العصبية” التي تجعل من التاريخ مسرحا تتناوب عليه التجمعات القبلية، كل يعيد الدور نفسه. ومن هنا كانت نظرية “أطوار الدولة” عند ابن خلدون امتدادا مباشرا لما قرره ابن رشد في “المختصر” الذي عمله لجمهورية أفلاطون، أعني بذلك تعاقب “المدن” على شكل دائري. لم يكن “المستقبل” حاضرا في فكر ابن خلدون؛ وقد واخذ المؤرخين السابقين له على أمور كثيرة، ولكنها جميعا مما يتصل بالماضي، ولم يَلُم أحدا منهم لكونه لم يهتم بالمستقبل. لقد لخص عيوب المؤلفات التاريخية السابقة له في كون قارئها يبقى بعد قراءتها “متطلعا بعدُ إلى افتقاد أحول مبادئ الدول ومراتبها، مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها”! أما مستقبلها فهذا ما كان ينتمي عنده إلى اللامفكر فيه. وإذا كان لا بد من أن ننتزع من نصوصه فكرة ما عن “المستقبل” في علاقته بالماضي، فقد لا نجد سوى هذه العبارة التي يقول فيها: “فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء”، وهذا يعنى أن تاريخ البشرية، ما تقدم منه وما تأخر، عبارة عن بحر، قد تتلاطم أمواجه هنا وتهدأ هناك ولكن الماء يبقى دائما شبيها بنفسه؛ وكذلك “الماضي” و”الآتي” يشبه الواحد منهما الآخر كما يشبه بعض ماء البحر بعضه الآخر. وكل ما يمكن استخلاصه لفائدة “المستقبل”، من هذا البحر المتلاطم الأمواج، هو “العبرة”، أي الدرس الأخلاقي الديني الذي ينبه الإنسان إلى أن هذه الحياة الدنيا تافهة وزائلة.
5- الحداثة … أم “ما بعد الحداثة”؟
لعل أهم نتيجة يمكن الخروج بها من استعراض أنماط الوعي الديني والفلسفي حول علاقة الماضي بالمستقبل وأيهما “يحكم” الآخر، هي أن ارتباط الماضي بالمستقبل والمستقبل بالماضي، على صعيد الوعي، مثله مثل الدعوة إلى فك هذا الارتباط، هو من الظواهر الفكرية التي لم يشهدها لا الفكر اليوناني ولا الفكر العربي الإسلامي (ولا غيرهما في العصور القديمة والوسطى)، وبالتالي فهي من المستجدات التي ظهرت مع النهضة الأوروبية. وبعبارة قصيرة إنها من أبرز سمات الحداثة الأوروبية.
وإذن فالإشكالية التي طرحناها من خلال السؤال : “المستقبل والماضي .. أيهما يحكم الآخر”، إنما تجد مرجعيتها، ابتداء، في التجربة الحضارية الأوروبية المعاصرة التي انطلقت مع “عصر النهضة”. هذا العصر الذي لا معنى له هو الآخر، خارج هذه التجربة. ومعروف أنه من مرتكزات فكر “النهضة”، وفكر “الأزمنة الحديثة”، الرجوع إلى الماضي من أجل إعادة بنائه بالصورة التي تجعل من المستقبل المأمول نتيجة “طبيعية” و”منطقية” له. أما الدعوة إلى تجاوز هذا المرتكز الأساسي في “فكر النهضة” (الأوروبية)، والتي تتردد لها أصداء في العالم العربي اليوم من قبيل “نقد السلفية” و”الماضوية” الخ، ستبقى دعوة في فراغ ما لم تربط بالمرجعية نفسها: التجربة الحضارية الأوروبية. إنها دعوة تلخص الأطروحة التي يتحدد بها فكر ما أطلق عليه “ما بعد الحداثة”، والتي تعكس في تاريخ الفكر الأوروبي ثورة نيتشه على هيجل، وهي الثورة التي تتلخص في الدعوة إلى إحلال الجينيالوجيا أو نقد الأصول، محل فلسفة التاريخ التي تنطلق من بناء الأصول.
والحق أن دخول نيتشه في خطاب الحداثة قد قلب الأمر رأسا على عقب. لقد أعلن نيتشه بصراحة وقوة أن الحداثة قد فشلت في تحقيق أهدافها (تحقيق العدالة والمساواة في أوروبا وخارجها الخ)، وأن التاريخ لا يسير وفق الخطة التي يرسمها له العقل، وأن “الأسطورة”، بالتالي، يجب أن تسترجع مكانتها، ليتأسس عليها شكل جديد من الفكر، من الرؤية[1]. لقد كشف الديالكتيك العقلي (ديالكتيك هيجل ثم ماركس) -في نظر نيتشه- عن قصوره وفشله، ففقدت الحداثة بذلك امتيازها. إن فلسفة التاريخ، سواء في صورتها المثالية الهيجلية، أو في صورتها المادية الماركسية، قد سجنت العقل في التاريخ وجعلت التاريخ رهينة للعقل. وإذن فالمطلوب “اليوم” هو تحرير التاريخ من العقل والعقل من التاريخ، لا بل “تحرير الماضي من المستقبل والمستقبل من الماضي”.
ما ذا يعني هذا بالنسبة لوضعنا العربي الراهن؟ وبعبارة أخرى: ما هو الموقف المطلوب منا بالضبط: هل السير مع خط نيتشه الداعي إلى تحرير التاريخ (أو الماضي) من العقل (والرجوع إلى الأسطورة، إلى الرمز)، وتحرير العقل من التاريخ (من الأصول والقبليات والبناءات الفكرية الشمولية)؟ أم أننا ما زلنا بالعكس من ذلك في حاجة إلى اقتفاء خط تفكير هيجل ومن بعده ماركس، الخط الذي أعطى للتاريخ عقلا “يحكمه” ويقوده نحو هدف هو “التقدم” وبالتالي يجعله ذا معنى، كما منح للعقل تاريخا هو صيرورة قوامها الأطروحة والطباق والتركيب (أو الإثبات والنفي ونفي النفي)، صيرورة تحتفظ بـ”الماضي” في الوقت الذي تتجاوزه إلى “المستقبل”؟
إن موقفي من هذه المسألة هو شبيه، بل نظير، لموقفي من قضية مماثلة وكلت إلي لأدافع عنها، ففعلت عكس ما كان قد طلب مني. ففي ندوة بالقاهرة عقدت عام 1985 لمناقشة موضوع “التراث وتحديات العصر: الأصالة والمعاصرة”[2] طلب مني إعداد بحث في الموضوع التالي: “إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث: صراع طبقي أم مشكل ثقافي؟! وكانت “الورقة التوجيهية” التي حضرها منظمو الندوة تميل إلى اعتبار تلك الإشكالية انعكاسا للصراع الطبقي وتعبيرا عنه، انطلاقا من إبراز “أهمية الدور الذي يلعبه الصراع الطبقي في التاريخ”. لقد وقفت من هذه القضية موقفا يختلف تماما عن الموقف الذي كان منتظرا مني. لقد ألححت إزاء هذه القضية –يوم كان التفسير الطبقي يمارس في بعض بلدان العالم الثالث، في الستينات والسبعينات والثمانينات، بصورة آلية كما تمارس العقائد الدينية- ألححت على ضرورة التمييز بين وضع هذه البلدان وتاريخها وبين وضع أوروبا وتاريخها، وبالتالي اجتناب التطبيق الآلي لما يعتبر صحيحا هناك، في حقبة من الزمن، على واقع البلدان “النامية”[3]
فعلا أجدني الآن مضطرا، مرة أخرى، إلى تبني الموقف نفسه إزاء مسألة ما يعبر عنه بـ “تحرير المستقبل من الماضي”. وهذا ليس لأني استصغر دور الماضي في تحديد الرؤية للمستقبل. بل بالعكس فأنا أعي تمام الوعي أنه إذا كانت هناك أمة في هذا العصر يحتاج الفكر والثقافة فيها إلى تحرير التفكير في المستقبل من أوهام الماضي وأحلامه ومشاريعه التي لم تتحقق من جهة، وتحرير التفكير في الماضي من ضعف الحاضر ومخاوف المستقبل وأحلامه من جهة أخرى، فهي أمم العالم الثالث، وفي مقدمتها الأمة العربية التي كانت ولا تزال أمة ثقافية بامتياز. لقد عبرت عن موقفي إزاء هذه القضية بهذه العبارات :”لقد تركت فينا الصيرورة التاريخية التي عشناها طوال المائة سنة الماضية آثارا لا حصر لها: بعضها يجد مصدره في التحدي الحضاري الغربي الذي أيقظنا من سباتنا (ويسميه البعض منا صدمة الحداثة)، والذي ربَطَنا به متخذا من نفسه “مركزا” ومنا “محيطا” أو جزءا من المحيط (في الميدان الفكري أيضا)، بينما يجد بعضها الآخر مصدره في رد فعلنا على ذلك التحدي، رد الفعل الذي لجأنا فيه إلى جعل “الماضي” –ماضينا نحن- “مركزا” للتاريخ كله، والباقي “محيط”. لقد كانت المائة سنة الماضية بمثابة “عصر تدوين” آخر رسمنا خلاله في وعينا، وبكيفية سيئة جدا، صورة للماضي والمستقبل، لـ”نحن” و”الآخر”، رسمناها منفعلين لا فاعلين، يقودنا “عقل” غير واع بذاته، عقل تائه يبحث عن تمتين علاقته بـ”عقل” الماضي بدل أن يعمل على تدشين قطيعة معه، ويحاول ربط نفسه بـ “عقل” العصر بدل أن يكون هو نفسه إحدى تجليات هذا العصر. إن ما أبرزناه من قبل كخصائص أساسية ماهوية في الخطاب العربي الحديث والمعاصر: من الركون دوما إلى نموذج سلف (من التراث العربي أو من الفكر الغربي)، واعتماد القياس الفقهي الذي يقوم على رد الفرع إلى الأصل، وبالتالي قياس الحاضر والمستقبل على الماضي، والتوظيف الإيديولوجي للتغطية على النقص المعرفي، والتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية، إن هي إلا عناصر في شبكة الآثار التي خلفتها فينا صيرورتنا العامة الطويلة منذ انبثاق “العقل العربي”. أي منذ “عصر التدوين”، عصر البناء الثقافي العربي العام الذي شهدته الثقافة العربية ابتداء من القرن الثاني للهجرة. فإلى هذه “الشبكة” من الآثار يجب أن نتجه الآن بالتحليل والفحص والنقد. إن الحاجة تدعو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تدشين “عصر تدوين” جديد تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح… نقد العقل العربي”[4] (انظر كتابنا : الخطاب العربي المعاصر)..
لقد أثبتنا هنا هذا النص على طوله لأنه يعبر فعلا عن قناعتنا بخصوص الموضوع الذي نناقشه. ومع ذلك فأنا أتردد كثيرا في السير مع خط نيتشه والدعوة إلى “تحرير المستقبل” من هيمنة من الماضي و”تحرير الماضي” من أحلام المستقبل. فأنا أحس بمقاومة في داخلي تمنعني من الدفاع عن هذا الشعار “الحداثي” بالطريقة التي يدافع بها المحامي عادة عن القضية التي وُكِّل للدفاع عنها. إن انتشار التطرف وهيمنة الأصولية واستيقاظ النعرات الطائفية والقبلية في كثير من البلدان، كل ذلك يبرر الدعوة إلى “تحرير المستقبل من الماضي” فعلا، ومع ذلك فأنا أخشى أن تجرنا الصياغة اللغوية، التي يتبادل فيها المواقع كل من “الماضي” و”المستقبل” بصورة لا تخلو من سحر الخطاب الشعري، إلى نسيان الطرف الثالث الذي أقصي من المعادلة لحد الآن، أعني بذلك “الحاضر”! ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بـ” تحرير المستقبل من صراعات الماضي” أو بـ “تحرير الماضي من أحلام المستقبل”، فإن المعني بالأمر مباشرة هو هذا “الحاضر” المسكوت عنه. والسؤال الذي يفرض نفسه مع استحضار “الحاضر”، هذه المرة، هو التالي: أين يبتدئ الحاضر وأين ينتهي، إذا نحن عزلنا عنه الماضي والمستقبل؟ !
لا يتعلق الأمر هنا بمناقشة صورية، كلا. إن الأمر يتعلق، على العكس، بالرغبة في القيام بالتحليل الملموس لواقع ملموس. وبديهي أننا لا نستطيع “لمس” الحاضر إلا من خلال تماسه مع كل من الماضي والمستقبل. فكيف حاول الفلاسفة تحديد هذا التماس؟
وما دمنا قد استحضرنا ابن رشد في القسم الأول من هذا المقال فلنستحضره ثانية هنا. لقد حاول الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” الدفاع عن دعوى المتكلمين القائلة بـ”حدوث العالم” ضدا على رأي الفلاسفة القائلين بقدمه، فقال: إنه إذا كان الفلاسفة يقولون ليس وراء العالم شيء آخر من طبيعة مكانية كالخلاء (وأرسطو ينفي وجود الخلاء)، فلماذا لا يقبلون القول بأن ليس وراء العالم شيء آخر من طبيعة زمانية، وبالتالي لا يكون هناك قبل وجود العالم زمان. ويقول ابن رشد الذي أورد نص الغزلي في هذا الشأن : وإذا سلم له الفلاسفة ذلك سقطت حجتهم على قدم العالم، وهي القائلة إن القول بحدوث العالم معناه: أن الله اختار إيجاده في وقت كان قبله أوقات، الشيء الذي يتطلب القول بمرجح جعل الله يخلق العالم في وقت معين دون غيره من الأوقات، وهذا يتناقض مع صفات الله من حيث إن فعله لا يخضع للسببية ولا للترجيح! ويرد ابن رشد على الغزالي الذي لم يخف زهوه بهذا الاعتراض قائلا: إن اعتراض الغزالي على الفلاسفة يقوم على آلية في الإبدال من الإبدالات السفسطائية، وهي هنا: الحكم للزمان بما يحكم به للمكان! ذلك لأنه إذا كنا نتصور جزء المستقيم في الهندسة (أي في المكان) على أنه محصور بنقطة في طرفه، فليس يمكن ذلك في الزمان. فـ ” لا يمكن تصور زمان له طرف ليس هو نهاية لزمان آخر”، لأن جزء الزمان الذي نحس به والمسمى بـ “الآن” هو بالتعريف “الشيء الذي هو نهاية للماضي وبداية للمستقبل، لأن “الآن” هو الحاضر، والحاضر هو وسط، ضرورةً، بين الماضي والمستقبل، وتصور حاضر ليس قبله ماض محال. وليس الأمر كذلك في النقطة (التي هي جزء المكان)، لأن النقطة نهاية الخط وتوجد معه، لأن الخط ساكن. فيمكن أن نتوهم نقطة هي مبدأ لخط، وليست نهاية لآخر. أما “الآن” فليس يمكن أن يوجد لا مع الزمن الماضي ولا مع المستقبل، فهو، ضرورة، بعد الماضي وقبل المستقبل. وما لا يمكن فيه أن يكون قائما بذاته، فليس يمكن أن يوجد قبل وجود المستقبل من غير أن يكون نهاية لزمان ماض (…)، فالذي يجوِّز وجود آن ليس بحاضر، أو حاضرا ليس قبله ماض، فهو يرفع (=يلغي) الزمان والآن بوضعه آنا بهذه الصفة، ثم يضع له زمانا ليس له مبدأ. فهذا الوضع يبطل نفسه”[5].
وأنا أعتقد أن وضع “تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبل” بدون استحضار الحاضر، هو أيضا “وضع يبطل نفسه”، ليس فقط لأن استبعاد الحاضر معناه رفع للزمان والحكم له بما يحكم به للمكان، بل أيضا لأن عملية التحرير نفسها لا يمكن أن تتم إلا في زمان، ليس هو الماضي ولا المستقبل، زمان لا اسم له إلا “الحاضر”. فإذا نحن تصورنا هذا الحاضر كامتداد مكاني أمكن حينئذ أن نحدد فيه نقطتين تحدد الواحدة منها “ما قبل” والأخرى “ما بعد”. ولكن الماضي ليس من نوع القبلية المكانية ولا المستقبل من نوع البعدية المكانية. ومن يضع الأمور هذا الوضع فهو يرفع الزمان كما يقول ابن رشد.
وإذا كان ذلك كذلك، فالقضية التي يجب التركيز عليها هي الحاضر. وهنا لابد من التمييز بين حاضر وحاضر. ذلك أن شعوب العالم اليوم لا تعيش حاضرا واحدا. إن حاضر الدول المصنعة، سواء كانت في القارة الأوروبية أو في القارة الأمريكية أو في آسيا، حاضر “محرر” من الماضي إلى درجة كبيرة. وبعبارة أخرى لم يعد الماضي ينافس هناك الحاضر، لا على صعيد الوعي ولا على صعيد الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي. نعم هناك “بقايا” من “الماضي” تعبر عن نفسها من حين لآخر بهذا الشكل أو ذاك، ولكن ذلك لا يشكل في أقوى الحالات سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. أما في البلدان التي كان يجمعها اسم “العالم الثالث”، والتي تصنف اليوم ضمن مقولة الجنوب، فالأمر فيها يختلف باختلاف درجة التحديث فيها ونوع تجاربها، وأيضا نوع علاقتها بثقافتها.
وإذا نحن أردنا أن نستنتج نتيجة أولية من هذا التصنيف فسيكون في الإمكان القول إن تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي، في البلدان التي ما زلت تعاني من منافسة الماضي فيها للحاضر، عملية لابد لها أن تتم عبر التصنيع. وهذا صحيح، خصوصا إذا نحن تبينا ذلك التمييز الذي يقام عادة بين ثقافة المجتمع الزراعي الماضوية وثقافة المجتمع الرأسمالي المستقبلية. غير أن هذه النتيجة الأولية يجب أن تبقى أولية، فهي قائمة على التعميم والتبسيط. ذلك أنه يمكن التشكيك فيها بالقول – من وجهة النظر الويبرية([6])– إن التصنيع يحتاج إلى ثقافة جديدة متحررة من هيمنة فكر الماضي، وبالتالي فالتجديد الثقافي ضروري لغرس العقلانية في جسم المجتمع، الشيء الذي يعتبر شرطا لقيام مجتمع صناعي.
نحن نعي تماما زيف المشاكل التي تطرح في صيغة أيهما أسبق: الدجاجة أم البيضة؟ فالبيضة لا تتحول إلى دجاجة من تلقاء نفسها، بل لا بد من ظروف معينة للتفريخ. ومن هنا يمكن القول إن التجديد الثقافي –سوءا جعلناه سببا أو نتيجة- يحتاج إلى عملية من نوع “التفريخ”: تفريخ البيضة، من داخلها طبعا، بتدخل ظروف خارجية ملائمة. ذلك هو مضمون الأطروحة التي ندافع عنها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، أعني أطروحة “التجديد من الداخل”، فيما يخص الثقافة العربية.
إن “تحرير الحاضر وبالتالي المستقبل من الماضي” عبارة ستكون فارغة من المعنى إذا لم يفهم منها تحرير ثقافة الحاضر والمستقبل من ثقافة الماضي، ذلك أن الهيمنة التي يمارسها الماضي على الحاضر هي، أساسا، هيمنة تتم على صعيد الوعي. أما على صعيد الواقع فالمحراث الخشبي يختفي بمجرد حضور المحراث العصري، شريطة أن يكون هناك ما يكفي من المهارة لاستعماله، وهذه المهارة هي مسألة ثقافية أيضا. ومن المؤسف حقا –إذا جاز التأسف في هذا المجال- أن لا يكون التجديد الثقافي بمثل سهولة إحلال المحراث الصناعي محل المحراث الخشبي! إن التجديد الثقافي يتطلب عملية من نوع تحويل المحراث الخشبي نفسه ومن داخله إلى محراث عصري. وواضح أن العملية تبدو مستحيلة إذا نحن فهمنا من المحراث العصري المحراث المصنوع من الحديد، أعني “المحراث الأوروبي المعاصر”، فالخشب لا يمكن تحويله إلى حديد! وليس من المعقول المرور بنفس المراحل التي مر بها تطور المحراث من محراث القرون الوسطى إلى المحراث العصري الذي تجاوز الصناعي التقليدي إلى الإلكتروني؟
لا جدال في أنه عندما يتعلق الأمر بالتحديث الصناعي فالمطلوب هو الارتباط بالصناعة في مرحلتها الأخيرة من التطور، تماما مثلما تدرس العلوم (الرياضيات والفيزياء والطب الخ) في مدارسنا وجامعاتنا اليوم كما هي في آخر مرحلة من التقدم وصلتها؛ وسيكون من العبث تدريسها كما كانت في الماضي، القريب أو البعيد، أولا، ثم كما كانت بعد ذلك ! كلا. إن ماضي العلم، كما يقول باشلار، هو أخطاء العلم. وكذلك الشأن في الصناعة، وهي ليست شيئا آخر غير تطبيق العلم.
لكن الأمر ليس على هذه الشكل بالنسبة لما عدا العلم من شؤون الثقافة والفكر! وأكثر من ذلك يجب أن نعترف أن التقدم في مجال العلم لا يلزم عنه ضرورة تقدم مماثل في “ما عدا العلم من شؤون الفكر والثقافة”. فكم من علماء كبار في الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا أو الطب يمتلكون وعيا يهيمن فيه الماضي على الحاضر هيمنة مطلقة. ومن هنا قناعتنا بأن الحل الوضعي positiviste حل فاشل. إن المطلوب هو الحل العقلاني الذي يرتكز لا على العقلانية الأداتية rationalisme instrumentale بل على العقلانية الموضوعية المعيارية rationalisme objectif , normatif. ذلك لأن المطلوب هو إحداث تغيير جوهري في طريقة التفكير والنظر إلى الأشياء، وهذا لا يتم بدون نقد ابيستيمولوجي ومعياري في نفس الوقت.
إن تحرير الحاضر، وبالتالي المستقبل، من الماضي لا يتم بمجرد الدعوة إلى الإلقاء بالماضي في “سلة المهملات”. ذلك لأن الماضي الذي تدعو الحاجة إلى التحرر منه هو بالذات هذه “السلة من المهملات”! الماضي –والمقصود ثقافة الماضي- ليست بضاعة في صناديق، بل هي مجموعة من المفاهيم والتصورات تحضر في الوعي الحاضر بألف شكل. والغالب أنها لا تحضر فيه بنفس الشكل الذي كانت عليه في وعي أولئك الذين أنتجوها واستهلكوها كثقافة لحاضرهم. لنأخذ مثالا من الثقافة العربية. إن سيرة النبي محمد كما كتبها ابن هشام، نقلا وتلخيصا عن ابن إسحق الذي توفي حوالي سنة 150 هجرية، هي عبارة عن نص تاريخي يحكي وقائع تاريخية بلغة تتوخى الدقة وتتجنب التفخيم والتقديس. غير أن “السيرة النبوية” كما أعيدت كتابتها مرارا، نثرا ونظما، كانت تبتعد عن الخطاب التاريخي الوضعي –أو القريب من الوضعي- الذي كتبت به أول مرة لتتحول إلى نوع آخر من الخطاب يتضخم جانب اللاتاريخي فيه مع تقدم الزمن. والشي نفسه حصل مع “الحديث النبوي” الذي كان قليلا زمن النبي، ولكنه أخذ في التضخم بـ”الوضع” مع مرور الزمن، حتى أصبح يعد بمئات الآلاف. ومع أن كثيرا من الأئمة في الإسلام لا يقطعون إلا بصحة عدد محدود من الأحاديث لا يتجاوز بضع عشرات، فإن ما وظف “الحديث” ويوظف في الخطاب الديني المؤدلج –سواء على طريقة الخوارج الذي يمكن التعرف عليهم من خلال “الطالبان” في أفغانستان اليوم، أو على طريقة “معاوية” الذي يمكن التعريف به هو الآخر بالمقارنة مع كثير من الحكام في العالم العربي اليوم- هو أكثر من أن يحصى، وهو في جملته من قبيل “الموضوع”، كليا أو جزئيا. وليست هذه الظاهرة مقصورة على الإسلام، بل لقد عرفتها اليهودية من خلال التلموذ، إن لم يكن من خلال التوراة أيضا. كما عرفتها المسيحية كذلك. وإذا كانت المسيحية لم تؤثر في التراث الإسلامي كبير تأثير، فلقد كان لما عرف في الإسلام بـ “الإسرائيليات” دور كبير ورئيسي ليس فقط في تضخيم الحديث، بل أيضا في تفسيرالقرآن.
ولكي نعطي لمفهوم “التجديد من الداخل” معنى مشخصا في هذا المجال، مجال الفكر الديني، يمكن القول إنه لو تم استبعاد جميع الأحاديث التي لا تتعلق بالعبادات والتي لا سند لها في القرآن وليست من المتواتر([7])، واستبعدنا كذلك جميع التأويلات لشؤون العقيدة، التي يرجع أصلها إلى “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين”([8]) بما في ذلك تأويلات الأشعري نفسه -مؤلف كتاب بهذا الاسم- وغيره ممن ينتمون إلى فرقته، لتَحَرَّر هذا المجال من تسعين بالمائة مما نسميه هنا بـ “الماضي”.
ومن المفيد هنا استحضار ابن رشد مرة أخرى. فلم يكن مشروع هذا المفكر الكبير محصورا في شرح كتب أرسطو وتقريبها من أفهام الناس، بل لقد عمد أيضا إلى ما عبر عنه هو نفسه بـ “تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير”([9]). يقصد بذلك تأويلات المتكلمين الذين قال عنهم إنهم “أوقعوا الناس من قِبَل ذلك (=التأويل) في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق”([10]). وذلك لأنها تأويلات “ابتعدت عن مقصد الشرع عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”([11]). إن العقائد التي “قصد الشرع حمل الناس عليها”، إذا أخذت كما هي في ظاهر النصوص وحسب مقصد الشارع فقط، أي بعيدا عن التوظيف الإيديولوجي المباشر وغير المباشر، هي عقائد بسيطة ليس فيها تطرف و لا تشعب و لا تعقيد، هدفها غرس الفضيلة في النفوس. ومن هنا كانت لا تتعارض مع النظر العقلي ولا مع المعرفة الصحيحة التي يمكن اكتسابها بالعقل، سواء من طرف “المشاركين لنا في الملة أو المخالفين”. كما يقول ابن رشد([12]).
هذا النوع من الرجوع إلى “الأصول” لبناء تراث جديد يخلف القديم ويتجاوزه هو ما نقصده بـ”التجديد من الداخل”. وغني عن البيان القول إن القيام بهذه المهمة تتطلب نوعا من “الرشدية” جديدا: كان ابن رشد واسع الاطلاع على الثقافتين: العربية الإسلامية واليونانية الفلسفية التي كانت تمثل “الحداثة” في ذلك الوقت. لقد كان يتكلم داخل كل منهما من موقع “المفتي”، مسلحا بروح نقدية نادرة المثال. إن الجمع بين الثقافتين على الطريقة الرشدية ضروري لعملية التجديد من الداخل: وكما ذكرنا قبل فالبيضة لا تتحول إلى دجاجة من تلقاء نفسها، بل لابد لها من ظروف مواتية تقع خارجها. وواضح أن هذه “الظروف المواتية” لا تصنع دجاجة بمفردها بل لا بد من البيضة أولا.
تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي عملية يجب أن تبدأ بالمصالحة مع هذا الماضي، باستيعابه والعمل من ثم على تحريك عوامل التجديد فيه وبالتالي إعادة بنائه. إن “الماضي” -ولنقل “التراث” فهو المقصود أساسا- ليس هوية جاهزة دوما ومثبَّتَة نهائيا. كلا. إنها هوية تصير مثلها مثل الحاضر. كل عصر وكل فريق يقرأ الماضي حسب حاجته. فإذا عجز أصحاب عصر ما عن قراءة ماضيهم حسب حاجتهم فالعيب ليس في الماضي بل فيهم هم، و غالبا ما يكون هذا العيب هو أنهم لا يعرفون ماضيهم فلا يتبـيَّـنون فيه حاجتهم. وحتى لو كانت هذه الحاجة هي التخلص منه فلا بد من معرفته، فالتخلص من الشيء لا يكون بالجهل به ولا بتجاهله. وقديما قيل لمن منع الفلسفة: تعلم الفلسفة واجب. وحتى إذا كنت ترى العكس فيجب أن تتعلمها لتعرف لماذا تمنعها.
لقد تحدثنا عن “تحرير الحاضر والمستقبل من الماضي” بالنسبة للثقافة العربية. أما الثقافة الأوروبية فهي لم تعد في حاجة إلى هذا النوع من “التحرير”، لأنها قد قامت به بالفعل وعلى الطريقة نفسها، أعني التي ذكرنا. وكما شرحنا ذلك في مكان آخر([13]) فلقد بدأت عملية “التحرير” هذه فيها مع القرن الثاني عشر الميلادي في صورة إحياء الآداب الرومانية والإغريقية، وما أعقب ذلك من قيام “النزعة الإنسانية” Humanisme والثورة على كنيسة القرون الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني وغير ذلك من مظاهر حركة النهضة، مما كانت نتيجته أن تفككت بنيات نظام القرون الوسطى فانفتح الباب أمام انبثاق فكر جديد، وعاد “مركز السلطة الفكرية إلى تجربة الفرد وعقله”. ومن هنا أصبح الإنسان الأوروبي ينظر إلى “المستقبل” على أنه شيء في يد الإنسان، على أنه في هذا العالم لا في عالم آخر، كما صار ينظر إلى “التقدم” على أنه ما سيأتي وليس “ما تقدم”، على أنه حركة متنامية انطلقت من “الماضي” السحيق متجهة بدون كلل ولا انقطاع إلى المستقبل. ومن هنا فلسفات التاريخ التي تحدثنا عنها قبل، والتي اتجهت إلى إعادة بناء تاريخ البشرية بالصورة التي تجعل التقدم الحاصل في الحاضر نتيجة لحركة التاريخ في الماضي ومقدمة لما سيحصل في المستقبل. وفي هذا السياق نفسه وكامتداد له يجب وضع النداءات التي تتردد أصداؤها اليوم من قبيل الدعوة إلى “تحرير المستقبل من الماضي وتحرير الماضي من المستقبل”. وإذا كانت الحاجة تدعو فعلا إلى هذا النوع من التحرير، في كل مكان من عالم اليوم، فيجب أن لا تؤخذ هده الدعوة في صورتها المطلقة، بل لابد من التفكير فيها على ضوء المرحلة من التطور التي يوجد فيها هذا البلد أو ذاك. وذلك ما حاولنا فعله في الصفحات الماضية.
كان الحديث يدور لحد الآن حول الشق الأول من عنوان موضوعنا:”تحرير المستقبل من الماضي”. ويبقى علينا أن نقول كلمة عن الشق الثاني:”تحرير الماضي من المستقبل”. وفي اعتقادي أن هذا الشق الأخير من السؤال لا يمكن إعطاؤه معنى ملموسا يحرره من أسار اللغة وسحرها إلا في إطار الفهم الذي عرضناه بالنسبة للشق الأول: أعني بذلك ما قررناه من أن تحرير “المستقبل” من “الماضي” إنما يتم عبر إعادة بناء الماضي لا عبر إلغائه. وهنا يدخل الشق الثاني (“تحرير الماضي من المستقبل”) كاحتياط منهجي بل كشرط في عملية البناء. إن ذلك يعني أنه يجب تجنب قراءة طموحاتنا أو مخاوفنا المستقبلية في الماضي، أعني إسقاطها عليه و من ثم “اكتشافها” فيه.
ليس ثمة من شك في أن الرجوع إلى الماضي إنما يكون حصرا بدافع من الحاضر. فالماضي لا يكتب ولا تعاد كتابته باستمرار إلا تحت ضغط حاجة الحاضر. هذا شيء لابد من الاعتراف به، إذ ليس في الإمكان كتابة “تاريخ وضعي”، حتى ولو كانت هذه “الكتابة” مقتصرة على جمع الوثائق وترتيبها. إن جمع الوثائق عملية تقوم على الاختيار، وترتيبها عبارة عن تقديم وتأخير وإبراز وحذف. وهذه أمور تتم دوما تحت ضغط الحاضر والقيم السائدة فيه، العلمية منها والأخلاقية والإيديولوجية. ومع ذلك فهناك فرق كبير بين التاريخ “العلمي”، الذي يكتب من أجل المعرفة والفهم فقط، فهم الماضي كما كان لا غير، أو من أجل إضفاء نوع من المعقولية على أحداثه ومساره، بهدف الاستعانة به في فهم الحاضر، من جهة، وبين التوظيف الإيديولوجي للماضي من جهة أخرى.
والتوظيف الإيديولوجي للتاريخ يتخذ في الوقت الراهن أشكالا شتى. فما يسمى اليوم بــ”الجماعات الأصولية”، التي تنتسب إلى ديانات مختلفة وأعراق متباينة تتخذ من الماضي ملجأ تضفي عليه كل رغبات الحاضر وآمال المستقبل. وقد كان هناك من “المنظرين” للنهضة والتقدم في العالم العربي من أسقط “المستقبل المأمول” على التاريخ العربي الذي حُمِّل من صنوف التقدم الفكري والحضاري العام، ما لا يحتمل. وواضح أن هذا النمط من الإسقاط لأحلام المستقبل على “حقائق” الماضي لا ينفع إلا في تزييف الوعي، وهو شيء مضر أشد الضرر بالقضية التي يريد خدمتها.
لكن، هناك ما هو أخطر من هذا لكون ضرره لا يقتصر على صاحبه، بل يطال الغير أيضا، بل ويهدد مستقبل الإنسانية جمعاء. نعني بذلك الهواجس التي نشرت باسم “البحث العلمي” و”الدراسات الاستراتيجية” والتي روجت لها وسائل الإعلام إلى الدرجة التي جعلت منها “قضية العصر”. وهكذا، فبمجرد ما تأكد سقوط الاتحاد السوفيتي ارتفعت أصوات في الولايات المتحدة خاصة تبحث عن “عدو الغد” فوجدوه بسهولة في “الإسلام”. وهكذا قام هنتنغتون Huntington ينظِّرُ لما دعاه بـ “صدام الحضارات”. ولكي يبرر ادعاءه بأن “عدو الغد” للحضارة الغربية سيكون هو “الإسلام” –إلى جانب الكنفوشية- طلع علينا هذا الرجل بمفاهيم غريبة مثل”دينامية الحروب الحضارية” و “الدم في الحدود الإسلامية” الخ. ثم راح يقرأ تاريخ الإسلام على أنه تاريخ الصدام مع “الغرب”، وذلك إلى درجة أنه لم يتردد في وصف الحدود التاريخية بين الإسلام ودول أوروبا بأنها “حدود دموية”([14]). إن مثل هذه القراءة للماضي إنما تجد تبريرها في الخوف من فقدان المصالح والهيمنة في المستقبل، سواء كان هذا الخوف حقيقيا، أم كان مصطنعا بهدف تمرير مصالح معينة في الحاضر. وكما هو واضح فإن هذا النوع من رهن الماضي للمستقبل لا يقتصر ضرره على صاحبه بل هو يزرع الخوف من المستقبل ويدفع إلى الصدام في الحاضر.
لقد ركزنا في هذا التحليل على الجانب التاريخي في الإشكالية (problématique ) المطروحة، وبما أنها إشكالية محورها الأساسي، إن لم نقل الوحيد، هو “التقدم”، فلقد كان لابد من استحضار كل من كانط وهردر. فهذان الفيلسوفان هما أول من طرح فكرة التقدم في التاريخ الحديث فأسسا بذلك فلسفة التاريخ.
وبمناسبة الاحتفال هذه السنة بمرور ثمانية قرون على وفاة ابن رشد فقد رأينا من المناسب استحضاره هو كذلك، خصوصا وقد ورد اسمه في المساجلة التي جرت بين كانط وهردر حول الأساس الذي يجب أن يقوم عليه رصد التقدم على مدى تاريخ الإنسانية. ومن المقارنة بين المفكر الألماني والمفكر العربي طرحنا علاقة كل منها بمرجعيته، فأبرزنا كيف أن ابن رشد لم يكن في إمكانه، تاريخيا، تدشين قطيعة مع جمهورية أفلاطون، التي إنما عمد إلى “اختصار”ـها لعدم توفره على كتاب “السياسة” أرسطو. فقلد كان يعتبر أرسطو “المجدد والمتمم” للفلسفة، وبالتالي كان كل طموحه قراءة “سياسة” أفلاطون بواسطة أرسطو. لقد كان التقدم يتمثل عنده في الارتفاع بجدل أفلاطون إلى “برهان” أرسطو من جهة، والرجوع بـ”الأفلاطونية الحديثة” (الإسكندر الإفروديسي، وثامسطيوس، والفارابي وابن سينا) إلى أرسطو. وبما أن البنيات الاقتصادية والعلمية لم تكن قد عرفت في عصره أي تغيير يسمح بانبثاق فكرة “التقدم”، لا في ذهن الفيلسوف ولا في أفق المصلح الديني، فقد بقي “رجوعه إلى الأصول” سواء في الفلسفة أو في الدين، مقيدا بالنموذج الذي يمثل “التقدم” في الماضي: أرسطو من جهة، وعصر صحابة النبي من جهة أخرى. أما “التقدم” الذي يتجاوز أرسطو، والذي لم يكن ابن رشد يستبعده، فقد كان يبدو له في أفق بعيد، يحتاج إلى مئات السنين. ذلك ما عبر عنه بصدد إمكانية حصول “التقدم” في علم الفلك والطب، إذ لاحظ أنه لابد من أن يمر زمان طويل قبل أن يضيف المتأخر شيئا ذا بال إلى ما قرره الأقدمون في هذين العالمين. (يمكن أن نفسر ذلك بغياب الملاحظة المجهزة بالآلات الدقيقة).
أما كانط فقد أمكنه أن يرى “التقدم” يسير أمامه على رجليه، مسرعا الخطى، بفضل ما تحقق في أوروبا آنذاك من تقدم هائل على صعيد العلم وتطبيقاته.(خاصة علم نيوتن الذي كان الأساس الذي أرسى عليه كانط فلسفته). ليس هذا وحسب، بل إن التقدم السياسي الاجتماعي كان مشهدا يمشي على رجليه في فرنسا عصر الأنوار والثورة، تماما كما أن التقدم الصناعي كان يسابق نفسه في إنجلترا. لقد كانت أوروبا آنذاك تعيش “التقدم” في مختلف مكونات حاضرها وعلى مستوى آفاق مستقبلها. كانت ألمانيا آنذاك في مؤخر القافلة وكان فلاسفتها أكثر وعيا لحقيقة التغيير الذي كان يحصل لدى جيرانها في فرنسا وإنجلترا فرأوا فيه “التقدم” بعينه، فعاشوا على صعيد الحلم ما كان يعيشه هذان البلدان على صعيد الواقع، حسب تعبير ماركس. لقد عاشوا “التقدم” على صعيد الوعي الحالم. ولما لم يتبينوه في حاضر بلدهم بحثوا عنه في تاريخ أوربا ككل، لا بل في التاريخ العام كله الذي أصبح منذئذ خاضعا للمركزية الأوروبية.
ولعل القارئ يتساءل: لماذا هذا الاهتمام بألمانيا، وما الذي يجعلها تحضر بالبال عند كاتب عربي؟
الواقع أن النموذج الألماني قد فرض نفسه على الفكر العربي الحديث والمعاصر كمرآة يقرأ فيها المنظِّرُ العربي واقع العرب وطموحهم. كانت ألمانيا مجزأة فصاغت لنفسها نظرية في الوحدة القومية فحققت هذه الوحدة. وحلمت بـ”التقدم” الذي كان يجري بجوارها فلحقت الركب وحققت في بلدها التقدم نفسه وبخطى أعمق وأسرع.
والعالم العربي الذي استيقظ على مدافع نابليون في حملته على مصر، والذي قطف من الوعود التي تلقاها خلال الحرب العالمية الأولى خيبة مريرة، إذ لم يجن من التحالف فيها مع إنجلترا وفرنسا سوى تمزيقه إلى كيانات مصطنعة، في معظمها، ترزح تحت الهيمنة الاستعمارية، إن العالم العربي الذي وعى مفكروه وعيا عميقا هذه الوضعية “المأساوية” وجد عزاءه، على صعيد الحلم الإيديولوجي، في التجربة الألمانية. وهكذا صيغت “نظرية الوحدة العربية” على الأسس نفسها التي صيغت بها نظرية الوحدة في ألمانيا، وصار التقدم الذي حققته ألمانيا محركا للأمل في تحقيق تقدم مماثل. وقد تعزز هذا الأمل بنوع من القراءة للتاريخ شبيه بذلك الذي قام به كانط وهردر، مع مبالغة في إسقاط حلم المستقبل على وقائع الماضي ليخرج الفكر العربي من ذلك بشعار: “ما تحقق في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل”([15]).
لماذا لم ينجح العرب طوال المائة سنة الماضية في تحقيق حلمهم النهضوي ذاك؟ إنه مهما يكن من أهمية العوامل الداخلية فإن المرء لا يملك إلا أن يلاحظ أن النهضة العربية التي تجسدت في تجربة محمد علي في مصر، في العقود الأولى من القرن الماضي، لم تجهض من الداخل، بل إنما قُضي عليها بمدافع الاستعمار الإنجليزي. أما محاولة الشريف حسين والقوى الوطنية السورية تحقيق وحدة المشرق العربي في دولة واحدة، في مستهل هذا القرن، فقد قضت عليها عملية تقسيم غنائم الحرب العالمية الأولى بين إنجلترا وفرنسا. كما وأن التحالف الاستعماري بين فرنسا وإسبانيا قد قضى على الحركة الدستورية في المغرب في المهد، أوائل هذا القرن، كما قضى على الأمل الذي جسدته ثورة ابن عبد الكريم في التحرر من الاستعمار وبناء دولة حديثة. ومن الممكن النظر إلى تجربة جمال عبد الناصر من هذا المنظور نفسه: إن العدوان الثلاثي عام 1956 كان إنذارا “تاريخيا” توالت بعده إنذارات مماثلة، تنبه العرب، بواسطة أكثر الأسلحة العسكرية تطورا، إلى أن الوحدة والتقدم أمران يتناقضان مع مصالح “الدول الكبرى”، وأن هذه الأخيرة لن تترد في استعمال جميع الوسائل الخ.
هنا تنفصل التجربة العربية في مضمار السعي نحو “الوحدة والتقدم” عن التجربة الألمانية. إن دور العوامل الخارجية مختلف تماما هناك عنه هنا. لقد حققت ألمانيا حلمها فتم بذلك فيها “تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبل”. أما في العالم العربي فقد بقيت قضية “الوحدة والتقدم فيه” هدفا دائما لمدافع وصواريخ الغرب الاستعماري. ولما قَمَعت الأطماع الاستعمارية والمصالح الإمبريالية محاولات القوى الوطنية العربية التي كانت تقودها البورجوازية الناشئة، قبل منتصف الخمسينات (محولاتها في تحقيق التقدم والوحدة)، جاء رد الفعل من شباب الطبقة الوسطى والفقيرة في الجيش فكان حكم العسكر الوطني. ولما ضرب هذا البديل من طرف القوى الاستعمارية أيضا جاء رد الفعل في صورة “صحوة إسلامية”. فليس غريبا إذن أن يهرب بعض الناس إلى الماضي، الوطني منه والديني، يقرؤون فيه مستقبلهم، ثم يعيدون صنع هذا المستقبل في وعيهم بالصورة التي تمكنهم من مواصلة الحلم.
هل سيتغير الوضع في عصر ما يدعى الآن بـ “العولمة”؟
العولمة Globalisationتعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساسا الدولة الوطنية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى تبادل البضائع مع الخارج، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل أجنبي سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به العالم: الكرة الأرضية. وإذا نحن أخذنا بهذا التحديد لـ “العولمة” فإنه سيكون بالإمكان أن نستنتج أن الإشكالية التي شغلتنا طوال الصفحات الماضية تجد حلها -النظري- السريع والتلقائي في نظام العولمة هذا! ذلك أن إلغاء الدولة الوطنية (والثقافة الوطنية عنصر مركزي فيها) هو الطريق الملكية لتحرير الماضي من المستقبل، وتحرير المستقبل من الماضي.
لقد أظهرت الصفحات الماضية بما فيه الكفاية كيف أن الهاجس الوطني، هاجس “الوحدة والتقدم”، هو الذي يدفع الشعوب إلى إعادة بناء الماضي على صعيد الوعي بصورة تجعل تحقيق حلم المستقبل يأتي نتيجة طبيعية لـ”الصيرورة التاريخية”، لـ”منطق التاريخ”!
ولكن هل يمكن الوصول يوما إلى عولمة بهذا المعنى، أي إلى عالم يخلو من الشأن الوطني الذي يتحدد أساسا بالجغرافية والتاريخ والثقافة؟ أما أن تكون وسائل المواصلات والاتصال المعاصرة قد قلصت البعد الجغرافي، بعدَ المسافة، إلى نقطة تتجه نحو الصفر، فهذا ما نراه رأي العين! وأما أن يؤدي إلغاء الجغرافيا إلى التقليل من شأن التاريخ، فهذا ما يبدو منطقيا: فالتاريخ بدون جغرافيا لا يهم الوطنية في شيء، وإذا كف التاريخ عن أن يكون قوميا صار أركيولوجيا وانثروبولوجيا، لا غير! أما الثقافة فواضح أنها إذا تحررت من البعد الوطني فستكون بحق ثقافة سيبرانية CYBERCULTURE ([16])، (الفضاء الاعتباري!)
هل يتعلق الأمر بمجرد افتراضات! قد يكون. ولكن ما يجعل من هذه الافتراضات إحدى ممكنات المستقبل هو أنها اليوم موضوع حلم يختلف عن جميع الأحلام الإنسانية السابقة. لنستمع إلى هذا النموذج:
يقول كاتب معاصر: “هناك نوع آخر من الحالمين. يتعلق الأمر بأولئك الذي يصدرون عن رؤية ليبرالية للمجتمع السيبرنيتي الذي لا يأخذ في حسبانه إلا ” الموانيت” netoyens »، مواطني “النيت” net ، أي شبكة الأنترنيت، هؤلاء الذين يجهلون علامات التعريف التقليدية التي هي الانتماء القومي والانتماء الإثني والدين والجنس والتجذر الجغرافي، والذين هم، بالخصوص، قادرين على الجمع بين أدوات الإقناع الأكثر تنوعا والأكثر شؤما، وضررا وغرابة، والمنتشرة في كل مكان. لقد نشر السيد جون بري بارلو M. John Perry Barlow عالِمُ المستقبليات المشهور وأحد المؤسسين لمؤسسة الحدود الإلكترونية لدافو Davos (…) بيانا سماه “بيان استقلال الفضاء السيبرنيتي”،يقول في مستهله : “يا حكومات العالم المصنع، أيها العمالقة المُتْعَبُون المصنوعون من اللحم والفولاذ، لقد جئتم من الفضاء السيبرنيتي،المأوى الجديد للفكر (…). نحن لا نرحب بكم عندنا. لستم أسيادا في هذا الفضاء الذي نجتمع فيه (…) إن مفاهيمكم القانونية عن المِلكية، والتعبير، والهوية، والحركة والسياق لا تنطبق علينا. إنها مؤسسة على المادة. ولا مادة هاهنا”. نحن بصدد “إنشاء حضارة للروح في الفضاء السيبرنيتي” ستكون:”أكثر إنسانية وأكثر عدلا من العالم الذي شيدته من قبلُ حكوماتُكم”. وفي هذا المنظور، من البديهي أن الدولة لن تعود مصدرا للسلطة ولا لشرعيتها، ولا للهوية”([17]).
هل يتعلق الأمر بنبوءة علمية أم بمجرد أَضغاث أحلام؟
لنقل إنه نوع من “الخيال العلمي” الذي يتحدث عن مستقبل غير منظور. وواضح أنه لابد قبل الوصول إليه من المرور عبر المستقبل المنظور. والمستقبل المنظور يبدأ من الحاضر. والحاضر، حاضرنا الراهن، يقدم كل يوم ألف دليل على أن “العولمة” محكومة، اليوم على الأقل، بمنطق الهيمنة التي تمارسها وتطمح لممارستها على الكرة الأرضية كلها “الدولة الكبرى” في عالم اليوم. وما دام الأمر كذلك، فإن رد الفعل لن يكون شيئا آخر غير التشبث بالجغرافيا والتاريخ، أعني: التمسك بالدولة الوطنية والدفاع عنها. وليس هناك من سلاح للدفاع عن الدولة الوطنية غير الثقافة والتاريخ، وبالتالي “الماضي” الذي يوظف في تدعيم الحاضر. أما ما نشاهده اليوم من “عودة” الديني و الإثني فهو رد فعل مؤقت. وليس من الممكن أن تتحقق “العولمة” من خلال هذين المظهرين. إن الدولة الوطنية الحديثة هي إحدى نتائج الثورة الصناعية في القرنين الماضيين؛ وبما أن العالم يدخل الآن – أو هو داخل فعلا-في عصر تكنولوجي جديد تماما، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن إعادة بناء الدولة الوطنية في عصر الثورة العلمية المعلوماتية informqtiaue؟ هذا سؤال حقيقي في نظرنا، وذلك لسبب بسيط وهو أن الدولة الداعية إلى “العولمة” تتصرف بمنطق الدولة القومية الساعية إلى الهيمنة! فكيف يمكن أن يتصور المرء استجابة حقيقة لهذه الدعوة غير تلك التي تنطلق من منطق الدولة القومية؟
إن حلم كانط بقيام دولة عالمية واحدة أو جمعية دول يتحقق بها السلام على الأرض، مثله مثل حلم ابن رشد بإمكانية قيام مدينة فاضلة “في زماننا هذا وملتنا هذه”، حلم نبيل بدون شك. ويجب أن يبقى مطمحا للبشرية، وموضوعا للتربية في المستقبل. ومع ذلك، ولكي لا تكون خيبة الأمل من عدم تحقق هذا الحلم في المستقبل المنظور، مريرة قاسية، ينبغي العمل على حل مشاكل الحاضر. إن العالم تقترب أجزاؤه اليوم من بعضها بعضا أكثر من أي وقت مضى. وما دام الظلم الذي يستشري فيه، السياسي منه والاجتماعي والإثني، سواء على صعيد البلد الواحد أو على صعيد العلاقات الدولية، لا يجد طريقا للتصفية والتجاوز في إطار علاقات تقوم، لا أقول على العدل وحده فهذا حلم، بل أقول على توازن للمصالح عادل، فإن آليات رد الفعل من المظلومين لن تستغني عن السكنى في ماض ممجد تسقط عليه جميع طموحات المستقبل، وبالتالي التصرف، في هذا العالم القريب بعضه من بعض، بما يمكِّن من إلحاق الأذى بـ”الآخر”، ويزرع الخوف في الحاضر والمستقبل.
إن تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبل يمكن اعتباره من شروط تعميم التقدم والأخوة والتسامح في عصرنا الحاضر. غير معطيات هذا العصر تفرض أن يكون ذلك مصحوبا بتحرير الحاضر من الظلم الاجتماعي داخل كل بلد، ومن الهيمنة ذات الطابع الإمبريالي على الصعيد العالمي.
(*)
[1]– Cf. J. HABERMS, Le discours philosophique de la modernité. Trad. Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz . Ed. Gallimard, Paris 1988, p.105
[2]– نظمها في القاهرة مركز دراسات الوحدة العربية الذي مقره بيروت. وذلك أيام 24-27 سبتمبر 1984
[3]– انظر نص هذا البحث في كتابنا: إشكاليات الفكر العربي المعاصر. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. ط1 1998 ط2 1990 ص 12
[4] – محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية” الطبعة الأولى. دار الطليعة. بيروت 1982. ص 190-191الطبعة الرابعة: مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 1992. ص 207 . هذا وقد أنجزنا مشروع “نقد العقل العربي” في ثلاثة مجلدات: الأول بعنوان: تكوين العقل العربي 1984 والثاني بعنوان “بنية العقل العربي” 1986 والثالث بعنوان “العقل السياسي العربي” 1990، وقد صدرت كلها عن مركز دراسات الوحدة العربية. هذا ونحن نعمل الآن في الجزء الرابع وموضوعه :”العقل الأخلاق العربي”.
[5] – ابن رشد: تهافت التهافت. ضمن ساسة مؤلفات ابن رشد بتحقيق فريق بإشراف محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1998 ص 167-168
[7]– الحديث المتواتر هو نقتله جماعة لا يصح عقلا اتفاق أفرادها على الكذب.
[8]– كتاب لأبي الحسن الأشعري عرض فيه آراء الفرق الإسلامية في مسائل العقيدة وجلها إن لم يكن كلها يكفر بعضها البعض.
[9]– ابن رشد: شرح كتاب “السماء والعالم“. مخطوط مبتور بالمكتبة الوطنية بتونس رقم: 18118 . ذكره جمال الدين العلوي في النسخة التي حققها من “تلخيص السماء والعالم” لابن رشد. كلية الآداب فاس. 1984. ص 47
[10]– ابن رشد . فصل المقال. طبعة جديدة بإشراف محمد عابد الجاري. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 1997. ص 121
[11]– ابن رشد. الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. نفس المعطيات السابقة. ص 99
[12]– ابن رشد. فصل المقال. نفس المعطيات السابقة. ص 90
[13]– محمد عابد الجابري . إشكاليات الفكر العربي المعاصر. نفس المعطيات السابقة. ص 23
30- Samuel P. Huntington, LE CHOC DES CIVILISATIONS. Trd. Jean-Luc Fidel. Editions Odile Jacob. Paris, 1997. pp. 282, 295
[15]– من كبار المنظرين للوحدة العربية في هذا القرن: أبو خلدون ساطع الحصري، وميشل عفلق، وقد ارتبط الأول بنظرية الوحدة الألمانية صراحة، بينما ارتبط الثاني بالرومانتيكية الألمانية.
32- Cf. Pierre Levy. CYBERCULTURE. Rapport au Conseil De l’Europe. Editions Odile Jacob. Paris.1997
33- Mais il est une autre catégorie de rêveurs. Il s’agit de ceux qui ont une vision libertaire de la communauté cybernétique, qui ne prennent en considération que les «netoyens » ces citoyens du «net», du réseau Internet, qui ignorent les signes d’identification traditionnels que sont la nationalité, l’appartenance ethnique, la religion, le sexe, l’enracinement géographique, et qui, pourtant, sont capables de relier entre eux les détenteurs de convictions les plus diverses mais aussi les plus sinistres, perverses ou étranges, disséminés un peu partout. M. John Perry Barlow, éminent futurologue, cofondateur de la Fondation de la frontière électronique de Davos (…) a publié une «Déclaration d’indépendance du Cyberspace ». Elle s’ouvre par ces mots : « Gouvernements du monde industrialisé, géants fatigués faits de chair et d’acier, j’arrive du Cyberspace, la nouvelle habitation de l’esprit (…). Vous n’êtes pas les bienvenus parmi nous. Vous n’êtes pas souverains là où nous nous rassemblons. » Et de défier ouvertement tout contrôle territorial : « Vos concepts juridiques de propriété, d’expression, d’identité, de mouvement et de contexte ne s’appliquent pas à nous. Ils sont basés sur la matière. Il n’y a pas de matière ici. » M. Barlow s’engage à «créer une civilisation de l’esprit dans le Cyberspace. » Elle sera, selon lui, «plus humaine et plus juste que le monde auparavant créé par vos gouvernements ». Dans cette optique, l’Etat n’est à l’évidence en rien source de pouvoir, d’identité, d’autorité légale. ”
RICHARD FALK. Le Monde diplomatique – mai 1996 – Pages 16 et 17