الدعوة الى توحيد اليسار دعوة نبيلة غير ان دون تحقيقها عقبات كثيرة ومهام لا تقل عنها عددا، لابد من تذليلها وإنجازها. لذلك ينبغي العمل على تحديد تلك العقبات وتدقيق هذه المهام للتعامل معها بما يتطلبه القيام بنقد ذاتي محفز على الممارسة السليمة، وفعال في مختلف مناحيها بما لا يحول النقد الذاتي الى حصة من حصص جلد الذات دون طائل.

وأول عنصر ضروري استحضاره هو تصور اليسار المغربي حول الدولة والمجتمع ومختلف القوى السياسية الفاعلة على مختلف ساحات الممارسة على اعتبار ان اليسار لم يولد من فراغ ولم يجد أمامه فراغا على مستوى الممارسة، وبالتالي، فإن تصوره وتمثله لما هو أمامه من قوى هو الذي دفع به الى محاولة بناء تصوراته الخاصة وشق طريقه في ميادين الممارسة. وليس هناك ادنى شك في ان العقود الطويلة الماضية كافية للمبادرة الى اعادة تقييم التصورات التي كونها اليسار حول ما عداه من قوى سياسية في البلاد. ويبدو لي ان هذه هي العقبة الأولى الآن على اليسار تذليلها قبل غيرها لأن في ضوء ذلك يمكن ولوج مسارات في الممارسة واعية بظروفها الموضوعية. وتبعا لذلك ومع ارتباط قوي به، ينبغي استحضار العنصر الثاني وهو تصور اليسار المغربي عن نفسه والدور المنوط به في مسارات التغيير والبناء الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتراب المستمر من المجتمع الاشتراكي ومدى قدرته على التقدم في تحقيق أهدافه وتنفيذ تصوراته. ذلك ان التفكير الجدي في هذا هو مدخل ضروري لتقييم الإنجازات وتكوين رؤية واضحة الى حد كبير حول طبيعة العوائق التي اعترضت اليسار وتحديد مدى مسؤوليته في تحقيق ما تم تحقيقه وفي عدم القدرة على تحقيق ما تبين أنه عصي على ذلك، على اعتبار أن كل دعوة إلى ممارسة النقد الذاتي في أي مستوى من المستويات هو عمليا العمل على تحديد المسؤولية الفردية والجماعية للتصورات النظرية والسياسية التي وجهت الممارسة والأدوات العملية التي اعتمدت في معارك الإنجاز. وبما ان هذا الفحص المعمق لم يتم إنجازه بشموليته الضرورية الى حد الآن فإن هذا يمثل العقبة الثانية الرئيسة امام انتقال اليسار الفعلي من بعض تصوراته المثالية والتبسيطية الى حد بعيد عن نفسه الى امتلاك الوعي المطابق الذي تحتاجه كل ممارسة سياسية وبطبيعة الحال، فإن من بين عقبات القيام بالنقد الذاتي التجاهل أو الرفض المطلق ومن حيث المبدأ لنقد الآخرين بمن في ذلك الخصوم على اعتبار ان كل نقد ولو لم يكن قويا وجوهريا يحتمل تضمنه لبعض العناصر التي يمكن اعتمادها في فهم طبيعة الممارسة وبعض الجوانب في قصورها الذي استطاعت عين الناقد إدراكها بغض النظر عن دوافعه إلى ذلك ولم تكن عين الممارس لتنتبه اليها في خضم الممارسة التي تفرض منطقها وتبعد الممارس عن إمكانية إدراكها.

ليس هناك شك في ان تحولات هامة قد حصلت في وعي اليسار المغربي لضرورة إنجاز مثل هذه التقييمات بل انه قد قام بذلك، كل تيار من موقعه وبطريقته الخاصة من خلال ما يمكن اعتباره بعضا من النقد الايجابي للتجارب الخاصة والتصورات النظرية، ومع الرهانات التي كانت تقوم عليها أيضاً. وهذا ما يفسر هذا التعايش بين مختلف مكونات الحياة السياسية المغربية من مختلف المواقع التي تحتلها. غير ان هذا العمل رغم أهميته هو دون المستوى المطلوب حتى يندرج ضمن ما اعتبرناه النقد الذاتي الضروري. ذلك ان النقد الذاتي المبدع هو ذلك النقد الصريح والواضح للتجربة وليس محاولات الالتفاف عليها تجنبا لهذا الوضوح. ويبدو ان مختلف تيارات اليسار ليست مستعدة بنفس الدرجة والشمولية للقيام بهذا العمل الضروري بما في ذلك التيارات والأحزاب التي حلت نفسها او دخلت في اندماج مع غيرها. وان تثمين بعض من تلم التجارب لا ينفي ان الغائب فيها بالذات هو النقد الذاتي. ويمكن هنا استحضار تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكذلك تجربة نشوء اليسار الموحد وفدرالية اليسار على حد سواء. ولعل هذا الغياب هو ما أثر سلبا على عملية الاندماج في الاتحاد، وعلى تشكيل نوع من الأحزاب الموحدة بواسطة تيارات يسارية اخرى معا. ذلك ان مختلف تلك العمليات لم تنبع عن مواقف تم التأسيس لها من خلال نقد ذاتي جماعي، وإنما هي نتيجة قرارات قيادية تتفاوت في مدى ارتباطها بنوع من نقد التجربة او التفكير الجدي في المستقبل الجماعي لقوى تجمع بينها قواسم مشتركة قادرة على جعلها تقطع أشواطا كبيرة في مسار بناء المغرب الجديد حيث يلعب اليسار دورا هاما في تلك العملية بعد ان تبين له بالملموس ان تشرذمه ليس حتميا وان المبادرة الى التقليص منه تستحق ان تتخذ. قد تكون الدعوة الى توحيد اليسار ترجمة لإدراك مختلف قواه للمأزق العام الذي تتخبط فيه ممارسته غير ان هذا لإدراك ليس كافيا ولن يقوم مقام النقد الذاتي الصريح والواضح لتبنى على خلاصاته تجربة تجميع او اعادة توحيد اليسار المغربي. وهذه مجرد فكرة للنقاش.

* الثلاثاء 5 ابريل 2016

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …