لم يكن من السهل أن أعود إلى سنوات النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، عندما اقترح علي الأستاذ عبد الصمد بلكبير، أن أساهم في تقديم الجزء الثاني من أعداد جريدة 23 مارس.
لقد ظلت سنوات المنفى التي تمتد بالنسبة إلي، من يونيو 1975 إلى مارس 1981، تجثم على ذاكرتي، وتحتل الحيز الأضخم فيها، وتدفع ما عداها إلى الهامش. واستمر هذا الأمر حتى بعد مرور سنين طويلة على العودة إلى البلاد.
وفي نهاية تسعينات القرن المنصرم، بدأت تلك التجربة في الابتعاد عن احتكار الذاكرة، وفي الرضى باحتلال موقع طبيعي فيها قبل أن تتراجع إلى الخلف، وتستقر وراء تجارب أخرى تقل عنها معاناة دون أن تقل عنها أهمية.
وأنا أعود إلى تلك الفترة، أود أن أسجل أنني لم أقرر البقاء في المنفى الفرنسي. لقد غادرت المغرب في أواخر يونيو 1975، مع مجموعة من الرفاق، منهم من كان في حالة متابعة مثلي، ومنهم من كان لايزال يتمتع بحريته. وكان هدفنا جميعا المشاركة في الندوة الوطنية بفرنسا، ثم العودة إلى مواقعنا في البلاد.
ولكي تتضح الصورة أكثر، لا بد من الاشارة إلى ما عرفه المغرب سنتي 1974 و1975، من أحداث صاخبة بعد أن دقت ساعة الحسم في صراع الصحراء، وإلى ما عرفته منظمة 23 مارس واليسار الجذري عامة من أهوال بسبب الخلاف حول الموقف الذي يتعين اتخاذه في هذا الصراع والتطاحن الذي واكب ذلك، وبسبب القمع الذي أتى على الأخضر واليابس، وزج بحشود من المناضلين في غياهب السجون والمعتقلات السرية، أضيفوا إلى الحشود السابقة من مناضلي النقابة الوطنية للتلاميذ، ومنهم أخي عبد الكريم، ومن مناضلي ومسؤولي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومن قادة وأطر اليسار الجذري بمختلف تلاوينه.
وكانت منظمة 23 مارس في الداخل أكثر معاناة من تلك الأهوال بسبب حدة خلافاتها الداخلية التي لم تكن مرتبطة فقط بقضية الصحراء، وبسبب الاعتقالات الواسعة التي عصفت بأغلبية قيادتها الوطنية (اللجنة الوطنية) وبمعظم قياداتها المحلية، وخاصة في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء ومراكش والرباط – سلا. وكان جل الذين أفلتوا من الاعتقال من أعضاء اللجنة الوطنية وأعضاء اللجن المحلية والخلايا القطاعية يتعقبهم البوليس.
وكان الخلاف على أشده بين المنظمة في الداخل التي كانت قد اتخذت في أكتوبر 1975 موقفا ملتبسا من قضية الصحراء، وبين فرعها في الخارج (وكان على رأسه القادة المؤسسون الذين اضطروا الى مغادرة البلاد تجنبا لموجة القمع الشرسة في سنة 1972) الذي تبنى موقفا وطنيا سليما من تلك القضية.
ولم تكن هذه القضية وحدها مبعث الخلاف.. بل تدخلت عوامل أخرى وحساسيات ومنها شروط القيادة والموقع الذي يجب أن تمارس منه هذه القيادة.
في هذه الشروط، جاءت مبادرة رفاق الخارج بإصدار جريدة 23 مارس في بداية سنة 1975 جوابا شجاعا وحكيما على محاولات اجتثاث المنظمة. وذلك باعتبار هذه الجريدة استمرارا أنضج وأرقى وأوسع لأمها نشرة 23 مارس التي كانت تصدر بالداخل ويتصدر غلافها عامل مفتول العضلات يكسر بمطرقته أغلاله (رسمه المرحوم عبد العزيز مريد)، وباعتبارها كذلك أداة لجمع شتات المنظمة والدفاع عن معتقليها، والتعريف بمواقفها النضالية.
وتم إدراج هذا الإصدار في إطار خطة توافقية لإعادة وضع المنظمة على السكة، من خلال تنظيم ندوة وطنية يشارك فيها رفاق الداخل والخارج، تبث بصورة ديمقراطية في التوجيه، وتنتخب القيادة الوطنية.
ساهم في إعداد هذه الخطة رفاق اللجنة الوطنية الذين التحقوا بفرنسا في ربيع 1975 وهم: ابراهيم ياسين، عبد لله زنيبر والمختار قدوري، وذلك في حوار إيجابي مع رفاق الخارج. ومن خلال التشاور مع رفيقي اللجنة الوطنية اللذين بقيا بالداخل (اليوبي بلقاسم وعبد ربه).
وكما سلفت الإشارة، فقد توجهت، في يونيو 1975، الى فرنسا مرورا بالجزائر للمشاركة في الندوة الوطنية التي انعقدت بضواحي مدينة رين الفرنسية في أوائل يوليوز من نفس السنة، وذلك بمعية الرفاق المتابعين: بن الصغير ولقلع واليوبي، والرفاق غير المتابعين يومئذ: الحسناوي، ج طليمات، وبرادة حميمة. وبعد نجاحي في تزوير جوازين فقط، لي ولبرادة حميمة، وفشلي في إنجاز الباقي… لم يلتحق بقية الرفاق بالندوة. واقتصرت مشاركة الداخل فيها على أعضاء اللجنة الوطنية الأربعة وعلى الرفاق: السمهري، الهواري، برادة حميمة، ربيعة الحافظي. وشارك فيها رفاق من خيرة أطر الخارج كانوا على أهبة الالتحاق بالبلاد منهم صلاح المدون ومصطفى بوعزيز والمرحوم بنعزوز. وقررت الندوة إرسال بعثة الى الجزائر لمحاورة الرفاق الذين لم يتمكنوا من حضور أشغالها ووضعهم في صورة هذه الأشغال والإنصات الى آرائهم ومقترحاتهم، قبل عودتهم الى مواقعهم.
حققت ندوة صيف 1975 نجاحا كبيرا في توحيد المنظمة سياسيا وتنظيميا. ويبدو أن مجريات الفترة التي سبقتها وعِبرَها ودروسها، واللقاءات المباشرة بين رفاق الداخل والخارج.. كانت قد أذابت العديد من الخلافات والحساسيات، ويسرت التوصل الى اتفاقات واسعة على مستوى التوجيه والقيادة.
لم أترشح، كعادتي، لا الى اللجنة المركزية، ولا الى المكتب السياسي بعدها. ولكنني لم أرفض اقتراحي الى الهيئتين من قبل بعض الرفاق، ولم أكن أعتبر العودة الى البلاد تخل بهذه المسؤولية. وكانت إشارة بعض الرفاق كافية لتأجيل موضوع العودة، وللتركيز، بدل ذلك، على تكريس جو الثقة، ووضع حد للحساسيات الزائدة.
وقد أكدت لي التجربة فيما بعد أن التمسك بالعودة الى البلاد في تلك الظروف لم يكن موقفا حكيما، رغم ما يتضمنه من التزام بالانسجام بين القول والفعل ومن استعداد للتضحية في سبيل ذلك. لقد سمحت لي تلك التجربة بالإضافة الى تطوير إمكانياتي المعرفية والسياسية بتقديم مساهمة نضالية إيجابية، وبتقليل الخسائر في مواجهة القمع الذي اتسع نطاقه، والتهم جيلا جديدا من المناضلات والمناضلين.
وهكذا تقرر بقائي في فرنسا، ولم أرشح نفسي، ولا رشحني رفاقي للعمل في جريدة 23 مارس. وبدل ذلك كلفت بمهام تنظيمية في إطار المكتب السياسي وفي إطار القطاع العمالي بفرع المنظمة بباريس.
في قلب هيئة التحرير
عندما عادت الجريدة الى الصدور في أكتوبر 1975 بعد انتهاء العطلة الصيفية، كنت أواصل مهامي التنظيمية المختلفة، وأعيش الى جانب الرفاق العاملين فيها في مقر مؤقت سرعان ما تغير بعد الانتقال الى نانطير. وساهمت متطوعا في العدد الثاني عشر بمقالة عن وضعية التعليم بمناسبة الدخول المدرسي لتلك السنة. وتلاحقت، بعد ذلك المقالات والدراسات والمناظرات.. ووجدت نفسي، بواسع العفوية في هيئة التحرير. كاتبا، مصححا، ومعدا مع الرفيق بنسعيد ل»رزم «الاشتراكات الفردية والطرود الموجهة الى عشرات الفروع في فرنسا وبلجيكا والجزائر ووهران والشرق العربي.. وحاملا لذلك الى مكتب البريد.
ولقد كان عاديا، في تلك الأيام، الإقبال شبه الجماعي على كافة الأعمال الصغيرة والكبيرة اليدوية والتقنية والذهنية.
وهكذا ساهم الرفيق بنسعيد بحظ وافر في رقن الأعداد الأولى من الجريدة، واستمر في السهر على إنجاز الإرساليات وبعثها. وشاركت في هذا العمل بصورة متنامية الى أن أصبحت المشرف عليه في الفترة الأخيرة من عمر الجريدة، وهي الفترة التي انتقل فيها إنجازها من مطبعة في روان الى مطبعة «النحلة» التي كان يديرها لبنانيون في قلب باريس. وتكلفنا خلالها، من أجل الحد من النفقات، بأعمال طي وتجميع الجريدة قبل توجيه قسم منها الى وكالة التوزيع، وتوجيه القسم الآخر الى المشتركين والفروع والبيع النضالي المباشر.
ولا شك أن مضرب المثل في هذا الشأن كان هو الرفيق أحمد الحجامي الذي كان يرقن معظم الأعداد التي تلت العدد السادس، ثم بدأ يتجرأ على تخطيط عناوين الصفحات الداخلية، وبعد انتقاله للعمل في مطبعة النحلة، أصبح يتكفل بالتصفيف الضوئي للعدد خارج وقت عمله، وتخلصت الجريدة بفضله، من مهمة تخطيط العناوين التي أضحت آلية، وبالإضافة الى ذلك كان يشرف على إخراج العدد.
كم تكلف 23 مارس ؟!
لم يكن غريبا، في مثل هذه الظروف أن نضحك حتى تسيل دموعنا ونحن نستمع الى الروايات الصحيحة التي نسبت الى الأستاذ علي يعتة رحمة الله، والتي هاجم فيها اليسار جملة وتفصيلا غير متورع عن استخدام قاموس التخوين. وكانت جريدة 23 مارس واحدة من أهم حجج دعواه. حينما قدر كلفة العدد الواحد منها بالملايين. تاركا «للفاهمين» من متابعي كلامه مهمة الإجابة عن مصدر تلك الملايين.
والغريب في الأمر أن الدرس الأساس الذي تعلمه قادة ومناضلو منظمة 23 مارس من تـجربة الحركة الوطنية المغربية التي ورثوا ثلة من خيرة مكافحيها، ومن تجربة الحركة الشيوعية المغربية والعالمية… هو درس الوطن وتحرره ووحدته واستقلاله.. باعتباره الدرس المؤسس والموجه لكافة النضالات.
وعلى الرغم من التصدي القوي والدائم وذي المصداقية للأطروحات الانفصالية في صحراء المغرب التي كرست لها السلطات الجزائرية نفسها، ووظفت في سبيلها تراث وثروات الشعب الجزائري.. وعلى الرغم من مسارعة تلك السلطات، مباشرة بعد التصدي لتلك الأطروحات، الى حجب جوازات سفرها عن بعض المناضلين الذين كانوا قد اضطروا الى حمل هذه الجوازات اضطراراً.. فقد استمر التلويح بتلك الاتهامات الظالمة.
ولم أتوصل الى حد اليوم الى تفسير مقنع للظلم الذي تعرض إليه قادة ومناضلو منظمة 23 مارس الذين ارتفع صوتهم عاليا من داخل محاكمة الدار البيضاء الكبرى في بداية 1976، مدافعا عن مغربية الصحراء. لقد تعرض هؤلاء ومنظمتهم الى ظلم أشد مضاضة من ظلم ذوي القربى. فقد ساد التعتيم على هذا الصوت الوطني الصادق. وتم حشر أصحابه حشرا في خانة العدمية التي كانوا منها براء. فهل يمكن للتنافس والتدافع السياسيين أن يصلا الى حد مثل هذا القتل المعنوي؟ وهل في مصلحة الوطن توسيع دائرة العقوق لحقوقه في استكمال وحدته؟
وإذا تجاوزنا أمر الظلم الموصوف.. فإن التقديرات المالية لكلفة جريدة 23 مارس تقديرات مقبولة، خاصة وأنها صادرة عن تجربة عملية طويلة في مجال الصحافة والنشر للراحل علي يعتة.
وكما أشار أكثر من رفيق، وكما ورد في الأسطر السابقة.. كانت «23 مارس» تصدر بجهد وعرق رفاق وأصدقاء متطوعين بالكامل، وبجهد وعرق رفاق لم تكن «أجورهم» حتى سنة 1978، تتجاوز 300 فرنك فرنسي. وكان إيجار المقر البسيط رخيصا، ويدفعه بتمامه وكماله رفيقان عاملان كاشتراك تنظيمي. وكان الأثاث شديد التواضع ومفتقرا الى ثلاجة.
وكانت نفقات الورق والسحب متدنية (حوالي 2000 فرنك فرنسي) وتدنت أكثر بعد الانتقال الى مطبعة النحلة. وكانت عائدات التوزيع التجاري، والاشتراكات التشجيعية، والبيع النضالي، تغطي القسم الأكبر من النفقات.
وبالعودة الى «أجراء» الجريدة الذين لم تكن «مرتباتهم» تتجاوز 300 فرنك فرنسي حتى سنة 1978… ينبغي التنويه بالروح التضامنية العالية التي كانت تميز العلاقات بين أعضاء المنظمة العاملين والمنقطعين. فبدون تلك الروح كان استمرار العيش متعذرا. وهكذا فقد كانت بيوت عدد من الرفاق مفتوحة في وجهنا كلما سمحت شروط العمل بالتوجه صوبها، وفي مقدمة تلك البيوت كان بيت الأستاذ علي الطاهري وزوجته الصيدلانية الطيبة عفيفة كديرة، وبيت الراحل المختار مرزوق وزوجته خديجة. ولم يكن بقية الرفاق العزاب يومئذ من أمثال حمو بوزيان ومصطفى الرمضاني وايدر أرسلا، والتجمعتي أقل سخاء معنا.
ولم يقتصر التضامن معنا على رفاقنا ورفيقاتنا بل ساهم فيه بصورة استثنائية شقيقتي خديجة وزوجها مصطفى مومن وعدد من أصدقائه. ولقد تعاقب على بيت شقيقتي وزوجها الكثير من الرفاق والرفيقات (بنسعيد، السكيرج، الورديغي، بوعسرية، حنون، التجمعتي، المريني، مليكة الحافظي، اليوبي، الحجامي، مرزوق، القدوري).
وتمتعت بعطلة واحدة ووحيدة خلال فترة المنفى، استغرقت أسبوعا كاملا من غشت 1976 بفضل ضيافة أصدقاء شقيقتي وزوجها وهم السادة: عتيق، وفوزي والمرحوم قبة. وأقمت بصحبة زوجتي مع هؤلاء الأصدقاء وأسرهم في مخيم قروي قريب من شاطيء مدينة دوفيل الجميل. وكانت هذه المرة الأولى التي ألتقي فيها بزوجتي، تلتها ثانية في صيف 1977، وثالثة في صيف 1978. وعندما حاولت التوجه الى فرنسا للمرة الرابعة أوقفها البوليس في ميناء طنجة وسحب جواز سفرها في يوليوز 1979.
والطريف في الأمر أن صهري مصطفى وصديقه عبد اللطيف عتيق كان لهما حضور مميز في توديعنا قبيل رحلة العودة الى الوطن في 8 مارس 1981. فبعد أن تعذر حضور شقيقتي التي كانت قد وضعت مولودتها نجية في نفس اليوم، قام المعنيان بنقلي الى مطار أورلي في سيارة تجارية.
وفي المطار التقط عبد اللطيف للوفد العائد المكون من بنسعيد والمريني ومسداد والطالب والسكيرج وعبد ربه، أحسن الصور. وقد نشرت مجلة «زمان» إحداها في احتفائها بذكرى تأسيس منظمة 23 مارس.
وفي باب التضامن لا يمكن نسيان التضحية الاستثنائية التي قدمها ابن خالي السيد الطاهر عزيزي الذي استضافنا بعد المتابعة مباشرة، أنا واليوبي وبن الصغير، في أواخر سنة 1974 وبداية سنة 1975. ولا يمكن كذلك، نسيان تضحيات الأستاذتين زهرة راميج وربيعة الحافظي والأستاذان محمد جدي والمقدم بشراوي. ولولا احتضان هؤلاء وغيرهم لنا ما كنا لنفلت من المطاردة البوليسية في الداخل، وما كنا لنتجاوز محنة الاغتراب، بصورة أقل إيلاما في الخارج.
إنتاج غزير
وكما هو واضح في أعدادها التي أعادت إحياءها مجلة الملتقى مشكورة.. فقد اهتمت «23 مارس» في المقام الأول بالقضية الوطنية الأولى بالنسبة لمغاربة العقود الأخيرة، ألا وهي قضية الصحراء. وتوزع الاهتمام بهذه القضية بين البناء والتأصيل النظري استرشادا بمبادئ النظرية الثورية وتجارب حركات التحرر الوطني. بما فيها حركة التحرر الوطني المغربية. وبين التحليل التاريخي لصيرورة تشكل الوطن المغربي. ومراحل استهدافه من قبل الاستعمار، وتضحيات شعبه في سبيل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية. وانصب الاهتمام، من جهة أخرى، على التحليل السياسي لشروط استرجاع الأقاليم الصحراوية من قبضة الاحتلال الإسباني، وكشف أهداف المخطط الانفصالي، وتقديم البدائل السياسية والاجتماعية الكفيلة بتحقيق أوسع تعبئة شعبية لدحر ذلك المخطط.
وقام بالجهد الأكبر في هذا الباب الرفيقان محمد المريني ومحمد بنسعيد. حيث أعاد الأول الاعتبار للمسألة الوطنية، وتصدى بقوة للنزعتين العدمية والانفصالية، وحلل مواقف مختلف القوى المغربية من المسألة، وقدم ذلك عبر دراسة مطولة نشرت على حلقات، وأعيد نشرها في المغرب مجتمعة في كتاب. أما الرفيق بنسعيد فقد ساهم في هذا الباب من خلال أحاديثه المطولة مع الصحافة العربية وأعيد نشرها في «23 مارس»، ومن خلال أحاديثه التي خص بها هذه الأخيرة. وربط، الرفيق بنسعيد، عبر هذه الأحاديث، بين النضال الوطني بقيادة جيش التحرير ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي في جنوب البلاد وبين معركة استرجاع الصحراء المغربية. وفند بالوقائع الملموسة أسطورة الشعب الصحراوي، وكشف حقيقة الدوافع المحركة للنزعة الانفصالية.
ووجدت «23 مارس» نفسها مضطرة لخوض سجال قوي ضد رفاق عرب طالما شنفوا أسماعنا بالأطروحات المناهضة للتجزئة والتفتيت. وعندما أصبحت التجزئة والتفتيت خطرا داهما يهدد غرب الوطن العربي سارعوا الى الوقوف بجانب هذا الخطر وأيدوه وتغزلوا فيه، وفي هذا السياق فند أحمد الحجامي «مزاعم رسول البوليزاريو»، ورد الحبيب طالب: «لسنا شعبا عاقرا»، وسعى محمد المريني الى وضع النقط على الحروف من خلال «حوار مع رفيق عربي».
واهتمت «23 مارس» في مقام آخر لا يقل أهمية بقضايا النضال الديمقراطي وأهميته القصوى باعتباره الطريق الوحيد الكفيل بتطوير وعي شعبنا، وتوسيع انخراطه في المعارك الاجتماعية والسياسية، وتمكينه من تحقيق مطالبه المشروعة وحماية مكاسبه المادية والمعنوية. وقد أبلى الرفيق الحبيب طالب أحسن البلاء في هذا المجال، وواصل الجهد في «أنوال».
واحتضنت الجريدة كذلك مناظرات وسجالات مميزة من أهمها ما كتبه الرفيق الحبيب طالب في مناقشة خط وبرنامج حزب التقدم والاشتراكية، وما كتبه عبد ربه في نقد التقرير الأيديولوجي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وقامت دار ابن خلدون، حينها، بإعادة نشر المساهمتين في كتابين.
وأولت الجريدة اهتماما معتبرا لتحليل ودراسة العديد من القضايا الاجتماعية، فنشرت مساهمة مطولة للمرحوم عبد السلام المودن حول «الجذور الطبقية لأزمة التعليم في المغرب»، وقمت بإنجاز دراسة مطولة عن أزمة السكن، وأنجزت دراسة أخرى عن ظاهرة الهجرة العمالية أوضحت فيها ما تجنيه الدول المستقبلة التي تستورد يدا عاملة جاهزة دون أن تنفق شيئا يذكر في تنشئتها وتربيتها وتعليمها وتكوينها. وكم فوجئت وأنا أعاين نفس الدراسة على صفحات جريدة السفير اللبنانية ممهورة باسم مراسلها آنذاك في لندن!
وكانت «23 مارس» قد وضعت على كاهلها، منذ الانطلاق، مهمة الدفاع عن المعتقلين السياسيين الذين كانوا في معظمهم، منتمين الى اليسار الجديد بمختلف تلاوينه ومسؤولين في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ورموزا لحركة 3 مارس. واعتبرت هذه المهمة أحد الدواعي الأساسية لصدورها.
ودافعت الجريدة عن كافة المعتقلين والمختطفين دون تمييز، ونشرت كل الصور التي تمكنت من الحصول عليها، وواكبت التحركات الجريئة للعائلات عامة والأمهات خاصة.
ولم تكن «23 مارس فقط» أداة للتعريف بقضايا ومطالب ونضالات الشعب المغربي، ومواقف وأطروحات يساره الجديد.. لدى الأشقاء العرب، ولكنها كانت أيضا أداة للتضامن مع الشعوب العربية في مختلف بلدانها وخاصة في فلسطين ولبنان ومصر واليمن والخليج العربي، وأداة للتفاعل مع قوى اليسار ومثقفين ومفكرين في هذه البلدان وغيرها.
وباعتبارها أداة للتنوير والتثقيف… لم تكتف «23 مارس» بمتابعة النضالات الأممية من أجل التحرر والديمقراطية، وفضح الانتهاكات الامبريالية، بل سعت الى جانب ذلك، الى التعريف بالتجارب الثورية في فيتنام والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي هذا السياق لابد من التنويه بالمجهود الذي بذله الرفيق محمد بنشقرون في تقريب ما ورد في كتاب «طوفان الصباح» للكاتبة الصينية الأب البلجيكية الأم هان سويين Han Suyin عن العلاقة بين الماركسية والكونفو شيوسية في التجربة الصينية.
الزلط والأنفة
في الربع الأخير من سبعينيات القرن الماضي بدأت أوضاعنا المادية تتحسن نسبيا. بعد أن اضطر بعض الرفاق الى طلب اللجوء السياسي، وبحثوا عن شغل جزئي أو شبه كامل. وكان أحمد الحجامي قد اشتغل في مطبعة وحمل معه إليها «23 مارس». ولم تعد هذه الأخيرة في حاجة الى مقر، وتوزع بريدها وشؤونها الإدارية بيني وبين الرفيق بنسعيد.
وفي هذا السياق، تقلص عدد المتفرغين، وأمكن اقتصاد نفقات المقر.. وتقررت الزيادة في «المرتبات» بأكثر من الضعف، فانتقلت من 300 فرنك الى 700 فرنك. وبالإضافة الى ذلك، فقد مررت لي الرفيقة سامية عباد الغرفة التي كانت تقطنها مع زوجها الرفيق مصطفى مسداد في الضاحية الجنوبية الشرقية لباريس. وكان ثمن إيجارها 300 فرنك. وهكذا أصبحت أكلف المنظمة وجريدتها 1000 فرنك شهريا.
كانت هذه الغرفة الصغيرة تقع، مثل اثنتين مجاورتين، في أسفل إحدى العمارات. وكان الحمام مشتركا بين قاطني الغرف الثلاث. ورغم صغر تلك الغرفة فقد كانت تتوفر على شرفة تطل على مناطق خضراء. وكان الرفيق بوشعيب الهداج عندما يطرق بابي زائرا يسأل ممازحا عما إذا كان الكلب مربوطا حقا!
اشتغلت في هذه الغرفة، التي كنت أستقبل فيها الصحافة الوطنية، وفي مقدمتها المحرر، في ظروف أفضل نسبيا، وحررت فيها معظم مقالاتي في الجريدة خلال تلك الفترة. وأعددت فيها التصور العام الذي اعتمدناه في المكتب السياسي، لجريدة أنوال. واعتكفت كثيرا من أجل إعداد دراستي حول المسألة الزراعية.
في هذه الغرفة أعددت معظم مساهماتي في مجلة «الهدف» لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكنت أوقعها باسم «ياسين طعمة». ولأسباب خاصة لم تصلني التعويضات المادية التي قدمتها المجلة المذكورة.
وفي هذه الغرفة كذلك، حررت معظم مساهماتي في أنوال قبل العودة إلى البلاد، ومنها الحلقات المتعلقة بالمسألة الزراعية، والتعقيب الأول على الأستاذ منير شفيق.
وكما أشار الى ذلك الرفيق أحمد الحجامي، فقد كنا في هيئة تحرير «23 مارس» مكلفين، الى جانب مهام أخرى، بالعلاقات الخارجية للمنظمة. وكانت هذه العلاقات، على المستوى العربي خاصة واسعة ومتنوعة. وقد تبادلنا، في إطار هذه العلاقات تجاربنا وأفكارنا مع ممثلي العديد من التنظيمات التقدمية واليسارية العربية، ولم نبخل على بعضنا بالممكن من الدعم والمساعدة والمساندة.
وأذكر في هذا الباب أحد قادة حزب العمال الشيوعي المصري الذي كان قد وصل الى باريس ناجيا من حملة قمع استهدفت تنظيمه في ذلك الوقت. وكان الواجب يقتضي دعمه في انتظار تغير وتحسن أحواله. وكانت غرفتي الصغيرة هي المرشحة الأولى لاستضافته لأنني كنت أقيم فيها وحيدا وكان يسهل علي التنازل عنها والإقامة مؤقتا في ضيافة الرفيق بنسعيد.
وبعد الرفيق المصري فاجأنا الأستاذ هيثم مناع بوجوده في باريس، بعد مدة قصيرة من اجتماعنا به في نفس المدينة ممثلا لرابطة العمل الشيوعي في سوريا. وقد جاء الى العاصمة الفرنسية هذه المرة ناجيا من حملة قمع شرسة ضربت الرابطة.
تركت له غرفتي التي استقر فيها مرتاحا لبعض الوقت. وكنا نزوره بين الفينة والأخرى أنا والرفيقان الحبيب طالب ومحمد المريني، ورافقنا في إحدى المرات الرفيق اليوبي بلقاسم. وكانت تلك الزيارات تشهد، أحيانا، نقاشات صاخبة.
التقيت الأستاذ مناع مرة في بيت الرفيق عز الدين التجمعتي. وأصر على دفع إيجار غرفتي التي كان يقيم فيها، وكنت، من جانبي، أكثر إصرارا على رفض الدفع واعتباره نوعا من الإساءة. ولتجنب استمرار الجدال وتصاعد التوتر بين بدويين أحدهما من الشرق وثانيهما من الغرب، اقترح الأستاذ مناع اللجوء الى تحكيم الرفيق عز الدين وناداه بصوت عال: هل يتعين علي الدفع أم لا؟ فأجاب بصوت أعلى، وكان في المطبخ المفتوح على الصالون يعد الشاي: نعم عليك أن تدفع!
الكتابة والطبخ
في آخر سنة 1979 اقترح علي أحد الرفاق نصف حصة من العمل في مطعم مغربي صغير كان قد فتح أبوابه حديثا. اشتغلت في البداية ساعات المساء، وعكفت في الأول على غسل الأواني والصحون وتقشير الخضروات مساعدا لمهاجر جزائري شديد اللطف. وبعد فترة قصيرة تمكنت من سرقة بعض الصنعة من صاحبة المطعم وطباخته الماهرة. وأصبحت أعد البريوات بالكفتة وبالكروفيت، وأشارك في إعداد طواجين الدجاج ولحم الخروف بالحامض والزيتون أو البرقوق، علاوة على الكسكس وقضبان الشواء. أما بسطيلة الدجاج فقد توقف تدخلي في شأنها عند إعداد مكوناتها من دجاج مطبوخ، منزوع الجلد والعظم، ولوز مسلوق ومقشر ومقلي ومهرمش مع فائض من البصل والمعدنوس والسكر والقرفة والزبدة والبيض وعدد من البهارات. ولم أتجرأ على إنجاز البسطيلة إلا في بيت شقيقتي.
وفي الوقت الذي حافظ فيه الرفيق الحجامي على ريادته في إعداد أطباق العدس واللوبيا وأجاد، بالإضافة الى ذلك، تحضير الكسكس بالخضر السبع والسباغيتي بالكفتة.. آلت إلي زعامة إعداد الطواجين المغربية. وتحملت، في نهاية 1980، بمساعدة الرفيقة مليكة الحافظي، مهمة إعداد طعام الحفل الشيق الذي أقامه الرفيق الحجامي وزوجته فيلومين بمناسبة ميلاد كريمتهم ليلى، ودعيا إليه معظم رفاق باريس وأسرهم.
بعد شهرين من العمل تقريبا، اقترحت على صاحبة المطعم ونجمته أن أوزع حصة عملي بين فترتي الغذاء والعشاء، وحاولت أن أتكيف مع الوضع الجديد الذي أصبح يتطلب وقتا أطول بسبب التنقل بين جنوب وشمال باريس أربع مرات بدل مرتين. وفي إطار هذا التكيف بدأت أقضي ساعات بعد الظهيرة في مركز بومبيدو الثقافي، أقرأ وأبحث وأكتب. ومازلت أذكر كيف تناولت غذائي في أحد الأيام مستعجلا ثم نهضت مسرعا حاملا أوراقي وكتبي لأتوجه الى المركز المذكور.. فلامتني ربة العمل لوما شديدا، وحذرتني من عواقب الإجهاد على صحتي وعلى جهازي الهضمي خاصة.
وكانت ربة عملي هي السيدة فاطمة الحال المنحدرة من وجدة والأم لفتاة وفتى رائعين. وكانت سيدة فائقة الذكاء وتتمتع بقدرة عالية على التواصل، وتمكنت من الحصول على الإجازة من إحدى الجامعات الفرنسية رغم ضغوط الأسرة والولدين.
لم يسر المشروع كما تمنت صاحبته وواجهته مصاعب وتعثرات كان طبيعيا أن تؤدي الى بعض التوترات في العمل. وفي نهاية يونيو 1980، سلمتني السيدة الحال أجري المحدد في 700 فرنك، وأخبرتني بقرار الاستغناء عني، ورجتني أن أمهلها في موضوع مستحقاتي عن العطلة السنوية. بعد تعرفي على الأستاذ عبد الإله بلقزيز ومهاراته التي لا تضاهى في فنون الطبخ.. وبعد اكتشافي لما يجيد إعداده الأستاذ أقضاض من أطباق سمكية شهية، وبعد معايشتي الطويلة للرفيق الحجامي.. أصبحت قريبا من الاعتقاد بوجود علاقة ما بين الطبخ والكتابة.
جاءت التطورات التي أعقبت توقيفي عن العمل أكثر من سارة. فقد صدر في حقنا العفو الملكي في شهر غشت من السنة سالفة الذكر، وعدنا الى بلادنا ورفاقنا وأهلنا، وأستأنفنا حياتنا النضالية بجهود وتضحيات لا تقل عن سابقاتها.
أما السيدة فاطمة الحال.. فقد تألقت في سماء باريس، وعرفت تجربتها التالية نجاحا فائقا، وأصبحت مضرب الأمثال بين مغاربة العالم.
عود على بدء
لقد تجاوزت، هذه المرة، عادتي القديمة، وأدرجت في الحديث عن تجربة عامة حكايات تتسم بالخصوصية، وتتعلق بشخصي وبأشخاص العديد من رفاقي وأصدقائي.
كان غرضي من ذلك أن أساهم في التعريف بتجربة 23 مارس من داخلها وأنقل بعض صور المعاناة والصبر والاجتهاد وما واكبها من تضامن واحتضان، وما أنتجته من أدب فكري وسياسي غزير، وأرجو ألا أكون قد أفرطت في التفصيل.