كان حظ «الثورات» العربية من إقحام الدين في العمل الاجتماعي والسياسي حظاً عاثراً. وليست المسؤولية في ذلك على الدين، وإنما على الذين يستغلونه في المنازعات الاجتماعية والسياسية، ويَبْنون برأسماله ثروةً سياسية وتمثيلية لا يأتونَها من طريقها الطبيعي (السياسي) مثل خَلْق الله جميعًا في سائر أصقاع الدنيا! ولقد كتبنا، في مناسبات عدّة، ما معناه أن استثمار الدين في عملٍ جماعي-احتجاجي أو سياسي- مزدوج الطبيعة والنتائج، فهو قد يوحِّد الجماعة، ويُعَظِّم لحمتها، ويُعْلي من شعورها بأناها الجمْعية، كما قد يفرّقها، ويدُقّ أسافين الخلاف والتنازُع فيها، ويأخذها – في أحيان من التاريخ – نحو الفتن والحروب الأهلية.
يولِّد استخدام الدين، في الإيديولوجيا السياسية والدعوية، دينامية التوحيد في الجماعة الوطنية كلما كانت هذه الجماعة في مواجهةٍ مع آخر أجنبي، وخاصة إذا كان مختلفًا في الـملّة. في هذه الحال، تنسى الجماعة اختلافاتها الداخلية الفرعية (المذهبية مثلاً أو داخل المذهب الواحد) لتنصهر في كيانية جماعية يؤسِّسها، في وعيها، وجودُ «آخر» يهدّدها في وجودها واستقلالها. غير أنّ استخدامه داخل المجتمع الواحد، في نطاق الصراعات الاجتماعية والسياسية، يولّد – خلافًا للاستخدام الأول – دينامية انقسامية داخل الجماعة، إذْ يشطرُها إلى جماعات متمايزة على حدود تمايُز مذاهبها أو آرائها داخل المذهب الواحد، ويدفع كلّ واحدة منها إلى ادّعاء تمثيل الموقف الديني الصحيح، فتبدِّع الأخرى أو تكفّرها. والنتيجة أن هذا الاستخدام التعبوي للدين، داخل الجماعة الوطنية الواحدة، لا يزوِّر طبيعة صراعاتها الداخلية – كصراعات سياسية على المصالح – فحسب، وإنما ينتهي بها إلى اقتتال داخلي أو ما يشبه ذلك. هذا واحدٌ من الأسباب التي انزلقت بصراعاتها الداخلية، في المجتمعات العربية، إلى الحروب والفتن الطائفية والمذهبية، إنّ الدين سلاحٌ ذو حدَّيْن إنْ أُخرِجَ من حيِّزه الإيماني – التعبّدي والأخلاقي – القِيَميّ، وزُجَّ به في السياسة. وإذا كانت الحركات الوطنية التحررية والاستقلالية قد أحسنت استخدامه – قبل ما يزيد عن نصف قرنٍ – في مواجهة الاحتلال الاستعماري الأجنبي، فإن الحركات الإسلامية، اليوم، بل منذ أربعين عامًا خلت، أساءت استخدامَهُ وتُسيئه في المجتمع الوطني حين تُقحمه إقحاماً في المنازعات على المصالح المادية (الدنيوية): السلطة، الثروة… إلخ.
أصاب «الربيعَ العربي» الكثيرُ من آثار ذلك الإقحام الإيديولوجي للدين في المنازعات السياسية على السلطة. والآثار تلك متفاوتة الكثافة والقوّة من بلدٍ عربي إلى آخر، ففيما انحصرت في تونس ومصر، مثلاً، في حدود انقسامٍ سياسي بين الإسلاميين والعلمانيين، وتنابُذٍ بينهما بالنفوذ والشرعية التمثيلية، بَلَغَ ذراهُ في بلدانٍ أخرى مثل سوريا وليبيا، حيث تكلّم الرصاص بدلاً من السياسة، ورُسمت خطوطُ المفاصلة داخل الشعب الواحد باسم الدين والطائفة والمذهب. وإذا كان المجتمع والدولة قد تضررا من ذلك التنازع والانقسام في تونس ومصر، وأصابهما منه الإنهاكُ الشديد، فقد هَلَكا في سوريا وليبيا والعراق، وأتى عليهما من التمزيق والموت والدمار، في سنوات معدودات، ما لم يشهداه من أهوال طوال قرون !
لسنا نتحيَّف في حقّ الحركات الإسلامية حين نقول إنّ مساهمتَها في أحداث «الربيع العربي» ثقيلةُ النتائج السلبية، وغير ناجعة و- بالتالي – قادت ذلك «الربيع العربي»، في جزء منه، إلى الإخفاق الذّريع في تحصيل أهداف التغيير الذي انطلقت حركاتُه الشعبية الاحتجاجية من أجلها. من النافل القول إن الحديث عن حركات إسلامية، في هذا الباب، ينبغي أن يتحرى الدقة في التمييز لئلاّ يُخْلَط فيها بين مَن كانت سلبيةُ مساهمته محدودةَ الأضرار، ومَن بلغت من الضرر حدودَ تخريب الوطن. لذلك سنحاول أن نعيّـن، بإيجاز، وجوه السلبية في الأداء السياسي للحركات الإسلامية في تونس ومصر، ومصادر تلك السلبية، ووجوه الخطر في عمل الحركات«الجهادية» في بلدان «الربيع العربي» الأخرى:
الخطر على المجتمع والدولة ووحدة الشعب والجماعة الوطنية.
بدت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر شديدة التلهُّف على السلطة، وعلى احتكارها، بعد ثورة 25 يناير وإزاحة المتظاهرين والجيش حسني مبارك من سُدّة الرئاسة. في المحطات كافة، التي مرت بها مصر، من خلع حسني مبارك إلى خلع محمد مرسي، أساء «الإخوان المسلمون» التصرّف: دفعوا بالمرحلة الانتقالية نحو خيارات قُصْوَوِيّة (حلّ الحكومة، ومجلس الشعب، والدستور، وإجراء انتخابات لتشكيل هيئة تأسيسية تضع الدستور، ثم انتخابات رئاسية…)، واعتبروا رئاسيات 2012 نهايةً للمرحلة الانتقالية، وأقصوا شركاءهم في «الثورة» ودفعوا بهم إلى المعارضة، وفرضوا شروطهم في كتابة الدستور واستعجلوا الاستفتاء عليه من دون توافُق، وفتحوا المعارك مع القضاء والصحافة وحرية الإنتاج الفني ثم – أخيراً- مع الجيش، وأسقطوا الشراكة والتوافق فاعتمدوا داروينية سياسية جمعت الجميع ضدّهم في 30 يونيو/حزيران 2013. وكانتِ النتيجة أنهم خرجوا من السلطة بقوّةِ ضغط الشارع وضغط الجيش. في هذه المحطات جميعًا، تصرَّف «الإخوان» تصرُّف مَن يملك الحقَّ الحصري في إدارة شؤون البلاد لأنه، يملك الحقيقة، ولأنه ينفّذ تعاليم السماء في الأرض، ولأنه يملك – إلى جانب التفويض الإلهي – تفويضًا من الشعب. ولقد طبَّق «الإخوان» في سلطة الدولة القيمَ والقواعدَ التي يقوم عليها النظام عندهم في الجماعة: ثقافة السمع والطاعة، كان على الجميع أن يسمع الرئيس ويُطيعه، وكان على الرئيس أن يسمع رئيسَه (المرشد) ويطيعه، فهو مرجِعُه لا الدستور: على قولٍ منسوب إلى مهدي عاكف، مرشد «الإخوان» السابق! وهكذا فإنّ ولع «الإخوان» بالسلطة – التي ركبوا إليها مرْكب الدين – انتهى بهم إلى فقدانها، لأنهم لم يفهموا قواعد السياسة التي لا يمكن فهمها بعقلٍ ديني يُسْقِط عليها مقولاته.
الوطأة في تونس كانت أخفّ منها في مصر لأسباب عدّة، منها أنّ الحضور «الدينيّ» في يوميات تونس السياسية كان دون حضوره في مصر كثافةً وقوّة، ومنها ما تمتعت به قيادة حركة «النهضة» في تونس من ميكيافيلية سياسية قادتْها إلى محالفة حزبيْـن صغيريْن «علمانييْـن» لتأمين غالبيةٍ تسمح لها بحكم البلاد. والميكيافيلية تلك عينُها ما ساعد «النهضة» على الإفادة من أخطاء «إخوان» مصر، والتكيُّف الإيجابي مع ضغوط المعارضة و«الاتحاد العام التونسي للشغل» والمنظمات المدنية للدخول في حوار وطني وإنتاج حكومة وفاق.
غير أن إقحام الدين في المنازعة السياسية على السلطة من مدخل العنف المسلّح، وإطلاق عملية «الجهاد» ضد أنظمةٍ وجماعات سياسية مخالِفة، يأخذ مسألة التأزّم في العلاقة المشتبكة بين السياسة والدين إلى ذراها، ويلقي بنتائجه السلبية الثقيلة على مجمل المصير الوطني في بعض بلدان «الربيع العربي» (في سوريا وليبيا خاصة و، جزئيًا، في تونس ومصر واليمن). لم تندثر معالم الانتفاضات المدنية في بلدان «الربيع العربي»، وتندثر معها شعاراتُها ومطالبُها (الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، الدولة المدنية…)، من وراء ذلك الاستخدام الكثيف للدين، وحَمْلِه على فوّهات البنادق والمدافع فحسب، وإنما اندثرت أوطانٌ أو باتت في حكم الاندثار، جرّاء التمزيق الحادّ الذي تعرَّض له النسيج الوطني فيها، والتدمير العشوائي والمنظَّم لأساسات الدولة ومواردها وسلطتها. هكذا تحوَّل الدين إلى ذريعة لتمزيق الجماعة الوطنية وتقسيمها بدلاً من أن يكون مبدأً من مبادئ توحيدها، مثلما تحوَّل استخدامُهُ السياسي والإيديولوجي، من قِبل الجماعات «الجهادية»، إلى أقصر طريق لإخماد جذوة «الربيع العربي» وسرقة تضحيات قواهُ وركوب نتائجها نحو أهداف أخرى لا علاقة لها بالديمقراطية ومدنية السلطة!