*  الجزء الاول

يكتسي الدستور اهمية بالغة باعتباره معيارا لتصنيف الأنظمة ، و مرآة تفضح الوجه القبيح للمستبدة منها باستعمالها له كتقنية لبسط هيمنتها و سلطتها على اعناق شعوبها التواقة للحرية و الديمقراطية و ضمان صيانة حقوقها المكتسبة ، مستعينة بذلك بأشخاص و هيئات لا تعير اهتماما للأساليب الديمقراطية اثناء وضع الدستور دون ادنى اهتمام لطموحات هذه الشعوب ومطالبها المعلنة.. بل غايتها الاساس هي الالتفاف وإيجاد تبريرات لتكريس الاستبداد و الطغيان طمعا في الحصول على رضى الحاكم و اوسمته ، ضاربة عرض الحائط التضحيات الجسام و كفاح الشعوب من اجل اقرار دستور ديمقراطي يجسد بوضوح شكل و طبيعة نظام الحكم المناسب ، و ابراز الصيغة الحقيقة لمبدأ الفصل المرن لسلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية ، و هي بممارستها هذه تعرض حكامها الى خطر السقوط في الاستبداد و تعريض نظامه الى الزوال بدل الحفاظ عليه ، لآن الاستمرار في كنف الديمقراطية الحقيقية اضمن من الاستظلال بأوهام زائلة و دساتير هشة، تضع حقوق المواطنين على الهامش حيث تكون بدلك معرضة في أي وقت الانتهاك مما يوفر البيئة و الظروف المناسبة للثورة ضد استبداد هذه الأنظمة سواء عبر معارضة و ثورة داخلية او استغلال هذا الوضع من طرف الاعداء الخارجيين..و خصوصا في عصرنا الحالي الذي ازداد فيه الوعي ولاهتمام السياسي للمواطنين و سرعة انتشار الحصول على المعلومة عبر الوسائط الحديثة …
و لكون الظاهرة الدستورية هي نتاج صيرورة تاريخية و تفاعل وترافع وصراع بين مختلف الفاعلين السياسيين و الاجتماعين مما يدفعنا الى و ضع التجربة الدستورية بالمغرب تحت مجهر التحليل و التمحيص لإبراز الثغرات و الاخطاء والنواقص التي تعتري هذه التجربة و التي انطلقت منذ مشروع دستور 1908 الذي لم تكتب له الحياة ثم دستور 1962 الذي قاطعته الحركة الوطنية.. حيث اتبع بمنح دستور 1970 بعد الأحداث الدامية لسنة 1965 و التي كان بطلها الجنرال اوفقير الذي اطلق النار على تلاميذ من طائراته العمودية و فرض حالة الاستثناء من طرف الملك الحسن التاني، و بعد توالي الاحداث ، من خلال محاولة الانقلاب على النظام من طرف الجيش سنة 1971 ثم محاولة اسقاط الطائرة الملكية في احدات الصخيرات سنة 1972 حيث بقي المغرب بدون دستور و بدون مؤسسات دستورية حتى سنة 1976 ، حيث عاشت البلاد ظروف عصيبة عبر تزوير الانتخابات و من خلال قمع “ثورة كوميرا” بالرصاص الحي من قبل قوات الامن التابعة لإدريس البصري سنة 1981 بالدر البيضاء… و تقديم ملتمس الرقابة ضد سياسة الحكومة في 1990، و التي كانت نتيجتها تقديم الراحل الحسن الثاني مستجيبا لمذكرات الكتلة الديمقراطية مشروع دستور على الاستفتاء شعبي في 3 شتنبر 1992، و لكن تزوير الانتخابات و تقرير البنك الدولي حول الازمة التي يعيشها المغرب و سياق تشكيل حكومة التناوب ..و تقديم الكتلة مذكرات جديدة حول تصورها لما يجب ان يكون عليه دستور البلاد و الذي نشر في 7 اكتوبر 1996، و الذي لم يأخذ جميع مطالب الكتلة بعين الاعتبار خصوصا الانتخاب المباشر للنواب و انشاء مجلس واحد من غير مجلس المستشارين و الذي يمكن الادارة من التزوير .. (1)
و رغم اهمية حركة 20 فبراير في تعبئة و تأطير الحراك الشعبي عبر المطالبة بإسقاط الفساد و الاستبداد .. فهي لم تنشأ من فراغ او من تلقاء نفسها بل هي تراكم و نتيجة لتأثر بالواقع و بالانحباس السياسي و الاعتقالات السياسية و عودة التحكم عبر تأسيس حزب اداري جديد لمواجهة الاسلاميين و التحكم في الصحافة و وسائل الاعلام و تشويه الرموز السياسية و الحركات الاحتجاجية بتلفيق التهم لها بالفساد الاخلاقي او المالي.. مما يجعلها امتداد لنفس المطالب التي نادت بها للحركة الوطنية منذ 1908 من خلال الدفاع عن حق الشعب المغربي في الكرامة و الحرية و الديمقراطية عبر دستور ديمقراطي يرقى الى طموحاتها المشروعة…و هو الامر الذي اعلن عنه الملك محمد السادس بخطاب 9 مارس 2011 عبر تعيينه لجنة من الخبراء لتهيئ مسودة الدستور الجديد من خلال مشاورات مع الفاعليين السياسين و اخد بعين الاعتبار بعض مطالب حركة 20 فبراير.. و الذي دخل حيز التنفيذ في يوليوز 2011 .
و من خلال هذا السياق العام للأحداث التاريخية المتوالية و التفاعلات السياسية بين النظام و الاحزاب السياسية و الحركات الشعبية يتضح لنا ظروف نشأة الدستور المغربي لسنة 2011 ، مما يستدعي طرح مجموعة من التساؤلات ..اولها هل احترم واضعو دستور 2011 الاساليب المعيارية و الديمقراطية في منهجية اعداد الدستور ؟ و هل فعلا نجح هذا الدستور في اعادة النظام و الاستقرار للمجتمع و تحقيق طموحاته ؟ و هل لهذه الوثيقة الدستورية دور و اثر في تنظيم العلاقات العامة داخل البلاد بعد مرور خمس سنوات من اعتمادها ؟ و ما هي الضمانات والجزاءات المترتبة اثناء مخالفة النظام و السلطات الثلاث لمقتضيات هذا الدستور ؟ هذه الاسئلة التي سيتم الاجابة عليها وفق التقسيم التالي :
1 – ما مدى احترام المنهجية الديمقراطية في تأسيس دستور 2011 :
2 – تقييم التجربة الدستورية لسنة 2011 بالمغرب و دورها في اعادة النظام و الاستقرار للمجتمع :
3 – هل تطرق الدستور للجزاءات المترتبة اثناء مخالفة النظام و السلطات الثلاث لمقتضياته :
– زهير البكري-
الهوامش
(1) -كفاح الشعب المغربي من اجل دستور دموقراطي-عبد الحق التازي-(الصفحة7 الى 14 بتصرف) وثائق مرجعية.

* الجزء التاني.

بعد ان تطرقنا في الجزء الاول الى الظروف و السياق السياسي و التاريخي للإنتاج الدستور المغربي لسنة 2011 و نضال وتضحيات الشعب المغربي منذ 1908 من اجل اقرار دستور يحترم المعايير الديمقراطية الحقة حتى تتم صيانة الحقوق و الحريات و تحديد اختصاصات السلط العامة و بنية المؤسسات الدستورية من خلال التفعيل الصحيح مبدأ الفصل المرن لسلط وتوازنها..مما يدفعنا الى تقييم هذه التجربة الدستورية المغربية لسنة 2011 من خلال وضعها امام مرآة المعايير الدولية لإنتاج دستور ديمقراطي ، ثم هل نجحت هذه الوثيقة الدستورية كتعاقد بين المجتمع و النظام في ارجاع الاستقرار و النظام للبلاد بعد خمس سنوات من اعتماده ، وهل تطرق لمقتضيات خاصة كضمانات اتناء خرقه من طرف النظام و السلطات الثلاث ..
– ما مدى احترام المنهجية الديمقراطية في تأسيس دستور 2011 :
جاء في تصريح حقوق الانسان و المواطن (1791-1789) المادة 16 على ان المجتمع الذي يتوفر على دستور هو المجتمع الذي تضمن فيه الحريات الفردية و يتحقق فيه فصل السلط من خلال تحديد نشاط الحاكمين واعتبار الشعب مصدرا للسيادة . و على هذا الاساس السياسي يتم التفريق بين الملكية الدستورية و الملكية المطلقة ،بين الدولة الدستورية و الدولة التي لها دستور بين دولة الحق و القانون و دولة القمع و التسلط (1).
و من الاساليب المعروفة بعدم ديمقراطيتها اثناء وضع الدستور هو اسلوب المنحة و يسمى بالميثاق الممنوح ودلك عندما يقوم الحاكم بوضع دستور بمحض ارادته المنفردة دون ان يشاركه فيه الشعب ثم الميثاق التعاقدي الذي لا يكون فيه القرار انفراديا من طرف الحاكم وهو اكثر تقيدا من السابق و خطوة الى الامام نحو الديمقراطية . اما الاساليب الديمقراطية لوضع الدستور فهي التي تكون فيها قاعدة المشاركة الشعبية واسعة باعتبارها مصدر السلطات وهي اسلوب الجمعية التأسيسية و اسلوب الاستفتاء الدستوري..
واعتبارا لدور الشعب كمصدر للسلطة حيث يعتبر المعني الاول بوضع الدستور و افي اختيار الاسلوب الامثل لوضعه.. يتبين لنا من خلال المسار التاريخي لوضع الدستور بالمغرب ان هذا الدور كان مغيبا في هذه التجربة حيث كانت الحضوة دائما للملك ففي عام 1960 عين الملك محمد الخامس مجلسا دستوريا مكونا من جل ألوان الطيف السياسي المغربي، باستثناء حزبين رفضا الدخول فيه مطالبين بانتخاب مجلس تأسيسي للدستور عن طريق الإقتراع العام وهما: الحزب الشيوعي المغربي المحظور آنذاك منذ 1959 والإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان قد انفصل لتوه عن حزب الإستقلال، وأوكل لمجلس الدستور المُعين مهمة وضع دستور دائم للبلاد، وتقديمه للملك قصد المصادقة عليه قبل شهر دجنبر 1962، لكن المجلس فشل في مهامه بعد انسحاب الكثير من أعضائه المحسوبين على أحزاب الحركة الشعبية بقيادة المحجوبي أحرضان، والدستور الديمقراطي بقيادة محمد حسن الوزاني، والأحرار المستقلين بقيادة أحمد رضى اكديرة، وذلك احتجاجا على تعيين علال الفاسي زعيم حزب الإستقلال رئيسا عليه، ليتم إقبار فكرة ” مجلس الدستور ” إلى الأبد.
وفي 7 ديسمبر سنة 1962 أوفى الملك الحسن الثاني بوعد أبيه الذي كان قد وعد بوضع دستور للبلاد قبل انتهاء 1962، ولم يمنعه من ذلك سوى موته المفاجئ إثر عملية جراحية بسيطة على الحنجرة في 27 فبراير 1961، وطرح مشروع دستور ممنوح على الاستفتاء الشعبي، دون أخذ رأي المعارضة فيه أو العودة إلى إحياء فكرة مجلس الدستور، لتُحسم بذلك معركة الدستور والسلطة التأسيسية لفائدة الملك. هذا ” الاصلاح السياسي ” الذي تمثل في وضع دستور ممنوح للبلاد (2) وهو فعلا ما تم الاستمرار فيه في اعتماد دستور 2011 و بتراجع عن فكرة اشراف المجلس الدستوري رغم انه ليس من الاساليب الديمقراطية لوضع الدستور ولكنه يأتي في مرتبة اقل نظرا لتشكيلته السياسية المتنوعة..حيث عين الملك محمد السادس لجنة خاصة و بإرادة منفردة ليس للشعب دور في انتخابها ودون استشارة للأحزاب ولا المنظمات الحقوقية في تشكيلها ..حيث كلفت بمجرد الاصغاء و التشاور مع الفاعلين السياسين و غيرهم ، ووفق مرتكزات سبعة عبارة عن توجه منح الدستور و اطاره الذي لا يجب ان يخرج عنه.. و هذا ما يضرب في الصميم العمق الاساسي للأسلوب الديمقراطي لوضع الدستور و الذي يعتبر انتكاسة ديمقراطية كارثية لعبت فيها هذه الاحزاب دورا سلبيا .. حيث نجد في خطاب 9 مارس 2011 ما يلي:
“…. ومن هذا المنطلق المرجعي الثابت، قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية..
….عملا بما رسخناه من انتهاج المقاربة التشاركية، في كل الإصلاحات الكبرى، فقد قررنا تكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور، راعينا في اختيار أعضائها، الكفاءة والتجرد والنزاهة.
وقد أسندنا رئاستها للسيد عبد اللطيف المنوني، لما هو مشهود له به من حكمة، ودراية علمية عالية بالقانون الدستوري، وخبرة حقوقية واسعة ; داعين مكونات اللجنة إلى الإصغاء والتشاور مع المنظمات الحزبية والنقابية، ومع الفعاليات الشبابية، والجمعوية والفكرية والعلمية المؤهلة، وتلقي تصوراتها في هذا الشأن ; على أن ترفع إلى نظرنا السامي نتائج أعمالها، في غضون شهر يونيو المقبل. وإننا نتوخى من هذه التوجهات العامة، وضع إطار مرجعي، لعمل اللجنة. بيد أن ذلك لا يعفيها من الاجتهاد الخلاق، لاقتراح منظومة دستورية متقدمة لمغرب الحاضر والمستقبل”.
و هو ما يتناقض مع نص الخطاب الملكي الذي وجهه الملك محمد السادس الى الامة بشأن الدستور الجديد حيث جاء فيه :…”فمن حيث المنهجية حرصنا و لأول مرة في تاريخ بلادنا على ان يكون الدستور من صنع المغاربة و لأجل المغاربة”
الشئ الذي يدل على ان اللجنة الخاصة بالدستور جانبت الصواب اثناء عملها على اعداد مسودة الدستور من خلال عدم اقتراح الاساليب الديمقراطية لوضعه على الملك وهو ما يطرح العديد من التساؤلات لان الملك عين السيد عبد اللطيف المنوني، لما له من دراية علمية عالية بالقانون الدستوري، وخبرة حقوقية واسعة…؟ لأننا نعلم الرغبة الجامحة للملك محمد السادس في الرقي بالمستوى الديمقراطي للبلاد وجعله في مصاف الدول المتقدمة ديمقراطيا ..وهو الامر الذي سيؤثر على مضمون الدستور و على مبدءا فصل السلط و جعل دستور 2011 مجرد دستور اقل من دستور ممنوح فتح الباب للنقد ألاذع و السخرية من اعداء الوطن ووثيقة لا ترقى لطموحات المغرب و سعيه نحو ملكية برلمانية حقيقية.. الامر الذي جانب التوجه الذي جاء في الخطاب الملكي من خلال الدعامة التانية من حيث المضمون :”..و اما الدعامة التانية ، فتتجلى في تكريس مقومات و اليات الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي..”(3)
مما افشل هذه التجربة التي ولدت ميتة منذ مهدها مما سينعكس سلبا على مضمونها من خلال تجميع السلط في سلطة واحدة أي في يد الملك رغم المظاهر والعبارات التي تحاول ان تظهر عكس ذلك، و هذا ما يعرض الملكية الى خطر المسائلة السياسية والاجتماعية و الاقتصادية و المواجهة مع الشعب باعتباره نظام شمولي . وهو ما سنوضحه من خلال الجزء التالث.
انشاء لله.

* زهير البكري

الهوامش
(1)النظرية العامة للقانون الدستوري لدكتور الفحصي المهدي الطبعة الاولى 2009 (ص55-85-87)
(2)إدريس الشامخ -قراءة نقدية في التجربة الدستورية المغربية-
(3) نص الخطاب الملكي الذي وجهه الملك محمد السادس الى الامة بشأن الدستور الجديد.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …