أثار تصريح للأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كيمون بتندوف فوق الأراضي الجزائرية، حيث مخيمات الصحراويين التابعين للبوليزاريو (المدعومة من المؤسسة العسكرية الجزائرية)، وصف فيه المغرب والمغاربة ب “الإحتلال”، ردود فعل جد قوية بالمغرب، على مستوى رجل الشارع والدولة. مما كانت نتيجته، المباشرة، خروج المغاربة في تظاهرة مليونية (أكثر من 2 مليون متظاهر) بالعاصمة الرباط، غير مسبوقة، في شكلها وفي موضوعها. حيث لأول مرة منذ اندلاع قضية الصحراء، يخرج المغاربة للتظاهر من أجلها، بهذه القوة الكبيرة. الشئ الذي يؤكد أن القضية تلك ليست قضية الدولة بالمغرب، بل هي قضية الشعب المغربي، وتلك أكبر رسائلها السياسية، التي دونتها بالصوت والصورة كبريات سفارات العالم المعتمدة بالعاصمة المغربية. لكن، ما نود هنا تأمله هو طرح أسئلة موازية حول أهمية ذلك سلوكيا وتاريخيا.
وأول تلك الأسئلة: ما الخلاصة المركزية، التي دونتها المسيرة المليونية الضخمة تلك، لرجل الشارع المغربي بالرباط يوم الأحد 13 مارس 2016؟. والمقصود هنا، الخلاصة التاريخية والسلوكية طبعا. أليست، تعبيرا عن دورة تاريخية جديدة في صيرورة معنى الوجود الذي يعنيه في العالم: “المغربي”؟. أي أن جيلا آخر قد أطل نهائيا برأسه، وأصبح يصنع قدر المغرب الجديد في قرن جديد؟. قد يسميه البعض “جيل المسيرة”، في تواز مع معنى حمولة توصيف “جيل الإستقلال”. ومعنى الجيل هنا، ليس مرتبطا بالعمر، بل بالمشروع الذي يؤطر هذه الجماعة البشرية، في صيرورة التاريخ، دون المجموعة الأخرى.
هل، بهذا المعنى، دخلنا، مغربيا، مرحلة انعطافة جيلية، تكاد تتوازى مع مرحلة انعطافة ما قبل وما بعد 1912 (تاريخ وضع الدولة المغربية تحت الحماية)، التي أفضت إلى تبلور “جيل الحركة الوطنية” كنخبة، منذ نهاية العشرينات، و”جيل الإستقلال” كامتداد شعبي لفكرة الإصلاح والإستقلال، منذ الأربعينات، التي بلورها مشروع التدافع المغربي، ضمن شروط “نظام المدينة” الوليد حينها ببلادنا، لتحرير الأرض من تحكم الأجنبي فيها (فرنسي بالوسط الغني فلاحيا/ إسباني في الشمال وبالصحراء الغربية/ دولي بطنجة)، وتحرير الفرد المغربي من أسباب التخلف التي سرعت ذلك الإحتلال. وهو الجيل الذي فعل وتفاعل مع السؤال المغربي، في أبعاده الداخلية والإقليمية والجهوية والدولية، على امتداد القرن 20 كله. بالتالي، أليس أننا ونحن في 2016، إنما ندخل إلى مرحلة جيلية جديدة، مغربيا، لها مشروعها (الوطني مرة أخرى/ التنموي دائما)، ستمتد على كامل القرن 21؟.
إنه سؤال معرفي، تثيره في المرء، من موقع التأمل الواجب للسياقات والمعاني والرسائل والرمزيات، “مسيرة الرباط” للأحد 13 مارس 2016. لأنها جواب جيلي (جيل المسيرة)، أن المغاربة كما لو أنهم دخلوا لحظة انعطافة تاريخية في صيرورة مواجهتهم لتحدي إعادة بناء الذات، منذ محاولات الإصلاح المغربية المنطلقة في بداية القرن 19، وترسخت أكثر منذ هزيمة إيسلي أمام الجيش الفرنسي المحتل للجزائر، يوم 14 غشت 1844، ثم هزيمة معركة تطوان أمام الإسبان سنة 1860. هنا، يصبح موقف الأمين العام للأمم المتحدة، بن كيمون، أشبه ب “ضربة المروحة” تلك التي تقدح فقط شرارة كامنة. وكل من يعتقد أن “مسيرة الرباط” مفبركة من قبل الإدارة، سيكون ممن يكذب على نفسه. لأن الحقيقة، كامنة في معنى آخر، لرؤية المغربي لذاته كوجود. وفي القرن 21، أصبحت قضية الوجود هذه (مرة أخرى) مرتبطة بالأرض وبسيادة القرار المستقل للمغربي في وجوده وفي أرضه. وهذا أمر يتجدد منذ معارك المغاربة المتعددة ضد احتلال موانئهم (الثغور، طيلة القرنين 17 و 18) أو أراضيهم هنا وهناك، في الشمال (معركة تطوان)، في الشرق (المواجهات مع فرنسا المحتلة للجزائر منذ 1844 حتى سنة 1908)، في الجنوب (المواجهات مع محاولات الإختراق الإنجليزية والإسبانية والفرنسية بالصحراء الغربية منذ 1880).
علينا الإنتباه، أن السؤال الذي يطرحه، مواليد بداية القرن 21 (مواليد سنة 2000)، هو: ما السبب في ما يجري؟. ليتوالد الجواب الذي يرسخ أن المعركة معركة وجود. وأن مسيرة 13 مارس 2016، أنجزها هذه المرة جيل مواليد 1975 (هم الآن في الأربعين من عمرهم)، أي جيل الفعل في القرن 21. لكن، هل بلور هذا الجيل نخبته؟. من يبحث عن تطابق مع تجربة نخبة “جيل الإستقلال”، سيكون خاطئا، لأن لكل جيل نخبته التي يفرزها واقعها الحياتي الخاص. بمعنى، أن نخبة اليوم موجودة، وهي قائمة أكثر في الدولة وفي المجتمع المدني (ونسبيا حتى الآن في المجال السياسي الحزبي). ولأنها في حاجة، مثل أي تجربة مجتمعية إلى “موضوعة جامعة”، فإنها مغربيا، مرة أخرى كامنة في تحدي الدفاع عن “الكيان الوطني” كوجود (catalyseur). مما يمنح ملامح “مشروع مجتمعي” مغربي جديد، أن يولد ويتخلق ويتبرعم، بذات أضلاعه الثابتة، منذ أواسط القرن 19: “الأرض وتحريرها والدفاع عنها / بالتوازي مع مواجهة أسباب التخلف”.
أليست تلك هي الروح المحركة للجيل الجديد: أي التوازي بين الوطني والتنموي. أليس هو هذا مشروع القرن 21 مرة أخرى. إنجاز أسباب التقدم (دولة المؤسسات من خلال الآلية الديمقراطية تحت سقف دستور جديد)، والإنخراط في الدولة وفي المجتمع، في معركة الدفاع عن التراب. ذلك ما تعبر عنه، في معناها كانعطافة مسيرة 13 مارس 2016 (إذ لأول مرة يخرج المغربي بذلك الحجم للتظاهر من أجل الصحراء، ولم يتظاهر قط، منذ اندلاع المشكل سنة 1975، ضد الدولة المغربية لوقف الفاتورة المالية الضخمة التي يتسبب فيها المشكل، والتي هي على حساب حقه في التنمية والتقدم. مما يؤكد أنها قضيته الوطنية الأكبر اليوم). شكرا السيد بان كيمون، أن جعلت “مارد الوطنية” المغربي يخرج مجددا ويتجدد.
الاثنين 21 مارس 2016
*نشرت المقالة بمجلة “روز اليوسف” المصرية،