يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاولة الإحاطة بدلالاته. فالنص عندهم يكشف عن معانيه من خلال عبارته أو إشارته، أو يقوم بذلك من خلال اقتضائه أو دلالته، ولكل مستوى من هذه المستويات سيرورة وحكم وغاية. يتعلق الأمر بمساءلة النصوص بغية استيفاء حاجات إنسانية متنوعة تكشف عنها الدلالات التي تُبنى استنادا إلى تمثيل رمزي لا إلى رغبة في استعادة واقع مفقود. ” فأصول الفقه إنما هو بحث في الدلالات لفظا وجملة، ونصا وسياقا، وذلك عن طريق مبدأ التلازم بين قوانين اللغة في فهم الخطاب، وضوابط السياق في تحديد دلالاته، وبين قواعد الشرع في توجيهها على نحو مخصوص” (1).
ولا ريب في ذلك، فمن شروط الاجتهاد التفقه في اللغة : الاجتهاد توسيع لدائرة السياقات الممكنة من خلال الكشف عن قصديات جديدة، أما التفقه فهو، في معناه العام، الإحاطة بإواليات اللغة وتحديد طريقتها في التعيين والتسمية والتقطيع المفهومي، وطريقتها أيضا في الكشف عن العوالم التي تُبنى ضمن المتخيل والمحتمل والقابل للإسقاط. فبدون امتلاك القدرة على تحديد مجمل الذاكرات القريبة والبعيدة التي تحبل بها الكلمات أو بعضها على الأقل، سيظل فهم النصوص ناقصا أو مبتسرا أو عاجزا عن الذهاب بالتأويل إلى أقصى حالات التدليل التي يمكن أن تستثيرها نصوص جامحة، كما هي حالة النصوص الدينية مثلا.
وهذا ما تؤكده النظرة الأصولية للوقائع النصية. فالأصوليون يركزون على الطابع المفتوح للطاقات الدلالية التي تختزنها وحدات اللسان العربي. وليست النصوص سوى بناء يتم استنادا إلى هذه الوحدات ووفق إكراهاتها.” فالقرآن أُنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تُخاطب بالعام يُراد به ظاهره، وبالعام يُراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وبالظاهر يُراد به غير الظاهر – وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام يُنبئ أوله عن آخره، أو أخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يُعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد ” ( 2).
ولا يتسع المجال هنا لتحديد أنماط التدليل هذه ( تجب العودة إلى كتب أصول الفقه ففيها تفصيل لهذه الدلالات)، ونكتفي بالإشارة إلى أن الأصل في هذا التمييز هو الاعتراف صراحة أن النص ( كل الوقائع الإنسانية في واقع الأمر) لا يفشي أسراره بسهولة، فهو غامض ومبهم بالطبيعة والاشتغال، غموض وتعدد الحاجات الإنسانية ذاتها. وأمر ذلك بين وجلي، فالنص يبني عوالمه الدلالية استنادا إلى وحدات تشتمل بشكل سابق على ممكنات دلالية هي في الأصل سلسلة من السياقات المضمرة من طبائعها الاحتمال والإمكان والكمون، فهي لا ترى بالعين المجردة، ولكنها تُبنى ضمن إكراهات الثقافة وضرورات المخيال الإنساني وتوجيهات التصنيفات المسبقة. وهو ما يعترف به الأصوليون حين يؤكدون تعدد وجوه المعنى وتنوع حالات تجسده كما يشير إلى ذلك الشاطبي أعلاه.
بل هناك ما هو أبعد وأعمق من هذا. فقد كان الأصوليون حريصين على الفصل الصارم بين التأويل باعتباره مساءلة ” بريئة ” للنصوص بغية الكشف عن دلالاتها استنادا إلى ما تبيحه ممكناتها الدلالية الأولى، وبين الاستعمال (3) باعتباره بحثا عن دلالات تمكن من توظيف النصوص خدمة لغاية معينة. ” فلا يجوز في العمل الأصولي تطويع النص الشرعي تعضيدا لمذهب لغوي أو انتصارا لقاعدة نحوية، كما لا يجوز عندهم الأخذ بالنقل الحرفي للمقرر في الكتب اللغوية إذا تعلق الأمر بالمفاهيم الأصولية” ( 4).
ولقد رد بعض الأصوليين ذلك إلى ما يسمى ب” شرف العربية وعبقريتها”، أو إلى قدرتها التعبيرية التي تفوق كل اللغات في تغطية حاجات الإنسان ومناطقه الأكثر غموضا وإبهاما. فالقرآن، في نظر هؤلاء، ” نزل بلسان العرب دون غيره لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها ” (5)، لأنه ” جل ثناؤه خص اللسان العربي بالبيان، وسائر اللغات قاصرة عنه وواقفة دونه “(6). وهذا أمر عار من الصحة، وليس هناك من دليل يثبت ذلك، ولا يمكن أن يقبل به الحس السليم أحرى أن تتبناه النظرة العلمية الدقيقة. وبيان الأمر أننا أمام خاصية لسانية كونية تشترك فيها ألسنة العالم أجمع، بحكم ارتباط هذه الألسنة بتعددية الأبعاد المشكلة للكيان الإنساني. فوجود مناطق للنفعي والعارض، وأخرى للانفعال الخارجي أو الأحاسيس الثابتة، يقتضي وجود مستويات في التعبير، وطرقا مختلفة في تغطية هذه الحاجات، وهو ما يعني أيضا غياب التلازم بين المنطوق الظاهر وبين القصديات الضمنية التي تتسرب في غالب الأحيان إلى هوامش النص ومحيطاته البعيدة في غفلة من لحظة التلفظ وبعيدا عنها.
ذلك أن ” وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة”، كما يرى ذلك ابن حزم في إحكامه (7). فلا وجود للسان تقف وحداته التمثيلية عند حدود الوصف الخارجي للأشياء، ولا تخبئ داخلها سوى حالات التعيين المباشر. فاللسان في المقام الأول شكل رمزي، أي استعادة مجردة لمعطى موضوعي يستعصي على الضبط خارج ما تبيحه آليات التمثيل الرمزي. فالثابت علميا أن كل لسان له طريقته في تقطيع المدرك الموضوعي استنادا إلى خصائصه هو لا إلى خصائص الموجود في العالم الخارجي. ولو كان الأمر على عكس ذلك لثبت المثنى في كل اللغات، كما هو ثابت في العربية مثلا، ولتوحدت رؤيتنا للألوان والأعداد أيضا، ولكان لأشياء الكون جميعها موقع واحد في كل الألسنة. وهذا أمر لا يقبله واقع الحال ولا يجيزه المنطق أو التجربة المشتركة.
وما هو أساس هنا لا يكمن في إثبات أحقية هذه اللغة في التعبير عن كلام الله دون سواها، فهذا أمر لا إجماع حوله، وهو بالإضافة إلى ذلك لاتاريخي ولاإنساني ولا علمي، وحكم القرآن في هذا المجال بين وصريح ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ” ( إبراهيم)، بل يكمن في التسليم باستحالة الإحالة الدلالية الواحدة والوحيدة. وتلك ميزة كل اللغات، فالمعنى ليس معطى قبليا، بل هو بناء بعدي، كما تشير إلى ذلك تصنيفات الأصوليين أنفسهم للدلالة. فالمعطى الموضوعي أوسع من التمثيل وأغنى منه. والقول بخلاف ذلك، معناه ادعاء القدرة على الإحاطة بمعنى كلي صافي ونقي ومودع في النص في غفلة من القارئ وفي غفلة من التاريخ والممارسة الإنسانية.
وفي جميع الحالات، فإن هذا أمر تأباه طبيعة المعنى وتأباه آليات التمثيل ذاتها، فلا وجود لتأويل كلي نستطيع من خلاله ” وضع اليد ” على كل الدلالات الممكنة، إلا إذا كان بإمكاننا الادعاء بوجود زاوية نظر واحدة ووحيدة نطل من خلالها على كل مكنونات الذات الإنسانية. وهذا أيضا أمر لا يمكن القبول به، وقد رفضه تراث الإسلام من قبل، رفضه في الفقه وعلم الكلام ورفضه في التفسير أيضا. وهنا أيضا يؤكد النص القرآني ما يجحد في قبوله الكثيرون من المشتغلين بتأويله ” وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب” ( آل عمران آية 7). وهي دعوة إلى التأويل لا نهي عنه، كما يبدو ذلك من ظاهر النص. فما دام التأويل الصحيح ( أي المعنى الحقيقي للنص ) لا يعلمه إلا الله، فإن كل تأويل إنما هو بحث عن جزئية دلالية ممكنة مدرجة ضمن سيرورة تبنى ضمن السياقات المتنوعة، لا ادعاء بامتلاك لكلية الدلالة المودعة في النص.
فما تستبعده الآية وتدينه هو الاستعمال المغرض، أي التأويل الهادف إلى زرع الفتنة زعزعة القناعات : ” فأما الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله ” (آل عمران آية 7)، فالزيغ ليس خطأ ولا يمكن أن يكون زلة، إنه قصد سيء مسبق ومشبوه غايته من التأويل استنبات توجه على حساب آخر أو تبرير هذا السلوك دون ذاك. وهو ما لا يدخل في إطار الخلاف الذي يتحدث عنه الأصوليون، بل هو حصيلة استقطابات إيديولوجية تروم تحقيق غايات ” أرضية” صريحة ولا تبحث عن ثواب يأتي من السماء.
والحاصل، كما يقر بذلك الأصوليون وكل العارفين بأسرار اللسان، أن المعنى في ذاته لا متناه. ” فحكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة ” (8). وهذا ما يبيح لنا النظر إلى المعنى باعتباره سيرورات تبنيها الغايات التأويلية، وليس كما سابقا ومكتف بذاته. ولو كان الأمر غير ذلك لصح القول بالقراءة الواحدة والمعنى الواحد، والسياق الوحيد، وهو ما يفنده تنوع المذاهب وتنوع أحكامها بل تؤكده الصراعات والتنكيل بالفقهاء والأئمة في التاريخ الطويل للإسلام. لذلك، وجبت النظرة إلى المعنى باعتباره كيانا متعددا ومتشعبا في الوجود و المسارات والتحقق، فالفكر الإنساني ناقص بطبيعته، ويشتمل على الضمني والممكن والمحتمل كما يؤكد ذلك بورس.
وبناء عليه، فإن الأحكام ليست معطى جاهزا وقائمة بذاتها وتتمتع بوجود قبلي مثواه النصوص وليس فعل التأويل ( وإن وجد هذا الوجود فهو وجود في ذات الله لا خارجها، باعتباره الذات الكلية التي تنتهي عندها كل تناقضات الوجود). استنادا إلى هذا، فإن الأحكام هي نتاج سيرورة أخرى؛ إنها مبثوثة في اللغة، بسياقاتها القريبة والبعيدة، بشكل صريح أو خفي أو متوار أو يستعصي مطلقا على الإدراك والضبط، إلا ما يبيحه الاجتهاد، أو يشير إليه التأمل الصوفي، أو ما يمكن الوصل إله من خلال مضاعفة فرضيات القراءة وتنويعها.
وهو ما يعني، من جهة ثانية، أن الفعل الإنساني ذاته، وهو أصل الأحكام ومبررها الأول والأخير، لا يدرك من خلال تحققاته المحسوسة ( النسخة التي ترى بالعين المجردة)، وإنما يتم تدبره من خلال صورته داخل اللغة وقوانينها، ولسنا في حاجة هنا أيضا للوقوف عند تباينات التقطيع المفهومي استنادا إلى المعطى الموضوعي الواحد، وهو الأمر الذي يترتب عنه القول إن كل تمثيل يشتمل بالضرورة على جزئية تأويلية، فما يُرى وما يُسمع ويدون باعتباره كذلك إنما يتم استنادا إلى مصفاة هي الموحد للرؤى والضامن للتواصل وهي الخالقة للصورة المجردة كذلك. لذلك، فإن ما يُمثل لا يعيد إنتاج صورة أصلية عن الممَثل، بل يقوم برسم حدود صورة مجردة لا يستقيم وجودها إلا حين تتخلص من كل أشكال تحققها. ولهذا السبب، يسلم الناس بأن الفعل يصاغ ويدرك ويؤول باعتبار موقعه داخل اللسان وضمن إكراهاته، لا ضمن الفعل الإنساني المباشر، فالقاعدة التي تصدق إلا على حالة واحدة لا يمكن أن تكون مبدأ عاما أي قانونا علميا منه تستنبط الأحكام. لذلك، فنحن لا يمكن أن نعرف عما وصلنا من الوقائع، التي هي أصل التشريع وأصل القياس والاستنباط أو الافتراض أو التناظر، إلا ما يسمح به هذا اللسان ويجيزه.
وهذا ما يبرر القول إن استنباط الأحكام هو حصيلة فعل للتدبر ( قراءة تبحث عن العام أو القابل للتعميم)، فلا وجود لحكم سابق على القراءة أو متعال عليها : لقد ألغيت في التاريخ الطويل للإسلام أحكام كثيرة أو استبدلت بأخرى أو استحدثت أحكام جديدة ( يحرم على النساء سياقة السيارات في السعودية، ولن يطول بنا الزمن كثيرا حتى نرى من يحلل السياقة ويستحسنها). وفي هذه الحالة أو تلك، فإن الأمر يتعلق باستعادة لقصدية لا تقبلها بعض القراءات، ولكنها ممكنة ضمن أخرى، وهي التي ستكون الأصل في الحكم الجديد ومبرر وجوده. وبعبارة أخرى، فإن الاقتراب التأويلي، لكي يكون كذلك، لا بد له من الاستناد، كما يقول الأصوليون، إلى ” دليل معتبر” هو مفتاح الفهم والتأويل، وعليه الاعتماد من أجل استخراج قاعدة للفعل. وهو ما يعني بعبارة أخرى استنبات النصوص ضمن سياقات جديدة هي غير سياقاتها الأولى، وهو ما تتطلبه الشروط الحياتية الجديدة.
ومع ذلك، فإن ” الدليل المعتبر” ذاته ليس معطى مفصولا عن سياق نظرة المؤول وأهوائه ومبررات الاستعمال أيضا. وحكم الاستعمال ليس هو حكم التأويل، فالثاني يخضع للتوجيهات الأولية للموضوع، أما الأول فيكيف المعطى وفق ما يقتضيه الموقف المسبق. إن التأويل كشف عن طاقة دلالية داخلية مهدها عناصر النسق التعبيري ذاته، أما الاستعمال الحر فهو إثارة للمخيلة، أو هو قراءة مرتبطة باستراتيجية أخرى – إيديولوجية، سياسية، دينية – لا علاقة لها بالقصديات التي يمكن أن تشتمل عليها الوقائع (9). ولهذا السبب، فإن الاجتهاد ذاته يستند، لكي يتحقق، إلى فرضيات مسبقة هي أصل التأويل واتجاهه وغاياته، وهو ما يتحكم في طبيعة الأحكام ويحدد سعتها أو ضيقها، شدتها أو لينها. إن التأويل يتم في هذه الحالة وفق غايات نفعية، أو فرضيات مسبقة، أو هو كذلك في حدود وجود فرضيات للقراءة.
وما يعود إلى ” رفع الضرر” و” سد الذرائع” وغيرهما من الحالات المشكلة لأصول الأحكام لا يمكن أن يخرج عن دائرة استراتيجيات الاستعمال هذه. وهي أحكام تستبق الضرر ولا تكتفي بمعاقبته، وما كان لأحد أن يخلط بين ” الضرر” أو “الذريعة” في حجمهما الحقيقي، وبين صورتهما المجردة التي تتخذ منطلقا لاستنباط الحكم. فالضرر حقيقي ومرئي وملموس، أما قياس حجمه وامتداده وتأويله فهو من تقدير المؤول. إلا أن المؤول ليس استراتيجية كلية توجد خارج كل الأهواء ولا تحكمها ” مصالح ” الوجود الإنساني ذاته. لذلك فهو لا يكتفي بتأويل ما في النصوص، بل يؤول ما في نفسه من مسبقات مصدرها التوجه الفكري والميل والاستعداد والأهواء. وهنا مكمن الخلل ومصدر كل التباينات في قراءة النصوص وخطر تحويل اتجاهها خدمة لمبدأ ” كل ما من شأنه”.
وهناك ما هو أهم من كل ما سبق. إن موضوع التأويل ليس نصا من نصوص الأرض، فالنص الديني خلاف نصوص الدنيا، إنه عميق وعام وشديد الكثافة ويحكمه هاجس السمو والتعالي واعتناق كل السياقات الممكنة. إنه بذلك يطمح أن يكون عابرا لكل الأزمان ( أي لا زمني). وذاك سر معناه المضاعف ( أو معانيه المضاعفة)كلما اقتربت منه ازداد تشعبا وتملصت معانيه وانتشرت في كل الاتجاهات. لذلك يعتقد البعض ( المتصوفة مثلا) أن تحريره من السياقات المباشرة هو السبيل الوحيد نحو الدفع به إلى أن يسلم دلالات أخرى مخبأة في الوجه الخفي للحكايات أو في صور مشخصة تمثل أمامنا على شكل جزئيات حياتية مألوفة. لذلك لا يكترث المتصوف في تأويله لوجود أو غياب قاعدة للفعل، فاللذة عنده هي الكشف عن حالات التسامي المبثوثة في لغة النص ذاتها.
والثابت في هذا الأمر أن الكم الدلالي لا يمكن الوصول إليه من باب التصريح والمنطوق المباشر، بل يجب الإمساك به من باب الإشارة والإيحاء والتلميح. والفرق جلي بين نشاط يقوم على استنطاق معطيات نصية ليست محكومة بهاجس الوصول إلى قاعدة للفعل، وبين تأويل يستند إلى غايات استعمالية. ولنا في التاريخ الإسلامي ما يبرر ذلك ويؤكده. فالفرق بين ” الفرق ” لا يستند، ولم يستند، إلى خلاف حول التأويل. إنه يقوم، على العكس من ذلك، على تباين في الخلفيات والمصالح التي تتحكم في الآليات التأويلية، الإيديولوجية منها والسياسية، وربما الطائفية أيضا.
ومن هنا كان الخلاف الذي يتحدث عنه الأصوليون ويبحثون عن سبل لتدبيره. والاعتراف بوجود الخلاف وضرورته هو اعتراف بجزئية القراءة ونسبية الأحكام، واعتراف بتضارب المصالح أيضا: مصالح السلطة والجماعة والفرقة وربما الفرد أيضا. وهو كذلك اعتراف بضرورة الفصل بين مقولتي ” الصواب ” و ” الحق ” كما يرى ذلك الأصوليون عن حق، فالصواب أو الخطأ هما حصيلة لفعل التدبر، وبذلك وجب إدراجهما ضمن زمنية معدودة تلغي وتضيف وتعدل وتؤجل وتعجل، وتتقدم وتتراجع وتكيف الحكم وتراعي ” خصوصية السبب وعموم الحكم “، وتراعي كل ما يؤكد تعددية الأبعاد الإنسانية وغناها. أما الحق فمجرد وعام، أو هو صيغة مثلى لفعل إنساني كلي غير قابل للتحقق. وهو بذلك متعدد التجليات والمظاهر. لذلك، فإن طريق الحق لا يمكن أن يكون واحدا، وإلا أتلفت الغاية من التكليف، فالتكليف ليس خلقا للتطابق بين البشر، بل هو إسقاط لفكرة التنوع في التحققات التي هي وحدها ما يغني الوجود ويقوده إلى الرقي المتصاعد.
لذلك فالخلاف، بما هو ” تضاد ” و” تقابل” و” تباين” في الرؤى والمصالح والتقديرات الشخصية، لا يتم داخل البناء الثقافي الواحد، ولا تجب إدارته بالعودة إلى تأويل أصلي واحد تتوحد داخله كل الرؤى. إن القيام بذلك يقودنا حتما إلى البحث عن تقابل أصلي بين حالات للتشابه وأخرى للاختلاف، حيث يُربط الوجود الشرعي والمقاصدي بفكرة التشابه كحالة نهائية مثلى لا شيء بعدها، وينظر إلى الخلاف باعتباره ما يأتي من العرضي والزائل، أي كل ما يمكن أن يكون نتيجة تأويل خاطئ. إنه بحث عبثي في جميع الحالات.
والحال أن التشابه لا يمكن أن يكون أصلا، فهو في أحسن الحالات علاقة شبيهة بالعلاقات الأخرى، فهذا الشيء يتشابه مع هذا الشيء في حدود اختلافهما مع شيء آخر وليس في اتحادهما. والحاصل أن التشابه هو علاقة وليس أصلا، أي نقطة بداية لا شيء قبلها، وهو بذلك شبيه بعلاقات أخرى منها التقابل والتضاد والتناظر وما شئتم من العلاقات التي يصاغ وجداننا وفكرنا وميولاتنا، نحن البشر، داخلها ومن خلالها، ونتحدد باعتبارنا كائنات منتجة للاختلاف لا التطابق. وستظل الرغبة في الوصول إلى دائرة تنتهي عندها كل العلاقات الممكنة حلما يسعى من أجله الإنسان ويكد ويجتهد ويصارع ويقاوم : سيرورة تقود إلى مآل.
لذلك، فإن ” الأصل” هو حالة افتراضية للعمل، وليست حقيقة موضوعية. فالله تعالى يسقط حالة مثلى لا يمكن أن تتم ضمن الزمن المرئي ومن خلال الفعل الإنساني، وهي الحالة الكلية التي يمثلها العالم الآخر حيث يتم الفصل النهائي بين طرفي الوجود الشر والخير باعتباره – أي الفصل- حكما نهائيا يستعيد طولية الزمان على شكل دائرتين تشيران إلى كمال كلي مجسدا في عالمين لا رابط بينهما : الشر في جهة والخير في جهة أخرى. إن الأمر لا يتعلق بحالة إيجابية ضمن إيجاب مطلق، بل ” فصل بين الخير والشر والقضاء نهائيا على قوى الشر لكي يعود العالم طيبا ونقيا وكاملا كما كان، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني ” ( 10).
وعلى هذا الأساس، إذا كان الحق واحدا، فإن السبيل إليه لا يمكن أن يكون كذلك. فطرق شتى تقودنا إلى تملي عظمة الكون وخالقه. لذلك وجب ربط الخلاف بتعدد السبل المؤدية إلى الحق. ومتى تم ذلك، ثبت أن الخلاف أصل وليس عرضا، وهو جوهري وليس تفاوتا في التقدير. وحينها سيتحول الخلاف إلى اختلاف، وحكم الخلاف ليس هو حكم الاختلاف. فالخلاف مضادة وتقابل وتنازع حول الحق في امتلاك هذا المعنى دون ذاك، أو هذه المعاني دون تلك، بل قد يكون صراعا يقود إلى التطاحن والاقتتال وتنظيم حملات القمع والترهيب كما تشهد على ذلك الكثير من الوقائع التي عرفها التاريخ الإسلامي. لذلك، فإن الخلاف يستدعي جوابا تقبله الثقافة وترضى عنه وتجيزه باعتباره يمثل حالة توازن قائمة على التسامح العرضي لا الاختلاف المبدئي.
أما الاختلاف فشيء آخر، بل هو نقيض الحالة الأولى. إنه تعدد وتنوع في الرؤية وتباين في توزيع المضامين واستثارة ردود الأفعال. إن الخلاف مرتبط بإدارة شأن محلي لا تُفهم مراميه وغاياته إلا ضمن الثقافة التي أنتجته، أما الاختلاف فهو موقف أو حالة وعي يجيز كل الثقافات الإنسانية بما هي إفراز لسلوك تحكمت فيه عوامل متعددة منها التاريخ والجغرافيا واللغة والمعتقدات.
إن الأمر يتعلق بعودة صاحية إلى ماهية الإنسان ذاته. فإنسانية الإنسان، كما يقول الشيخ حسين فضل الله، سابقة على الكفر والإيمان ” لذلك فالعدل لا دين له، فالعدل لكل الناس، والظلم لا دين له فهو مرفوض من كل الناس”.(11) ولهذا السبب كُرم الإنسان لإنسانيته قبل أن يتم له ذلك استنادا إلى مبدأ يعتنقه أو عقيدة يؤمن بها. ” فالإنسان، وإن كان موجودا من قبل علل كثيرة، فإن علته التي هو بها موجود بذاته هي الإنسانية، لأنه إنسان بذاته ” (12). ولا شيء في الوجود يمكن أن يعد ضمانة على هذه الإنسانية أكثر من الاختلاف الذي يجيز كل الخلافات إلا ما يمس إنسانية الإنسان.
(*)الهوامش
1- محمد سالم أبو عاصي: الدلالات وأثرها في تفسير القرآن، دار علي للطباعة والنشر، 1997 ص 8.
2- أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات، الجزء الثاني دار المعرفة بيروت، المجلد الثاني، ص64-65.
3- Umberto Eco : Lector in fabula, éd Grasset 1985, p76
4- عبد الحميد العلمي : مسالك الدلالة بين اللغويين والأصوليين، 2000 ص11 ويحيل المؤلف إلى كتاب بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية.
5- الشافعي: الرسالة، ص 50 ذكره عبد الحميد العلمي، المرجع السابق ص 6.
6- ابن فارس : الصاحبي ص 16، ذكره عبد الحميد العلمي، المرجع السابق ص 5.
7- ابن حزم الظاهري: الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، المجلد 1-4 ص 35.
8- الجاحظ : البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر ، المجلد الأول ص76.
9- انظر سعيد بنكراد : التأويل بين الكشف والتعدد ولانهائية الدلالات، علامات 25 ، 2006، ص 14.
10- فراس السواح : الرحمن والشيطان، دار علاء الدين ، 2000، ص 11.
11- مجلة الوعي المعاصر، حوار مع الشيخ حسين فضل الله، العدد 8-9 ربيع 2002.
12- ابن رشد : تفسير ما بعد الطبيعة، ذكره محمد المصباحي في : ” الحرية عند ابن رشد، بين العقل النظري والعقل العملي”، عالم الفكر المجلد 33 يناير مارس 2005 ص57.