تدعو الناشطات في الحركات النسائية عموما إلى تحقيق مجموعة من المطالب التي تعزز مكانة النساء في المجتمع، على رأسها المساواة بين الجنسين في جميع مناحي الحياة. وتؤكد هذه الحركات والمواثيق الدولية على السواء على ضرورة المساواة الحقوقية والاجتماعية وأهميتها لأنها تسمح بتحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي. لكن مطلب المساواة بين الجنسين يتعرض لمجموعة من الانتقادات اللاذعة والهجوم المبني على أفكار مغلوطة بتهمة التأثير سلبا على توازن المجتمع ومخالفة الطبيعة البشرية للرجال والنساء. لكن الانطلاق من العدالة الاجتماعية التي حث عليها الدين الإسلامي لصالح النساء والرجال من أجل الوصول إلى المساواة وتحقيقها يمكن أن يصحح هذه الأفكار التي تحيط بمطلب المساواة. ألا يمكن القول إذن بأن تحقيق العدالة الاجتماعية سبيل للوصول للمساواة؟ ألا تترتب عن العدالة الاجتماعية بالضرورة المساواة بين الجنسين؟
تُعرف منظمة اليونيسيف المساواة الاجتماعية بكونها تمتع “النساء والرجال والفتيات والفتيان بنفس الحقوق والموارد والفرص والحماية. وهي لا تتطلب أن يكون الفتيان والفتيات أو النساء والرجال متماثلين أو أن تتم معاملتهم تماما على حد سواء. ولا يمكن في الواقع تحقيق المساواة بين الجنسين في الغالب عبر تمكين كل شخص من نفس الخدمات والفرص والحماية وبنفس الطرق.”[1] ويبين هذا التعريف أن المساواة لا تعني بالضرورة الحصول على فرص مماثلة أو استخدام نفس الوسائل لتحقيقها دون استحضار العدل. وبالتالي يمكن اعتبار العدالة الهدف الرئيس الذي تتفرع عنه المساواة. ويعد تعزيز المساواة بين الجنسين أحد الأهداف الإنمائية للألفية وما بعد 2015 التابعة للأمم المتحدة نظرا لأن تمكين النساء من حقوق إنسانية مساوية للرجال يمكن من تحقيق التنمية المستدامة عبر إشراك النساء في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
في المقابل، تحيط مجموعة من الأفكار الخاطئة بمطلب المساواة الذي يُنظر إليه كسبب يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي وغاية تخالف الطبيعة الإنسانية وتتعارض مع الوظيفة الفطرية للجنسين. وتُلصق المساواة بمواضيع أخرى تنأى عن جوهر هذا المطلب مثل الحرية الجنسية رغم أن الناشطات في الحركة النسائية الإسلامية مثلا يؤكدن على ارتباطه بالمساواة الحقوقية والقانونية والاجتماعية التي تدعم النساء ليكن عناصر فاعلة في المجتمع.
ويمكن اعتبار المساواة بين الجنسين جزءا من الكل المتمثل في العدالة الاجتماعية ومساواة صغرى تتفرع عن المساواة الكبرى ألا وهي العدالة. وبالتالي فإن توخي العدل بين الرجال والنساء كفيل بتحقيق المساواة بينهم. وتبقى العدالة الاجتماعية المساواة الكبرى والإطار الشامل الذي تترتب عنه مجموعة من المطالب النسائية، بما فيها المساواة بين الجنسين. وتُعد العدالة الاجتماعية مبدأ جوهريا سياسيا وأخلاقيا يهدف إلى تحقيق مساواة حقوقية وتضامن جماعي يسمحان بتوزيع عادل ومنصف للثروات، سواء أكانت مادية أو رمزية، بين أفراد المجتمع[2]. فبما أن تحقيق المساواة يستدعي توخي العدالة، فإن العدالة الاجتماعية نوع من المساواة له أهميته الجوهرية في تحقيق الصالح العام، إذ تسود على غيرها من المفاهيم المقاربة كالمساواة والحرية لأنها لا تقف عند حد معين[3]. فعلى سبيل المثال، لا يمكن التمادي في الحرية لأن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، أما العدل فلا حدود له. وبالتالي يعني إرساء العدالة الاجتماعية تحقيق التوازن بين أفراد المجتمع وجعلهم متساوين في أمورهم الحياتية.
أما الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون راولز، فيرى أن العدالة الاجتماعية تتحقق بناء على مجموعة من المبادئ منها التعاون والإنصاف والمساواة والحرية. فالمساواة بين النساء والرجال وحدها لا تحقق العدالة لكنها تبقى حجر الزاوية في العدالة الاجتماعية لأنها تضمن للأفراد رجالا ونساء عدم التعرض للظلم والحرمان من الحقوق لينعموا بالكرامة الإنسانية.
وتُعد العدالة قيمة جوهرية في الإسلام وهدفا من بعث الرسل في قول الخالق عز وجل: “لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد: 25)، إذ تنبني رسالة الإسلام على إرساء العدالة بين أفراد المجتمع من خلال أمور مثل الصدقة والإنفاق والزكاة الواجبة شرعا وأخلاقا. ويذهب سيد قطب في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” إلى أن العدالة المقصودة هي “عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية”.[4] كما أضاف بأن العدالة في نظر الإسلام “مساواة إنسانية يُنظر فيها إلى تعادل جميع القيم (…) وهي على وجه الدقة تكافؤ في الفرص وترك المواهب بعد ذلك تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة.”[5] واسترسل قائلا بأن الإسلام أقام العدالة الاجتماعية على ثلاثة أسس تتمثل في التحرر الوجداني المطلق والمساواة الإنسانية الكاملة والتكافل الاجتماعي الوثيق.
لا شك أن السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى تحقيق المساواة الحقوقية والاجتماعية بين الرجال والنساء والناس أجمعين، مثل العدل في التعليم والتزود بالمعرفة. فتساوي جودة التعليم العمومي والخصوصي والحصول على الدعم الضروري لمتابعة الدراسة في المجالين الحضري والقروي يسمح بتحقيق المساواة في تلقي المعرفة لدى الإناث والذكور في جميع المستويات التعليمية، مما يؤهلهم لتولي نفس المناصب العلمية والمهنية مستقبلا ويجعلهم على استعداد للاستفادة منها. فالعدل في التعليم سيؤدي إلى تكافؤ القدرات بين المتنافسين التي بُنيت ونمت على مدى المراحل التعليمية.
ويُضاف إلى ذلك أن العدل في إتاحة الفرص والاستفادة منها على قدم المساواة بين الرجال والنساء يؤدي إلى تحقيق المساواة بينهما. فقد أثبتت النساء اليوم قدرتهن الفكرية والعلمية والثقافية على تولي مختلف المناصب النافذة. كما يترتب عن العدل في ولوج المناصب السياسية تحقيق المساواة بين الجنسين في الاستفادة من مثل هذه الفرص التي يتحكم فيها نظام الكوطا الذي اعتُمد حلا مرحليا لتجاوز ضعف مشاركة النساء في الحياة السياسية، وذلك بتخصيص حصص محددة لهن. وما زال هذا النظام حاضرا بقوة ليقيد التمثيلية النسائية ويحصر حضور النساء في نسب معينة، في الوقت الذي يمكن أن تُمكنهن كفاءتهن وجديتهن من دخول معترك التنافس السياسي النزيه على قدم المساواة مع الرجال دون تعرضهن لتهميش الأحزاب لهن.
وختاما فإن الدين الإسلامي حث على إرساء العدل بين الناس في مختلف القضايا التي تهم النساء والرجال على السواء، بما في ذلك العدالة الاجتماعية التي تؤدي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في أمورهم الحياتية.