ازدهرت نزعة تقديس العفوية في «الثقافة السياسية» العربية، أكثر ما ازدهرت، بمناسبة انطلاق «ثورات» وانتفاضات ما عُرِف باسم «الربيع العربي». ولم تكن أحداث ذلك «الربيع» باعثاً على إطلاق تلك النزعة ، والانغماس فيها، فحسب، بل أتت هي نفسُها، بالشكل الذي حصلت به، تمثل تجسيداً مادياً لتلك النزعة، مثلما أتت حصائلُها، بالتَّبِعة، تُتَرْجِم فداحات انْحكام حركتها بأحكامها (النزعة). وليس في وسعنا، اليوم، بعد انصرام خمس سنوات على اندلاع «الثورات» العربية، أن نُنجز قراءةً حصيفةً في حصيلة تلك «الثورات»، ولا أن نفهم فصولاً عدّة من تعرّجات مسارها، وتناقضات أوضاعها، ومفارقات اتجاهاتها من دون الإمساك بخيوطٍ مفتاحية لفكّ هذه الشرنقة، وفي جملة تلك الخيوط فَقْرُ تلك «الثورات» إلى التنظيم، وطغيان فكرة العفوية وأوهامها على قواها المدنية والفاعلين فيها، بل على الجمهور الأعرض من المنخرطين في يومياتها، كما على مَن ناصروها وتحمَّسوا لها، وخُيّل إلى بعضهم أن التاريخ يخرج من رحمها.
لا يمكنُ المرءَ، في هذا الباب، أن ينسى كيف كان الاحتفاءُ شديدًا، في حينه، بفكرة أن المظاهرات المندلعة (في تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، والمغرب، والبحرين، وسوريا، والأردن، والعراق، ولبنان…) عفوية، وليس وراءَها قوةٌ منظَّمة، وأنّ صنَّاعها من الأطر الشبابية غيرُ منتمين سياسياً، وأنّ جمهورَها من عامّة المواطنين… إلخ. وتتضافر الأوصاف والتعيينات هذه لرفع شبهة انتماء «عملية التغيير» إلى تيار سياسي داخلي بعينه، أو إلى جهة أجنبية أو خارجية. لكنها تشترك، أيضاً، في التبشير بيقينيةٍ جديدة غيرِ مألوفة في أيّ وعيٍ سياسي؛ مقتضاها أن «الثورة» ممكنة من دون الحاجة إلى تنظيم سياسي! هكذا تصبح العفويةُ «استراتيجية» للعمل السياسي، وينتهي معنى السياسة إلى الاقتران بمعنى الفوضى: نظيرَ اقتران «الثورة» بالفوضى والسلاح والفتنة، واقتران النظام والضبط الاجتماعي (الدولة) بالاستبداد في وعي الكثيرين!
حين كان «قادة» الحَراك الاجتماعي من الشباب ينبرون في منصات الخطابة، المنصوبة في الساحات، أو أمام عدسات التصوير التلفزيونية ليشدّدوا على أنّ حراكهم غيرُ مرتبط بأيّ اتجاهٍ أو تيارٍ سياسي، وأن الجماهير خرجت، على نحوٍ عفوي، لإبداء الاحتجاج المشروع على أوضاع الاستبداد والفساد التي يرزح فيها العباد والبلاد، كان حُسن الظنّ بهؤلاء «القادة» يذهب بنا إلى الاعتقاد أن مجرى تلك التصريحات ينصرف إلى هدف التشديد على استقلالية حَراكهم الاجتماعي، وحماية مكتسباته من التوظيف السياسي من هذه القوة أو تلك، هذا الحزب أو ذاك. ولأنّ سوابق المرارة من تبعات مثل ذلك التوظيف كثيرة، وكثيرةٌ نتائجُه الفادحة على مستقبل نضالات شعوبنا وحركاتها الجماهيرية، كان يبدو لنا الدفاع عن تلك الاستقلالية مشروعًا، ولم نتوقف، ولو قليلاً، لمساءلة فرضية إمكان تحقيق تغييرٍ سياسي من دون تنظيم، وفحص مدى حُجّيتها في مختبر التاريخ الحديث والمعاصر للثورات (في العالم). كنّا نعي على التحقيق أنه ما من ثورةٍ تنجح إنْ لم تكن منظَّمة، وتنظيمها لا يعني هنا حكماً أن يكون وراءها كيانٌ سياسي، أو أن يقودها كيان سياسي، وإنما أن تخضع قواها لقرارٍ موحَّد من داخلها، وألّا تتكلم بألسنة مختلفة، وتتضارب خيارات قواها. وقصارى ما كنّا نواجه به حال التشرذم وتعدُّد الرؤوس وكثرة الألسنة – وهو ما ميَّز «الثورات» العربية هو الأمل في أن تدفع سيرورةُ الحراك قوى ذلك الحراك إلى تنظيم نفسها، وتوحيد خطابها، والاجتماع على برنامج عملٍ جامع. غير أنَّا تبيَّنا أنّ ذلك إنما كان حُسنَ ظنٍّ منّا بشبابنا، وأملاً بعيد المنال، وأنّ وراء تلك الفوضى فوضى، وبعدها فوضى في المآل.
على أنّ الأمور بخواتمها، كما يقال، حيث النتائج هي المحك. وفي هذا لم تحصد «الثورات» العربية من عفويتها وإضراب قواها عن التنظيم، ومُعالَنة الحزبيةِ السياسية خصومةً، سوى سوء المآلات! لقد وجدت جُموع المنتفضين في تونس ومصر نفسَها، بعد سقوط النظاميْن في البلديْن، أمام سؤال: وماذا بعد؟ ماذا بعد النجاح في إزاحةِ حاكميْن وعائلتيْن ودائرتيْن مقرَّبتيْن منهما؟ كيف يُدَارُ البلد ومَن يديره؟ ما الخطوة الأولى إذاً؟…إلخ. كان «قادة» الحَرَاك أمام حالٍ من الفراغ الرؤيوي والبرنامجي، ومن انعدام القدرة على الإمساك بالأوضاع. حتى محاولات ائتلاف المجموعات الشبابية المتعددة داخل إطار جامع تعثرت، إن لم نقل أخفقت. وبتعثرها وإخفاقها، كانت فرصة تمثيل «الشارع» واللحظة، والنطق باسم «الثورة»، تتلاشى وتتبدّد. هذا ما يفسّر لماذا ارتضت «قوى الثورة» القبول بإجراءات انتقالية لم تكن من صميم مبادرتها، ولا كانت شريكاً فيها، من قبيل انتقال سلطة رئيس الدولة في تونس إلى رئيس البرلمان (المبَزَّع)، وانتقال نظيرها في مصر إلى «المجلس الأعلى للقوات المسلحة». وهذا ما يفسّر لماذا جرت وقائع «المرحلة الانتقالية» بعيداً من دائرة القوى التي أطلقت الحَراك «الثوري»: بشراكة غير متكافئة بين الجيش والتكنوقراط والأحزاب، أي بين القوى المنظّمة. وهذا ما يفسّر، أخيراً، لماذا فاز «الإخوان المسلمون» في الانتخابات التشريعية والرئاسية، من حيث هم القوة الأقوى تنظيماً، من خارج السلطة، في مصر.
لم يكن ذلك خاصاً بتونس ومصر حصراً، وإنما شملت أحكامُه ليبيا واليمن أيضاً، مع فارقٍ لا يُخطئُ إدراكَه لبيب: أُزيحَ علي عبدالله صالح، بموجب تسويةٍ إقليمية، وأُبْقِيَ على النظام عينِه، ونُقِلت سلطاتُه إلى نائبه، وأُبْقِيَ الجيش موحّداً، فعاد المتظاهرون إلى بيوتهم نصفَ منتصرين ونصف منهزمين، قبل أن تتولّد من أزمة النظام أزْماتٍ جديدةً أشدَّ حدّةً وهوْلاً! أما في ليبيا فقد سقط القذافي بضربات حلف الأطلسي، واغتيل اغتيالاً شنيعاً بأيدي قَتَلَةٍ مجرمين، فذهب النظامُ والدولةُ بذهابه، لأنه لم يَبْن دولةً ولا نظاماً، لتتحول ليبيا إلى غابة سلاح تعبث فيها ميليشيات الضواري بحياة الناس وثروات البلد، قبل أن يتسع في أرجائها كسوريا والعراق واليمن وتونس وسيْناء المصرية نطاق نفوذ الجماعات الإرهابية. هكذا، مرَّةً أخرى، انتهت «الثورة» إلى حرب أهلية في هذين البلدين، لأن افتقارها إلى التنظيم قادها إلى المتاهات وتركها مَعْبَثَة للقوى الخارجية والجماعات المسلحة التي تنبت في الفراغ!
في سوريا لم يسقط النظام أمام «الشارع» أو في الحرب مع الجماعات المسلّحة لسببيْن داخليين: لوجود قاعدة اجتماعية، عريضة وحقيقية، يستند إليها؛ ولتماسُك الجيش واستمرار جسمه الغالب موحَداً. أمّا «الثورة»، التي بدأت مدنيةً وسلمية، فافتقرت إلى التنظيم بسبب ضَعف المعارضة وطغيان النزعة العفوية في «الشارع». وما لبثت سلميتُها أن تبدّدت، بعد بضعة أشهر، حين دخلت الجماعات المسلّحة على خطها. ولأنها هي القوى المنظَّمة الوحيدة، من خارج النظام، فقد آلت إليها مقاليد «الثورة السورية» لتأخذ البلد إلى الجحيم. وهكذا لم تكتف بتدمير الدولة والمجتمع فحسب، بل زادت على ذلك بتدمير حُلم مئات الآلاف من المواطنين الذين تظاهروا، في مارس/آذار 2011، من أجل الإصلاح السياسي!
أمّا في البلدان العربية التي كانت مسرحاً لأحداث «الربيع العربي» (ولم تنته فيها الأمور إلى ما انتهت إليه في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية)، مثل المغرب، فقد فقَد الحَراك الاجتماعي، الذي مثلته حركة 20 فبراير، بريقه بعد ستة أشهر من انطلاقه بسبب عوامل مختلفة: نخبوية الحركة، وافتقارها إلى التنظيم (ما خلا التنظيم الذي وفّره لها وجود «جماعة العدل والإحسان»)، وافتقارها إلى رؤية برنامجية، ثم قدرة النظام على استيعابها سريعاً، من طريق حزمة الإصلاحات السياسية والدستورية التي أقدم عليها منذ 9 مارس 2011، وقدرة الأحزاب السياسية على استعادة بعض نفوذها السياسي الذي أخذته منها حركة 20 فبراير، حين تجاوبت مع الإصلاحات الدستورية، وشاركت في مشاوراتها: حواراً ومذكرات مكتوبة، وصولاً إلى كتابة نصّ دستوري متوافَق عليه.
في هذه الحالات جميعِها يُطالعنا الدرسُ السياسي التاريخي الكبير: لا سياسة ولا أفق سياسي (إصلاح، ثورة، تغيير…) من دون تنظيم. التنظيم يُنجب التنظيم (بما في ذلك النظام والسلطة)، والعدمية تنتهي إلى الفوضى، والفوضى لا تلد غير الفوضى. هذا لم يعد درساً نظرياً في حالتنا العربية؛ بات حقيقةً واقعيةً يومية.