يكفي المرء أن يتتبع ما تفككه الأجهزة الأمنية من خلايا إرهابية ويستحضر انتشار الخطاب الديني المتطرف الذي يصل إلى حد التكفير وإهدار دم المخالفين، ليدرك أن استقرار بلادنا مهدد، ومن الداخل، أساسا، الذي تجد فيه قوى الشر والفتنة العناصر المشحونة فكريا وعاطفيا والقابلة للتجنيد الإرهابي. وإذا كانت الأجهزة الأمنية المختصة قد ضاعفت جهودها (بعد الضربات الإرهابية الموجعة التي كانت بعض مدننا مسرحا لها) وطورت نفسها وحسنت أداءها، فإن الخطاب الديني المتطرف الذي انغرس عميقا، لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية سنعرض لبعضها أدناه، في المؤسسات الدينية الرسمية (المجالس العلمية) والمجتمعية (المساجد) لا يزيد إلا انتشارا وتوسعا وضراوة، كالمارد الخارج من القمقم، وأصبح، بذلك، يشكل خطرا حقيقيا على أمن واستقرار البلاد.
و لتجنيب الوطن الفتن والقلاقل وضمان دوام استقراره وتحصين مؤسساته، لا بد من العمل على إرجاع المارد إلى القمقم (ولمن يجهل قصة خروج المارد من القمقم وما شكله ذلك من خطر على حياة الصياد الذي كان سببا في هذا الخروج، عليه بقراءة حكاية الصياد مع العفريت في ألف ليلة وليلة). وهذه ليست مهمة الأمن (الذي يقوم بدوره خير قيام في مواجهة التهديدات الإرهابية)، بل مهمة مؤسسات أخرى رسمية ومجتمعية، بما فيها تلك المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية وعن التأطير الديني والسياسي.
والمارد المقصود، هنا، هو التطرف الذي يشكل الدعامة الأساسية للإرهاب. ونظرا لتغلغل ثقافة التطرف في بعض بنيات المجتمع والدولة، فإن إرجاع المارد إلى القمقم، يتطلب القيام بثورة ثقافية متعددة الأبعاد. وهذه الأبعاد (المتداخلة والمتكاملة) هي البعد الديني والبعد التربوي والبعد الإعلامي والبعد الاجتماعي والبعد السياسي والبعد المؤسساتي والبعد الحقوقي وغير ذلك من المجالات التي تساهم، بشكل أو بآخر، في تكوين الفرد وتأطيره، وبالتالي، تحدد طبيعة ونوعية العلاقة التي تربطه بالمجتمع وبالدولة.
كيف نشأ الفكر المتطرف في المغرب؟
إن ما نعيشه اليوم من تجليات للفكر المتطرف في صيغه المختلفة، هو نتاج للظروف السياسية التي عاشها المغرب بين سنوات الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ففي خضم الصراع بين الاستبداد والتوجه الديمقراطي التقدمي، الذي عرف أوجه في تلك السنوات، ارتكب النظام المغربي فضائع كثيرة وكبيرة، ذات طابع سياسي واجتماعي وثقافي وحقوقي…
لن أتحدث عن موجة (بل موجات) القمع التي عرفها المغرب في تلك الفترات وما ارتكب فيها من فضاعات وما خلفته من ضحايا (يمكن الاطلاع على ذلك في تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة). لكن سوف أحاول إبراز الشروط والظروف التي وَفَّرها النظام (بهدف مواجهة المد اليساري) للتطرف الديني حتى تغلغل في البلاد وأصبح يشكل خطرا حقيقيا على النظام نفسه، أكبر بكثير من ذلك الذي كان يمثله المد اليساري، والذي لم يكن يطمح إلا لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في ظل ملكية برلمانية.
وقد كانت البداية بإغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط في بداية السبعينات بقرار سياسي من أعلى هرم الدولة. وهذا الإغلاق كان إعلانا للحرب على الفكر التقدمي، خاصة وأن البحث في علم الاجتماع، الذي يساعد على تفكيك بنيات المجتمع التقليدي، كان مقرونا بالالتزام السياسي، على الأقل عند الرعيل الأول من السوسيولوجيين. وهذا الأمر كان يقض مضجع الملك الراحل، الحسن الثاني، الذي لم يكن يطيق منطق السوسيولوجا القائم على التحليل النقدي والعلمي للأوضاع الاجتماعية والسياسية.
وسيبلغ الحقد على المواد القائمة على التحليل والنقد أوجه في مطلع الثمانينيات حين تم إغلاق شعب الفلسفة وإحداث شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية على يد الدكتور “عز الدين العراقي”، وزير التربية الوطنية وتكوين الأطر. فرغم وجود جامعة متخصصة في العلوم الدينية (جامعة القرويين والكليات التابعة لها: كلية الشريعة بفاس، كلية اللغة العربية بمراكش، كلية أصول الدين بتطوان وكلية الشريعة بأڭادير) ومؤسسة دار الحديث الحسنية، فقد زُرعت شعب الدراسات الإسلامية في كليات الآداب لتغليب النقل على العقل وتغييب قيم الحداثة والعقلانية بهدف الحد من الفكر التحليلي النقدي لدى الطلبة، وبالتالي، الحد من سيطرة فصائل اليسار على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي كان يقوم بدور تأطيري وتثقيفي قوي يجعل الجامعة في قلب الاهتمام بالوضع السياسي والاجتماعي والثقافي… بالبلاد.
وإذا أضفنا إلى كل هذا فتح المراكز الجهوية التربوية أمام حملة الباكالوريا لولوج التعليم دون المرور عبر الجامعة لتفادي التفاعل مع ما يعتمل فيها من تيارات فكرية وسياسية تنشد التغيير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية…، ندرك مغزى حرمان الأساتذة من متابعة الدراسة الجامعية بمذكرة للوزير”عز الدين العراقي” سنة 1980 (المذكرة 504).
وقد واكب هذه الإجراءات التضييق على كل التجارب الثقافية المتميزة (إغلاق العديد من المجلات الثقافية) وكل الجمعيات الوطنية الجادة، في حين تم تشجيع البهرجة والتهريج (سهرات الأقاليم، مثلا) وثقافة الواجهة (ملتقى أصيلة، نموذجا)، بالإضافة إلى خلق ما اصطلح على تسميته بجمعيات السهول والجبال.
والحصيلة هي ما تنبأ به العالم السوسيولوجي، الدكتور “محمد ڭسوس” الذي قال، منتقدا أحد المخططات التعليمية،”إنهم يريدون خلق جيل من الضباع”. لقد نجحت الدولة، فعلا، في إفراغ التعليم من كل قيم الحداثة والعقلانية ومن كل ما يساعد على تكوين الشخصية المستقلة فكريا وإيديولوجيا؛ مما ساهم في تكريس وترسيخ قيم المحافظة التي أنتجت لنا جيلا، بل أجيالا، منقطعة عن القيم الكونية وعن كل ما وصلت إليه الإنسانية من حداثة فكرية وثقافية؛ أجيال رصيدهم المعرفي ضئيل وهويتهم الثقافية مهزوزة؛ مما يجعلهم فريسة سهلة للشحن الإيديولوجي المتطرف. وما نعيشه اليوم من تهديدات إرهابية ما هو إلا إحدى تجليات ما تم زرعه من خلال المناهج التعليمية ومن خلال الثقافة الدينية التي أصبحت سائدة بفعل ما أشرنا إليه من قرارات رسمية استهدفت الفكر التنويري. وصدق الصحافي الشهير”خالد الجامعي” في قوله:”من يزرع الوهابية يحصد داعش”(انظر الموقع الإليكتروني “العالم الإسلامي”).
كيف السبيل إلى إرجاع المارد إلى قمقمه؟
لن تكفي، على أهميتها، مراجعة مناهج ومقررات التربية الدينية بالمدرسة المغربية في مواجهة ظاهرة التطرف الديني، على الأقل في المدى المنظور، ما لم تنخرط، في هذه المواجهة، من جهة، قطاعات لها علاقة وطيدة بنشر الثقافة الدينية المتطرفة؛ ونقصد بذلك المساجد والمجالس العلمية ومؤسسات التكوين الديني (كليات، معاهد، شعب)؛ ومن جهة أخرى، الإعلام العمومي بكل قطاعاته. وبمعنى آخر، فنحن في حاجة إلى ثورة دينية تنويرية عامة وشاملة من أجل اقتلاع جذور التطرف الديني الذي، غالبا، ما يغذي التطرف الثقافي والعرقي (الدكتور “مصطفى بنحمزة”، نموذجا، كما سنبين ذلك لاحقا)، دون الحديث عن التطرف السياسي.
لكن، من أين لنا بالثقافة الدينية التنويرية والعلماء التنويريون عندنا يشكلون القلة القليلة للاعتبارات التي ذكرناها آنفا وبسبب غزو الثقافة الدينية المشرقية المتطرفة (من خلال حركة الإخوان المسلمين ومن خلال انتشار الوهابية) للساحة الوطنية؟ وقد كان هذا الغزو، إما عن طريق استقدام أساتذة مشارقة مقربين من الإخوان المسلمين وإما عن طريق أساتذة تكونوا في المملكة العربية السعودية وتشربوا الوهابية، ثم نشروها في أقسم الثانويات أو في مدرجات الكليات وكذا من أعلى منابر المساجد إما في خطب الجمعة وإما في دروس الوعظ والإرشاد، والتي تتحول، في كثير من الأحيان، إلى شحن إيديولوجي وإلى التحريض ضد هذه الجهة أو تلك.
وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن أن ننتظر من هؤلاء انخراطا حقيقيا وصادقا ومفيدا في تثوير مناهج ومقررات التربية الدينية ببلادنا؛ مما يستدعي القيام بإعادة التكوين وتأهيل كل المتدخلين في التكوين الديني (أساتذة، خطباء، فقهاء، مؤطري ومؤطرات دروس محو الأمية بالمساجد، الخ).
لكن، هل من السهل تجاوز ما تم زرعه من أفكار متطرفة ومن ثقافة الكراهية واحتقار ثقافة ومعتقدات الآخر، على مدى عقود من الزمن؟ وكيف إقناع من بنا مجده “العلمي” على هذه الأفكار بضرورة تغيير المقاربة؟ هل يمكن أن ننتظر، مثلا، من الدكتور “أحمد الريسوني” الذي يُقسِّم المغاربة إلى فسطاطين: فسطاط المؤمنين وفسطاط الكافرين، أن ينخرط في إصلاح حقيقي للمجال الديني، يستوعب قيم العصر وقم التسامح وقيم الحرية، بما فيها حرية المعتقد؟ وهل هذا الذي يعتبر الفلسفة مادة لنشر الإلحاد ويعتبر المواد العلمية (الفزياء والكمياء والهندسة…) منتجة للإرهابيين، يمكن أن يدافع عن قيم العصر؟ ثم، أليس في هذا الكلام استغباء للمغاربة واستخفاف بذكائهم؟ هل هناك تضليل أخطر من ذاك الذي يتستر وراء كلام حق يراد به باطل؟ والإسلاميون (وليس المسلمون) المحترفون للسياسة (الإخوان المسلمون وغيرهم من الحركات الإسلامية) يتقنون هذا التضليل باللعب على العواطف ودغدغتها من أجل تحقيق مكاسب سياسية وإيديولوجية.
فهل، بالفعل، لا يدرك “الريسوني” (الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية) أسباب انخراط بعض المتخرجين من المعاهد العلمية في الحركات الإرهابية؟ لا أعتقد أنه يجهل (وهو صاحب”علم المقاصد”) بأن محتوى مادة التربية الإسلامية- الموغل في الماضوية والحامل للكراهية في حق المخالفين وغير ذلك من القيم المنافية للدين الحق، والذي (أي المحتوى) يُقَدَّم للطفل والمراهق، فيتم حشو أدمغتهم بمضامين ومفاهيم تحتفي بالجهاد (بمفهوم الحِرابة) وتقدم لهم الدين والتدين من منظور الوهابية أو المنظور الإخواني على طرقة “السيد قطب” أو غيره – هو الذي يجعل خريجي هذه المعاهد العلمية والتطبيقية قنابل موقوتة وفريسة سهلة للفكر الإرهابي.
لنأخذ نموذجا آخر لعالم ديني متطرف؛ وهو عالم رسمي لكونه يشغل رئاسة المجلس العلمي لمدينة وجدة ويتمتع بالعضوية في المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه الملك. يتعلق الأمر بالدكتور”مصطفى بنحمزة” الذي خانه ذكاؤه واستبدت به “وهابيته”، فوصف لغة، اعترف برسميتها دستور المملكة، بأنها “لغة الشيخات”، مختزلا مكونا من المكونات الأساسية للحضارة والثقافة المغربيتين في لون واحد من الألوان الفنية العديدة التي يزخر بها الحقل الفني المغربي، سواء منه الأمازيغي أو الصحراوي أو الجبلي أو العصري أو الأندلسي أو الشعبي أو الملحون أو الكناوي أو العيطة… أليس هذا النوع من الخطاب “دعوشة” (أو داعشية) من نوع آخر؟ أليس به دعوة إلى الفتنة؟ أليس هذا استفزازا صريحا وواضحا ليس فقط للأمازيغ، بل لكل الديمقراطيين والحداثيين والمثقفين المتنورين؟
إنني أتفهم، شخصيا، بعض ردود الأفعال القوية ضد “بنحمزة”، خاصة وأنه تجاوز كل حدود اللياقة وكال لدعاة تدريس الأمازيغية كل أصناف القذف والشتم والقدح بأسلوب يطفح بالعنصرية والنزعة الإقصائية. لكن السؤال هو: هل هذا الرجل يجهل الدستور أو يتجاهله حين ينتقص، وبطريقة تبعث على التقزز، من قيمة لغة رسمية بحكم الدستور ولغة يستعملها مغاربة يقطنون بالمدن ويستوطنون السهول والجبال؟ وبمعنى آخر، فهي ليست لغة أقلية وليست لغة مهجورة. لذلك، فهجومه عليها غير مفهوم، أو بالأحرى غير أخلاقي وغير مسؤول، خاصة وأن مثل هذا الخطاب يهدد التماسك الاجتماعي ويغذي كل أنواع التطرف (الديني والثقافي والهوياتي والعرقي…).
أعتقد أن النموذجين المقدمين أعلاه (“الريسوني” و”بنحمزة”) كافيان للتدليل على أن الإصلاح الديني لن يأتي أبدا عن طريق دعاة التفرقة والتكفير، بل يحتاج إلى عقليات متفتحة ومتنورة. لذلك، لن تستطيع اللجنة المشكلة لمراجعة التربية الإسلامية أن تقدم منظورا يتماشى وروح العصر ما لم يكن في هذه اللجنة، إلى جانب علماء الدين المتنورين أو على الأقل غير المتخندقين في هذه الحركة أو تلك ومشهود لهم بالاستقلال في الرأي والتفكير، متخصصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية (علم النفس، علم الاجتماع، البداغوجية، علم اللغة، علم التاريخ بما في ذلك تاريخ الأديان…) وممارسون للعمل المدني (جمعيات وطنية تعنى بالمجال الحقوقي والتربوي والثقافي).
وإذا كانت الدولة ترغب، حقيقة، في أن تكون عصرية وديمقراطية وحداثية، فلا مناص من القيام بإصلاحات كبرى وحقيقية تمس كل المجالات (وهذا ما نقصده بثورة متعددة الأبعاد)، بما في ذلك المجال الديني. والإصلاح الديني، ما لم يكن قائما على الانفتاح والتسامح والتعايش وما لم يستوعب مقومات الدولة المدنية القائمة على حرية الاعتقاد والمعتقد- ليس فقط عملا بمقولة الدين لله والوطن للجميع، بل استحضارا للآيات القرآنية في الموضوع من قبيل “”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”،”لا إكراه في الدين”،”لكم دينكم ولي دين”،”إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها”، “ولا تزر وازرة وزر أخرى (المقصود، هنا، بكلمة أخرى هي النفس) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”…وغيرها من الآيات الكريمة المتعلقة بهذا الموضوع (موضوع حرية الاعتقاد: انظر مقالنا بعنوان” “فتاوى التكفير إنكار لمشيئة الله وتهديد لاستقرار المجتمع”، جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، 15 يناير 2016)-، فلن نقطع مع فتاوى التكفير وإهدار الدماء باسم الدين ولن نقطع مع التعصب الديني والعرقي ومع الإقصاء والكراهية والعنصرية والعنف المادي والرمزي وغير ذلك من عوامل التخلف الفكري والثقافي، التي تهدد استقرار المجتمع المغربي وحضارته العريقة القائمة على التعدد العرقي والثقافي واللغوي والديني وعلى قيم الانفتاح والتسامح والتعايش.
بالطبع، لن يكون للإصلاح الديني، مهما كان عمقه، آثاره المرجوة ما لم يواكبه إصلاح حقيقي وشامل يمس كل مجالات الحياة ويوفر للمواطن شروط العيش الكريم والتمتع بكافة حقوق المواطنة من عدل ومساواة أمام القانون وعدالة اجتماعية وغيرها من العوامل الكفيلة بوضع حد للشعور باليأس والبؤس والقهر وكل ما ينال من كرامة المواطن.
- الاحد 6 مارس 20016