الفتنة ليست في اختلاف الرأي بل في الاعتداد الشديد بالرأي. صاحب الرأي يبالغ في الثقة بنفسه، يحتقر آراء الاخرين، يعتقد أن نفسه على حق مطلق، بينما يعتبر الآخرين على خطأ مطلق . هو يعتلي مركب العظمة، لا يرى المجد إلا لنفسه. يثق بنفسه أكثر مما تتيحه الظروف. لا يهمه إذا اساء التقدير. صاحب الفتنة لا يرى في الظروف الموضوعية إلا عقبة صغرى يمكن تجاوزها بكل سهولة. هو في حالة استسهال دائمة. ما هو خارج ذاته لا يستحق الاعتبار.

يعاني صاحب الفتنة من انتفاخ الذات. يرى نفسه أعلى مستوى اخلاقياً من الآخر، يعتبر ان ما يضمن له التفوق الأخلاقي يخوله الفوز في الصراع. لا يحسن فك الارتباط بين الحق الأخلاقي وإمكانية تحقيقه. يرى نفسه أولاً، جماعته أولاً، بلده ثانياً يجهل أو يتجاهل انه جزء من العالم، وان العالم أكثر تعقيداً من ان تحيط به أفكار أو مبادئ أخلاقية أو سياسية أو فلسفية.

تطل الفتنة على لبنان من باب: أنا أو لا أحد، بينما يقول فريق آخر: لا أنت ولا أحد. ننتهي إلى صراع حول السلطة، ينعدم فيه الحوار وتنقطع سبل التواصل، إلا بالشكل. المضمون لا يعرفه أحد، بالأحرى لا يريد أحد الإفصاح عنه. المواجهة بالنوايا، بافتراض نوايا سيئة عند الغير. لا سبيل لنا إلى معرفة ما يريد وما يضمره كل طرف.

نبحث بين التصريحات والتقارير الإعلامية، نشاهد ما يقولونه وما يعبرون عنه، وما يصرون على كبته، نرى انتفاخ الذات ورماً دون مضمون حتى ليكاد المرء ان يحسب انه ورم خبيث. حماهم الله من كل شر قد يقع لهم. ليس غيرهم في الساحة. مأزقنا اننا مجبرون على القبول بهم، لضعف فينا لا لأن لديهم ما يبعث على الاحترام.

يؤجلون الاستحقاقات التي يتشكل من تنفيذها قوام الدولة: الرئاسة، الحكومة، مجلس النواب، والكثير من المناصب البيروقراطية، وربما الانتخابات البلدية. يفعلون ذلك «خوفاً من الفتنة»، يحذرون منها، وهم أولياء الأمر الذين يفترض بهم ان يكون لديهم الحل، او الحلول. الفتنة في رؤوسهم، في طريقة عملهم، في ما يضمرونه، في المسكوت عنه. يتجنبون الإفصاح. يلغون السياسة. السياسة إفصاح وحوار حول ما يتم الإفصاح عنه. المفترض ان تكون لديهم قضايا لا يخشون الإعلان عنها والحوار حولها. لماذا الخشية، إلا إذا كان هناك ما لا يريدون ان يعرفه الناس.

في ما مضى كانت السلطة تنقسم إلى موالاة ومعارضة. كان كل فريق مضطراً للإعلان عما يحمله من قضايا. كانت القضايا علنية، صارت سرية. جميعهم الآن في السلطة، لا لأنهم متفقون، بل لأن اختلافاتهم تعبيرات عن تشنجات لا يراد لها الخروج إلى العلن. الآن، ليس هناك معارضة وموالاة. جميعهم في السلطة برغم التشنجات. لا أحد منهم يسلم للفريق الآخر بشيء. الدولة مكربجة. كل طرف منهم يعتبر نفسه أهم من الدولة. هم سقف الدولة، لا الدولة سقف لهم، هكذا يعتبرون في ذواتهم المنتفخة. كل منهم يعتبر نفسه الحق المطلق، وكل منهم يلغي إمكانية ان يكون الآخرون على حق، أو بعض الصواب.

يجمع اللبنانيون (من غير أهل السلطة، طبعاً) على ان في البلد أزمة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أمنية، الخ… وعلى ان الازمة تهدد بالانفجار، أو ان هناك ما سوف يقود إلى انهيار. منسوب القلق لدى عموم الناس غير مسبوق. يقال انهم يتعاطون المسكنات بما يفوق الشعوب الأخرى. كأن أهل السياسة يمارسون نوعاً جديداً من التعذيب على مجتمعهم.

فتنة مكبوتة. لكن ابتسامة السخرية ما زالت على وجوه أهل السياسة. يسخرون من الآخرين أم من جمهورهم؟ لا نعرف. لكن ذلك يتحول إلى خبث: المضمر غير المعلن، المكبوت غير المباح به. يضطر اللبنانيون إلى فهم أوضاعهم وكأنها مربوطة بالخارج، وكأنهم عاجزون عن أي حل، وكأنهم لا يفترض بهم ان يفعلوا شيئاً من أجل الحل من دون الارتباط بالخارج. حالة يأس كاملة. حالة ميؤوس منها. عجز السياسة وعجز أهل السلطة يتحول إلى عجز الناس، عجزهم عن المصير إلى مجتمع قادر على القيام بنفسه.

مكتوب لنا أو علينا ان نعيش يومياً وكأننا على حافة الهاوية، وكأن الفتنة تحت كل حجر ووراء كل حائط. هل هي ما يراد لنا، أم هي ما نريده؟ هل هي مصنوعة لنا، أو نحن نصنعها.

ليس غريباً ان يكون اشتقاق كلمة فتنة من فَتَنَ. هو الأصل نفسه لتعبير «افتتن بنفسه». الافتتان الذي يقود إلى انتفاخ الذات. تعوّد اللبنانيون منذ زمن بعيد ان يروا أنفسهم مميزين عن الغير، خاصة عن بقية العرب. عادة الافتتان بالذات ليست جديدة. الجديد هو ربط مصير لبنان بتطورات المنطقة. ما يتمناه المرء هو ان يتعود اللبنانيون على ربط مصيرهم بما هو إيجابي في مصير المنطقة لا بما هو سلبي.

*التجديد العربي

                   الجمعة 4 مارس 2016

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…