لا مبالغة كبيرة في قناعة بعض المفكّرين والقادة السياسيين من أن «الربيع» السياسي عائد ليدق أبواب مجتمعات عديدة، منها مجتمعات سبق لها أن فتحت له أبوابها ، تعرّض بعضها لأهوال شتى حين جرت فيها محاولات شرسة لوأد هذا «الربيع». فشلت محاولات الوأد في عدد من المجتمعات، وبخاصة في تلك التي استنفرت القوى غير الملموسة لتلعب دور التحدي والتصدي. وفي مجتمعات أخرى تسبّبت محاولات الوأد في خراب ودمار شاملين لكل الأطراف، لم ينجُ ثائر أو عدو للثورة.
أكاد أراه وأسمعه وهو يدق أبواب العراق مقترباً من تركيا ومتأهباً ليعاود الكَرّة في اليمن. أراه غير بعيد عن حدود الجزائر والمغرب، وأراه في صور متردّدة وربما أقل وضوحاً يعبر الحدود في دولة أو أكثر من دول شرق ووسط أوروبا. نراه، أنا وغيري، يتقدّم في الصين متبنياً شعارات مختلفة وأساليب متباينة. ولكننا نراه بكل الوضوح الممكن يدق أبواب دول أميركا الوسطى وبخاصة غواتيمالا وهندوراس والسلفادور.
جاءت فترة في أميركا الوسطى كان من الممكن أن تسبقها مرحلة نمو سياسي واجتماعي ينقل مجتمعات هذه الدول إلى الاستقرار والرخاء. في تلك الفترة بدت شعوب أميركا الوسطى جاهزة للتخلص من هيمنة الشركات الأميركية وعملائها من السياسيين المحليين وإقامة ديموقراطية معقولة وأنظمة حكم تضمن حداً مناسباً من العدالة والسلام الاجتماعي. كانت الأجواء وقتها تشبه إلى حد ما الأجواء التي صاحبت انطلاق ثورات «الربيع العربي». حدث في الحالتين ان تحركت قوى دولية وإقليمية وقوى داخلية وتحالفت لوأد الثورة وهي ما تزال في شهورها وسنواتها المبكرة. هناك في أميركا الوسطى تعرّضت الدول إلى ما تعرضت له بعض مجتمعات «الربيع العربي» بسبب إجراءات ومحاولات وأد الثورة، هنا وهناك حلّت الفوضى وهيمن العنف وتدافع الكل لقتل الكل. تهاوت مؤسسات وخرجت من رحمها قبل انفراطها عصابات جريمة يقودها في بعض الحالات رجال من داخل مؤسسات الجيش والأمن. انتشرت هذه العصابات لتنشر خلال انتشارها الارتباك. أخضعت الشعوب للابتزاز، فهاجر من هاجر واستسلم لقدره مَن استسلم.
وسط هذه الفوضى التي خلقتها الأعمال المعادية للثورات، نشبت في بعض دول أميركا الوسطى حروب أهلية. بعض هذه الحروب استمر عقوداً أعقبتها هيمنة عصابات الجريمة وتخللتها هجرات واسعة في اتجاه المكسيك وبيليز وكوستاريكا في الطريق إلى الولايات المتحدة، الدولة الأعظم التي ساهمت بالقسط الأوفر من تكاليف حروب وأد الثورات منذ لحظة انطلاقها. نشبت في السلفادور حرب عنقودية دارت بين الحكومات العسكرية المتعاقبة وجماعات الثورة وامتدت من العام 1979 إلى العام 1992، سقط خلالها خمسة وسبعون ألف قتيل. وفي غواتيمالا نشبت حرب أهلية أخرى استمرت من العام 1960 إلى العام 1996 سقط خلالها أكثر من مئتي ألف قتيل. الاستثناء في هذه الثلاثية كان من نصيب هندوراس التي لم تنشب فيها حرب أهلية، فقد استخدمتها أطراف في حروب أخرى مسرحاً لها. استخدمتها مثلاً أطراف الحرب الأهلية الدائرة في نيكاراغوا. قام الأميركيون بتخصيص غابات هندوراس لتدريب قوات «الكونترا» المكلفة والمموّلة أميركياً للقضاء على الثورة التي كانت قد انطلقت فعلاً تحت اسم «الساندينيستا» ووصلت إلى مقاعد الحكم، وجرى إسقاطها ثم عادت بالانتخابات الحرة.
يغيب عنا أحياناً ان الولايات المتحدة تعاني بشكل ما من تداعيات تدهور الاستقرار وتصاعد الفوضى في دول أميركا الوسطى، تماماً كما تعاني الآن بعض دول أوروبا من تداعيات محاولات وأد ثورات «الربيع العربي» في الشرق الأوسط. إذ دخل أميركا خلال العامين الأخيرين ما يزيد عن مئة ألف طفل هارب من سوء الأحوال المعيشية وعمليات الابتزاز واختطاف الأطفال التي تمارسها عصابات الجريمة في دول أميركا الوسطى، ويعيش في أميركا حالياً ما يقارب ثلاثة ملايين مهاجر من القارة الجنوبية دخلوا عن طريق المكسيك.
تكاد تُجمع الدراسات المتخصصة على أن أحد أهم أسباب الهجرة من دول أميركا الوسطى إلى جانب الفقر المتفاقم هو الفشل في إصلاح أجهزة الشرطة والجيش المعبأة والمدربة لغرض واحد، هو مطاردة الثوريين والقضاء أولاً بأول على المعارضة السياسية السلمية. جرت محاولات شكلية وغير مهمة لإصلاح هذه الأجهزة قبل أن تكتشف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي حاولت تنفيذ برامج إصلاحية هناك، أن أجهزة الأمن كافة جرى اختراقها من جانب عصابات الجريمة المنظمة خلال مرحلة وأد الثورات، خصوصاً في سنوات الحروب الأهلية، حتى أنه بات من الصعب في بعض دول أميركا الوسطى وربما المكسيك أيضاً الفصل بين قوات الأمن المحلية وفرق الموت التي تشكلها العصابات. في مثل هذه الأحوال يصعب تصور إمكان استعادة هيبة الدولة وإعادة الاستقرار إلى تلك المجتمعات من دون ثورة سياسية واجتماعية شاملة.
يرتكب المتخصصون الأميركيون في شؤون أميركا الجنوبية خطأ جسيماً حين يركّزون اهتمامهم على أميركا الوسطى ومستقبل الاستقرار فيها على حساب الاهتمام بدول أخرى في جنوب القارة. أفهم أولوية الاهتمام بأميركا الوسطى لأسباب تتعلّق بالهجرة الكاسحة التي صارت تؤثر فعلياً في اتجاهات الفكر السياسي الأميركي، كما يظهر بوضوح في تفاصيل الحملة الانتخابية للرئاسة وفي التصعيد المتعمَد من جانب جهات عديدة للحملات العنصرية ضد المهاجرين والمنحدرين من أصول غير بيضاء. لكني أفهم أيضاً أن تراجع الاهتمام الأميركي بدول ومجتمعات في أميركا الجنوبية صار يعقّد المشكلات في العلاقات بين الولايات المتحدة ومختلف دول أميركا اللاتينية، مثلما هو حادث في العلاقات الأميركية ـ الأوروبية، وحادث أيضاً بوضوح شديد في العلاقات بين أميركا ودول عربية عديدة، وأحد أهم أسبابها تراجع اهتمام أميركا بأوروبا والشرق الأوسط لحساب اهتمام أميركي أكبر بالشرق الآسيوي. يبدو لي، من بعيد، أن عودة النيو ليبرالية إلى توحّشها السابق في أميركا الجنوبية بدعم من قوى عديدة في الولايات المتحدة، صار يهدّد بإعادة الساعة إلى الوراء في عدد من دول القارة. بمعنى آخر، هناك في القارة الجنوبية مَن يعتقد أن قوى اجتماعية معينة عادت تزحف مخترقة صفوف قوى الأمن الداخلي والجيش في بعض دول القارة، في سعي لإعادة تشكيل التحالف المقيت بين قوى المال وقوى الأمن، وهو التحالف الذي هيمن طويلاً على الحكم في القارة، وبسببه انطلقت الحركات الإصلاحية التي هي الآن في مهب ريح عاتية قد تودي بالإنجازات الكبرى التي تحققت في مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية في القارة اللاتينية.
نسائم «الربيع» عادت تدق أبواب مجتمعات عديدة في شتى أنحاء العالم. أكاد ألمح استعدادات لاستقبالها في دول أميركا الوسطى في أقصى شمال أميركا الجنوبية وفي البرازيل والأرجنتين في أقصى جنوب القارة، وألمح بوادر قلق بِشأن ما يمكن أن يحمله هذا «الربيع» لدول أوروبية.
*عن التجديد العربي