ظل التراث الفقهي والفكري الإسلامي يغلب عليه التعبير عن المنظومة السياسية والاجتماعية القائمة ومحاولة تحويلها إلى جزء من الدين، ولما كان الدين بطبيعته متسعا وعاما؛ فقد وجد الفقهاء والمنظرون والمفكرون مجالا واسعا لتديين الحالة السياسية والاجتماعية القائمة.
في مرحلة السلطة المطلقة التي سادت العالم، نشأ في الفكر الإسلامي فقه الطاعة والانضباط، وظل سائدا لقرون عدة، وعندما اتجه العالم بقيادة الغرب “المسيحي” إلى الديمقراطية والتعددية السياسية في عصر الصناعة، بدأ المفكرون الإسلاميون يقتبسون التجربة والفكرة ويجدون لها مجالا إسلاميا.
وبالنسبة للحركة الإسلامية الحديثة، ففي شغلها الاجتماعي والدعوي بعيدا عن السياسة الميدانية ظلت تغلب على أدبياتها النظرة المثالية واستلهام وتقديس تجربة عصر المدينة والخلفاء الراشدين، وفي عام 1980 صدر لمحمد أبي فارس أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن في ذلك الوقت كتاب “النظام السياسي في الإسلام”، وكان هذا الكتاب مفروضا على تشكيلات الجماعة، وهو في مجمله تلخيص انتقائي لكتاب “الأحكام السلطانية، لمؤلفه أبي يعلى الفراء (القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي)، وأضاف إليه المؤلف رفضه لفكرة الانتخاب، لأن المجتمع الإسلامي يقدم قادته على نحو تلقائي طبيعي كما اختير الخلفاء الراشدون، ثم ترشح المؤلف للانتخابات النيابية عام 1989 وصار نائبا ومقررا للجنة القانونية في البرلمان، بالرغم من أنه كان ومازال ينظر إلى الأنظمة السياسية القائمة في البلاد العربية والإسلامية بأنها ينطبق عليها قوله تعالى: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، ومن ثم تحرم المشاركة السياسية فيها، ومازالت الأنظمة الانتخابية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين تمنع الترشح للانتخابات عملا بالحديث النبوي الذي ينهى عن طلب الولاية، وإن تساهلت الجماعة في الترشح للانتخابت العامة، وهي مسألة تحتاج إلى وقفة مستقلة في فهم اختلاف النظرة بين الجماعة والمجتمع واختلاف الأحكام الشرعية المطبقة في الحالتين، وما تبعها من نشوء فقه خاص يخاطب به فقط الإخوان المسلمون، وكأنهم طائفة مستقلة لها أحكامها الخاصة بها، ويمكن ملاحظة ذلك، حتى في رسائل جامعية نوقشت في الجامعات، تلمس فيها بوضوح أنها تتضمن استنتاجات وأحكاما فقهية تخص الإخوان المسلمين وتنطبق عليهم فقط، وكأن ثمة خطاب إلهى خاص بهم.
ولكن موجة الديمقراطية العالمية التي هبت على العالم في أواخر الثمانينيات، شغلت الفكر الإسلامي الحركي والعام بالمسألة، وظهرت دراسات وكتب كثيرة مهمة بدأت تنتقل تدريجيا من أن الشوري معلمة للسطان إلى أنها ملزمة له، لتصل إلى استيعاب واسع وتطبيقي للديمقراطية والحريات ومشاركة المرأة وغير المسلمين في المناصب والحياة السياسية والعامة، ومن أمثلة تلك الكتب والدراسات، كتاب راشد الغنوشي “الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ورحيل غرايبة: الحريات والحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية، وحسن الترابي: السياسة والحكم بين الأصول وسنن الواقع، بل وقد تطور الفكر الإسلامي ليرى الديمقراطية والانتخاب تكليفا شرعيا واجبا، كما في الدراسة الضافية التي أصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي للباحثة أماني صالح بعنوان “الشرعية، بين فقه الخلافة وواقعها”.
واستهوت فكرة “الديمقراطية الإسلامية” بالمعنى الذي يردها إلى الإسلام، ليجعلها فكرة إسلامية وأن مخالفتها تمثل مخالفة للإسلام حماس مفكرين ونشطاء من غير الإسلاميين، هذا بالإضافة بالطبع لقطاع واسع من النشطاء الإسلاميين، وحاول بعضهم من المستوطنين في الغرب ترويج المشروع بدعم أمريكي وغربي، وأقيمت ندوات ومؤتمرات كثيرة في فنادق باذخة في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي، تسوق مقولة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، ولكنها في طابعها “البزنسي” والاحتفالي جاءت شبيهة بالحملات الإعلامية والإعلانية وأسلوب العلاقات العامة التي دأبت الشركات ومنظمات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة على اتباعها، مفضلة الأرباح المالية المختلسة/ المقتطعة من التمويل الغربي الفج والكريم لدعم حقوق الإنسان وتمكين المرأة وتعزيز الديمقراطية.
وبالرغم من أن الفكر الإسلامي السياسي يحتمل مقولة “الديمقراطية الإسلامية”، وبالرغم مما في الفكرة من إغراء وتشجيع للمتحمسين للتحديث والإصلاح من منطلق إسلامي أو غير إسلامي، فإن لها أيضا مخاوف ومحاذير كثيرة تجعل مرجحا/ مفضلا النظر إلى الإسلام، باعتباره يمثل قيمة ومرجعية عليا للقيم الكبرى الأساسية في الحكم والحياة “العدل والحرية والمصالح”، وفي الوقت نفسه التمييز بين الإسلام، باعتباره نصا مقدسا نزل من السماء “القرآن الكريم” وبين التراث الإسلامي أو الخطاب الإسلامي أو الشريعة الإسلامية التي تتضمن الفهم والممارسة العامة والتأصيل والتقعيد لتطبيق الإسلام على مدى القرون، بما يعني ذلك من خطأ وصواب، وتقدم وتخلف، وإبداع وقصور، وفي الوقت نفسه اعتبار اختلاف الزمان والمكان، وتطور اللغة والفهم والنظرة العامة نحو القضايا والمسائل، وما يتعلق بذلك من تطور واختلاف في تطبيق الشريعة وفهمها.
هذا التمييز ضروري جدا لدفع اللبس بين الثابت والمتحول، فخطورة ما يسمى الديمقراطية الإسلامية أنها تؤصل باعتبارها الإسلام، ثم تتغير الأحوال والاحتياجات، فيصبح ما اعتبرناه إسلاما بحاجة إلى مراجعة، وهو أمر جيد لولا اللبس والتبسيط، وتقديم الأفكار والمقولات على أنها من عند الله، “وما هو من عند الله”، ولا بد من الارتقاء بفهم الناس، والعمل على تقديم الفكر الإسلامي بعيدا عن التبسيط والمباشرة والترغيب والترهيب، ولكن على أساس أنه فكر سياسي يحتاج المسلم إلى عملية جهد فكري ليس سهلا لأجل فهمه وتطبيقه، فمع تطور العلوم والثقافة والتخصصات يجب أن يتطور التدين نفسه أيضا، ولا يظل عملية مبسطة تقدم كما كانت تقدم للرعاة والمزارعين الأميين.
النتيجة المميزة التي اكتسبتها من قراءة كتب المفكرين الإسلاميين عن الشورى والدولة الإسلامية أن الحكم والسياسة عملية ديناميكية متواصلة النمو والتغيير، وأن الناس يبنون أفكارهم ومعتقداتهم على نحو متواصل، وهم في ذلك يغيرون ويصححون ويطورون على نحو يجعل العلوم والأفكار في معظمها محاولة للإحاطة بالأفكار والتجارب الإنسانية اليومية والمتواصلة، ومن ثَمَّ فإن محاولة تشكيل فهم إسلامي واستنباط قواعد شرعية للحكم والسياسة، يجب أن تظل في هذا الإطار، البحث المتواصل والاعتقاد الدائم بأن ثمة ما هو أكثر صوابا، وهنا تكون صعوبة الأمر بالنسبة للمشتغلين بالفكر الإسلامي؛ فهم بحاجة لتقديم اجتهادات وفتاوى متغيرة في بيئة تعودت على النظر إلى الفتوى بأنها ثابتة.
المسألة الأساسية أن التدين ومحاولات تطبيق الإسلام لم تعد وربما لم تكن مجرد اشتقاق قواعد وفتاوى ومبادئ وأفكار لأجل تطبيقها والالتزام بها على أنها تعاليم الإسلام، ولكنها عملية استيعاب شاقة ومعقدة للأفكار والنصوص والأفهام والتجارب، ليست منزلة من السماء، وإن كانت تؤمن بالسماء مصدرا للحياة الأفضل والسعادة.
نعلم أن بيعة سقيفة بني ساعدة أسست لتقليد ومنهج في اختيار الحاكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يجب النظر إليها، باعتبارها تجارب إنسانية متأثرة ومتفاعلة بالبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها؛ ففي تجربة الخلفاء الراشدين كان نموذج المدينة والأرستقراطية، النموذج الذي أنشأ حالة من الديمقراطية والرضا والاستقرار، ولكنه نموذج لم يكن قادرا على الصمود في مرحلة الدولة المتسعة ومتعددة الأفكار والنخب والأرستقراطيات والتجارب والخلفيات، كان نموذجا يصلح لمجتمع متجانس ومتماسك ينظر إلى المدينة على أنها المركز الذي يُقتدى به، وإلى الصحابة وقريش على أنهم نخب المجتمع وقادته، ولكن المجتمع الجديد الناشئ بعد الفتوح أو المجتمعات بعبارة أكثر دقة لم يكن يرى الأمور كما يراها العرب في الجزيرة العربية؛ فهي مجتمعات لها تجارب وقيادات وثقافات وتطلعات ومشكلات لم تعِها بعدُ القيادات الأرستقراطية في المدينة التي كانت تستخدم هيبتها وتاريخها لفرض حكمة تراها.
وبفعل تلك التطورات، انتهت حقبة الخلافة الراشدة، ودخل نظام الخلافة حقبة جديدة بدأت بعملية جديدة لإعادة بناء الخلافة وتأسيسها على أسس مغايرة. وتحول بمجيء معاوية مفهوم الحكم من الخلافة إلى الملك، وتعددت المصادر المرجعية للحكم، فلم تعد قاصرة على الشريعة وحدها، واعتمدت الوراثة لانتقال السلطة بدلا من الشورى.
كانت الدولة الأموية استجابة واقعية ضمن الخبرة والتجارب المتاحة لتشكيل إدارة جديدة للدولة المتسعة والمجتمعات الكثيرة المتنوعة تستوعب تجربة الدولة البيزنطية، من تشكيل الجيوش من المقاتلين والجنود المحترفين الذين يتلقون رواتب منتظمة ويعملون ضمن إدارات ودواوين معقدة للتدريب والإمداد والتمويل والتنظيم، وتنظيم المؤسسات والتوثيق على أساس من القانون والدولة وليس على أساس الثقة ومعرفة الناس ببعضها.
والواقع أن الديمقراطية تجربة إنسانية حديثة، بدأت بالفعل عام 1776 بقيام الولايات المتحدة الأميركية، وقبل ذلك كانت محاولات وتجارب محدودة يغلب عليها المدنية والهيمنة الأرستقراطية، ومن ثَمَّ، فإن فكرة الديمقراطية الإسلامية هي فكرة حديثة جدا، وإن كان أصحابها يجدون لها جذورا وأدلة في النصوص والتراث الإسلامي.
الشورى في القرآن الكريم قاعدة أساسية في الحكم والحياة، ولكن مقتضاها الأساسي بتقديري هو أنسنة الحكم والإدارة والحياة وليس تديينها أو جعلها يئا من «الثيولوجيا»، ولذلك، فإن البحث في وجوب الشورى وإلزاميتها وعدم إلزاميتها هو من استحضار ما لا يلزم، لأن القول بوجوب الشورى والتزام رأي الأغلبية على سبيل المثال، وإن كان موقفا منسجما مع الحداثة والوجهة الديمقراطية اليوم ينطوي على فكرة أخرى خطيرة، وهي مصدر ضرورة وإلزام الأغلبية، هل هو الالتزام الديني ومخافة الله وطمعا في ثوابه، أم هو تحقيق المصالح والمقاصد العامة والمجتمعية وتطوير آليات وأدوات العمل والإدارة ومراجعتها، وفرق كبير بين الحالتين، وإن كانتا تنشئان آلية سياسية ترجع إلى الأغلبية.
ففي الحالة الأولى (الدينية)، سيتعطل النظام الاجتماعي والثقافي المنشئ لآليات العمل والموارد والحكم والسياسية، وسيدور البحث دائما حول البحث عن المخارج والأدلة الشرعية واستنطاق النصوص بحثا عن موقف ربما يكون معدا مسبقا، أو بحثا عن الحقيقة أو محاولة للانسجام مع التقدم الإنساني المحيط ومحاولة مواكبته، وهذا لا ينشئ تقدما وإبداعا في الحياة، ولا ينشئ أيضا حيوية في النظام الاجتماعي والاقتصادي، ويجعله أسير نصوص وأفهام وأهداف غير متصلة بالحياة نفسها، ولكن بما بعد الحياة!
الأصل الإنساني في فكرة الشورى والديمقراطية هو العجز عن معرفة الصواب، ولأننا لا نعرف الصواب، فإننا نتشاور ونلجأ إلى رأي الأغلبية؛ أي أن هذا النظام ينشئ بذاته مجموعة من الديناميكيات والعقود التي يجب أن تعمل تلقائيا، أولها أننا لا نعرف الصواب، ولكنا اخترنا رأي الأغلبية مظنة اقترابه من الصواب أكثر من غيره، وهذا يعني ضرورة البحث المتواصل عن الصواب، وضرورة احترام الآراء الأخرى المخالفة للأغلبية والسماح لها بالعمل والتعبير، فربما تتحول، لتكون هي رأي الأغلبية وموقفهم.
هذا الفرق الكبير بين الشك واليقين ليس سهلا، وهو جوهري ويغير كل شيء تقريبا.
*عن موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود