هذا الثلاثي كلهم من الجنوب. وكلهم من أعالي الأطلس الكبير الجنوبي. وكلهم من عائلات تواجهت مع كبار القياد الذين تحالفوا مع المستعمر الفرنسي، وأساسا مع باشا مراكش التهامي لكلاوي وتابعيه.. هم بهذا المعنى يصدرون عن جيل مغربي كان ناهضا ضد جبروت السخرة وجبروت الإستبداد كما مارسه أولئك القياد على امتداد النصف الأول من القرن العشرين. ووجدوا في الحركة الإتحادية حضنا لمواصلة المعركة ضد الإقصاء ومن أجل المشاركة ديمقراطيا في تحقيق أسباب التحول والتنمية مغربيا. وبروفيلاتهم تعكس قوة لحظة تلك الحركة في زمنها المغربي ذاك، منذ السنوات الأولى للإستقلال حتى حكومة التناوب، ففيهم المهندس والأستاذ الصحفي والتاجر. وما يجمعهم ليس جدرا مجتمعيا، بل مشروع مجتمعي.
أولهم هو سي محمد آيت قدور، ابن ميدلت وإيتزر بالأطلس الكبير عند قدم جبل العياشي الذي تنتهي سلسلته في الجزائر. كان مديرا ذات زمن لميناء القنيطرة وكانت علاقته قوية بالطيار المغربي الشهير أمقران (أسمى ابنه الوحيد باسمه “أمقران آيت قدور”) الذي كانت مشاركته حاسمة في المحاولة الإنقلابية الفاشلة ضد الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني وأعدم بعدها. هرب آيت قدور، إلى الجزائر ومنها إلى فرنسا حيث ربط الصلة بكبار رجالات اليسار الفرنسي مثل بيير جوكس (وزير الداخلية في عهد ميتران) وعاد سنة 1989 واعتقل وقضى 9 أشهر في السجن.
الثاني هو سي محمد البريني. أستاذ اللغة الفرنسية، كاتب القصة القصيرة بذات اللغة، والذي عرف أكثر بمسؤولياته في الصحافة الإتحادية والخاصة كمدير سابق ليومية “الإتحاد الإشتراكي” وكمدير حالي ليومية “الأحداث المغربية”. الرجل من قبائل سكورة الجنوبية على ضفاف وادي درعة وزيز، كجزء من مناطق آيت عطا التي لقنت الفرنسيين درسا باهرا في المقاومة وأسقطت لهم طائرات بأسلحة عادية في معركة بوغافر بجبل صاغرو بقيادة البطل عسو باسلام. وإليه يعود الفضل في إعادة بناء مقر يومية “الإتحاد” الجديد بزنقة الأمير عبد القادر بالدارالبيضاء، التي كانت في لحظتها أحدث بناية صحفية في كل المغرب العربي وليس فقط في المغرب.
الثالث هو عبد الله العسبي (والدي)، هو قصة وحده. التحق بالحركة الإتحادية سنة 1959 وكان عضوا بفرعها بالدائرة 9 بسيدي عثمان بالدارالبيضاء، وكان المسؤولان المباشران عن خليته هما الشهيد عمر بنجلون والمرحوم ابراهيم الباعمراني. كان محله التجاري ملاصقا لفرع الحزب الذي سيصبح فيما بعد محل سكناه بعد أن انتقل الفرع إلى عنوان آخر بدرب البلدية بذات الحي (الزنقة 80). وفي ذلك البيت ولدت سنة 1964، وهو يحب دوما أن يقول لي “إنك ولدت في ذات الغرفة الواسعة التي كان يحاضر فيها مرارا كل من علال الفاسي والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون وعبد القادر الصحراوي.”. سيلتحق بعد اعتقالات وقمع 1963 الشهير بمجموعة شيخ العرب التي اعتقل معها في صيف 1964 (كان عمري حينها 28 يوما) وحمل إلى معتقل درب مولاي الشريف وبقي مجهول المصير لسبعة شهور كاملة، واستمرت محاكمتهم سنتين ونصف السنة بمراكش أمام القاضي الشهير اللعبي. وكان محامي والدي هو الأستاذ عبد العزيز بناني (الذي سيصبح في ما بعد رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان). كان صديق والدي الأكبر ضمن مجموعة شيخ العرب هو المرحوم ابراهيم الحلاوي والأستاذ مهري والأستاذ عبد الله بوهلال. فيما بعد سيصبح المرحوم عبد الله المستغفر والأستاذ محمد كرم والأستاذ عبد القادر الزاير والأستاذ مصطفى كنعان أصدقاءه الكبار.
عبد الله العسبي، لا يزال هو هو، في سنواته 78 لا يزال بذات الصرامة في التحليل وبذات خطاب المدرسة السياسية التي كانت. هو صديقي وأستاذي. مرة حكى لي الأستاذ مصطفى كنعان أنهم كانوا في اجتماع حزبي لاختيار مرشحي الإتحاد في الإنتخابات وكان التدافع كبيرا في نهاية التسعينات. ظل والدي صامتا وفي لحظة طلب الكلمة وقال لإخوته: “عندي طلب. رجاء لننزل هذه الصور المعلقة على جدران المقر. صور الخطابي وعمر بنجلون وكرينة والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وشيخ الإسلام بلعربي العلوي ولندرها إلى الحائط، بعدها يليق بنا جميعا هذا الكلام وهذه الطريقة التي نتسابق بها على الكراسي”. صمت الجميع وقام هو بهدوء وخرج.