تولّدت، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، فرضية ما لبثت أن صارت إلى يقينية مفادها أنّ عملية التغيير السياسي والثورة على أيّ نظام قائم، وإقامة نظامِ حكمٍ بديل، لم تعد في حاجة إلى توسّل الأدوات والأطر التنظيمية التي كان مألوفاً توسُّلها، ومنها الأحزاب السياسية، وأنّ الديناميات الاجتماعية الجديدة، التي شهدها العالم، وتولّدت منها أشكال جديدة من الحَراك الثوري «العفوي»، أو الخارج عن أيّ نطاق تنظيمي، وذلك منذ ستينات القرن عينِه (والانتفاضات في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية ثم في فرنسا وأوروبا في العام 1968 في جملتها)، أنتجت أطراً جديدة لفاعليةٍ ثورية شاخت الأحزاب عن النهوض بها، ووسَّعت من النطاقات الاجتماعية للفاعلين السياسيين، الذين أخفقتِ الحزبيةُ السياسية في إدماجهم ضمن أطر عملها. لقد عُدَّت «مؤسسات المجتمع المدني» (هي) تلك الأطر الجديدة للحراك الهادف إلى التغيير، وصِيرَ إلى التعويل عليها كبدائل فعَّالة في أيِّ عمليةٍ للتغيير.
لم يكن هذا الوعي ثمرةَ تفكيرٍ نظري سياسي في عملية التغيير والثورة، ولا ثمرة مراجعات فكرية للتجارب الثورية في العالم، بمقدار ما أتى انفعالاً بأحداثٍ (لا تفاعلاً معها) كانت بلدان عدّة مسرحاً لها، انتهت بسقوط أنظمة وقيام أخرى، وكان لتلك القوى والمؤسسات دورٌ ملحوظ في مجرياتها. منذ سقط النظام الديكتاتوري في الفلبين، بالتظاهرات الشعبية، وتشكل في أعقابه نظام كورازون أكينو، وسقط نظام جعفر نميري في السودان، بتظاهرات شعبية (لم يكن لأحزابٍ مثل «حزب الأمّة» و«الاتحادي الديمقراطي» و«الجبهة القومية الإسلامية» و«الشيوعي»، دور في تنظيمها وقيادتها)، وسقط نظام الديكتاتور سوهارتو في إندونيسيا، بتحركات شعبية واسعة في «الشارع»، إلى بداية الانتفاضات في أوروبا الشرقية، غداة أحداث بولونيا في نهاية ثمانينات القرن…، زاد معدّل الانتباه لما سُمِّي من غير تدقيقٍ نظري بتنظيمات «المجتمع المدني». ولقد كانت انتفاضات بلدان شرق أوروبا («الشيوعية» آنذاك) المختبر الأساسي لفرضية التغيير من دون أدوات حزبية؛ فالذين أسقطوا نظام الجنرال ياروزلسكي في بولونيا، ونظام نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا، ونظام هونيكر في ألمانيا الشرقية (وحائط برلين استطراداً)، ومعها أنظمة شبيهة في هنغاريا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، لم تكن أحزاباً سياسية، بل شارعاً شعبياً ومنظمات مدنية.
ولم تكُن المفاجأة في أن هذه المنظمات المدنية (هي) مَن أمْسَك بمقاليد قيادة الانتفاضات والتظاهرات ما خلا في حالة بلغاريا وهنغاريا ورومانيا بل في أنّ بعض تلك المنظمات وَصَل إلى السلطة، وتشكلت نخبةُ الحكم منه، أو صار قادتهُ رؤساء للدولة. وذلك ما ينطبق على حالة بولونيا، التي أصبح ليش فاليسا، زعيم نقابة «تضامن»، رئيساً للدولة فيها؛ وعلى حالة تشيكوسلوفاكيا، التي أصبح الكاتب المسرحي، فاكلاف هافل، رئيس «المنتدى الديمقراطي»، رئيساً لها. هكذا شاع الاعتقاد بأن أدوات التغيير تغيّرت، ولم يعد للحزبية السياسية احتكار هذا الشرف، بل عمّت موجةٌ من النقد للأحزاب والحزبية، ولكن لا من باب نقد أخطائها، وكشف عيوبها، ومراجعة يقينياتها التي تحتاج إلى مراجعة، بل من باب إصدار أحكام الإعدام في حقها، وإشهار وفاتها وارتفاع الحاجة إليها. وهذا ما يفسِّر لماذا تناقصت جاذبية الحزبية في العالم، وضؤُل حجم قاعدةِ المنتسبين إليها، في الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة، ولماذا ارتفع الطلبُ بدلاً منها على منظمات المجتمع المدني «من جمعيات حقوقية وبيئية ونسائية في العالم كلّه، حتى إن الأحزاب أصبحت عاطلةً عن العمل، ولم تعد تشتغل إلاّ في مواسم الانتخابات.
والنتيجة التي نجمت من ازدراء التنظيم السياسي، والزراية به، والحطِّ منه، هي: تقديس العفوية، والتعويلُ عليها فاعلاً جديداً، وافتراضُ إمكان اجتراحها المعجزات السياسية، ولم يكن تقديس العفوية هذا جديداً على فكرة الثورة؛ فجذورهُ تمتد في التاريخ إلى ما يزيد على قرنين (الحقبة اليعقوبية في الثورة الفرنسية، ثم الثورات التي ورثت تقاليدها). ولكن، بينما كان يَسَعُ مفكّري ومنظّري الثورات المأخوذين بفكرة تقديس العفوية، التنظير لأطروحتهم بجهاز من الأفكار والمفاهيم متماسك؛ وبينما كان يسعهم أن يبرّروا لماذا كانت الكومونات مثلاً (كومونة باريس، كومونات كرونشتاد)، ولماذا كانت المجالس (مجالس التسيير الذاتي في يوغوسلافيا وغيرها مثلاً)، أرقى وأنفع من نماذج البيروقراطية الحزبية في الإشراف على مؤسسات الإنتاج وتسييرها بدلاً من القوى العاملة؟…، لم يكن في وسع مقدِّسي العفوية، اليوم، أن يقنعوا أنفسهم، قبل غيرهم، بمنافع تلك العفوية وفوائدها كما كان يفعل الكومونيون والمَجَالسيون Les conseillistes قبل عقود. هذا من غير أن نشير إلى أنّ الأخيرين إذا كانوا شديدي النكير على الحزبية، وعلى البيروقراطية الحزبية، والتنظيم الفوقي المفروض على الجماهير، فإنهم لم ينزلقوا يوماً إلى رفض مبدأ التنظيم بإطلاق؛ فهُمْ رأوا في الكومونات والمجالس وطريقة التسيير الذاتي شكلاً من أشكال التنظيم خاصاً بالمنتجين وليس مفروضاً عليهم من علٍ.
يستسهل الكثيرون، اليوم، عملية التغيير حين يتصورون بقدرٍ من الخِفّة أنّ أدواتها هي «مؤسسات المجتمع المدني»، غير منتبهين إلى أنّ عمل هذه المؤسسات متخصص غير جامع، بينما السياسي جامع بالضرورة، بل هو بؤرة العلاقات والمؤسسات كافة. المؤسسات المدنية بطبيعتها مطالبية، ومطالبها محصورة في الحقول التي ينصرف إليها عملُها. ولذلك ليست السلطة ونظام الحكم ممّا يقع في حكم مشمولات ذلك العمل. ليس في هذا حطٌّ من أدوار هذه المؤسسات، لأن هذه الأدوار ذات فوائد كبيرة في مجالها الطبيعي، وفي نطاقاتها الضيقة أو الجزئية؛ وهي أدوار قمينة بتحسين أوضاع الحقوق والحريات في المجتمع مثلاً؛ وليس ذلك بالقليل. غير أن اختراع أدوار سياسية كبرى لهذه المؤسسات فيه مقْتلةٌ عظيمة لها وللسياسة على حدّ سواء؛ فما تجمعه السياسة من حقول يُجزِّئه العمل المدني. والمشكلة تبدأ حين تتصدر تلك المنظمات المدنية عملية قيادة حركة التغيير؛ تتعدد الرؤوس والمرجعيات، وتغيب أواصر التنظيم، وتصبح العفوية والفوضى سيّدتا الموقف: على مثال ما جرى في «ثورات» العام 2011.
تأخَّر وصولُ أوهامِ «الثورة من دون أدواتٍ ثورية»، وأوهام التغيير السياسي الممكن من طريق عفوية «الشارع»، إلى البلاد العربية والثقافةِ السياسية فيها. وحين وصلت، دخلت من طريق قوى التمويل الأجنبي والإعلام المرتبط بها. ولكنها نجحت في استدراج كثيرين إلى شراكها لم يكونوا، جميعَهم، ممّن تلقوا التدريب الإلكتروني والإيديولوجي على «التغيير» في صربيا وسواها. ولقد كان هؤلاء في جملة جمهور المنتفضين على الأنظمة في الساحات العامة من دون روابط تربطهم غير الروابط الإلكترونية؛ فكان أن وقعتِ الواقعة: سقطت أنظمة كادت تذهب معها دول، فيما عَمَّ فراغٌ سياسيّ لم يملأه إلاّ مَن كان منظَّماً. ولكن، حدث ذلك «بعد خَراب البصرة» كما يقول المثل.
*عن موقع ” ايكسير “
نشر به يوم 28 فبراير 2016