أعاد قرار اعتذار المغرب عن احتضان القمة العربية، في دورتها العادية، خلال شهبر أبريل القادم، إلى الواجهة سؤالين كبيرين:
يتعلق الأول منها، بفائدة عقد قمم عربية، لا تبني موقفا، ولا تخرج بقرار، وليست أكثر من ملتقى للخطب. فيما يتعلق الثاني، بمدى انخراط المغرب في عمقه العربي مثلما كان عليه الحال على عهد الملكين محمد الخامس والحسن الثاني.
الحقيقة، إن قرار المغرب، على عكس ما يعتقد، خاصة مما روجته بعض ردود الفعل الصادرة بالمشرق العربي (خاصة بمصر)، قرار غير متسرع، مفكر فيه، وجريئ بالمعنى السياسي للكلمة. بل إنه أكثر من ذلك، هو ترجمان لوضوح المغرب في تعامله مع الواقع الجديد للتحالفات العربية العربية، التي هي متأسسة على منطق جيو سياسي جديد، يؤكد فعليا أن فكرة الجامعة العربية، إن لم تعد شكلية، فهي على الأقل تعيش واحدة من أضعف لحظاتها في التاريخ المعاصر للدول القومية العربية، منذ تأسيسها في الأربعينات بمؤتمر شافودا بمصر. والوضوح المغربي، هنا، يستند على أن منطق التحالفات العربية الجديدة، الذي فجره ما بعد الربيع العربي، كامن في الزلزال الذي تعيشه خرائط العالم العربي بالمشرق والمغرب، تلك التي ولدت ما بعد اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية الإنجليزية لسنة 1916. إذ علينا الإعتراف أننا أمام تحول غير مسبوق في معنى الدولة القطرية بالعديد من المناطق العربية، وأن منطق الطائفية وصراعاتها الذي كان قائما منذ نهاية القرن 19 وفي بداية القرن العشرين، وصولا حتى سنة 1932 (تاريخ تأسيس دولة المملكة العربية السعودية)، وقد كان دمويا عنيفا جدا، قد بدأ يطل برأسه مجددا في جغرافيات العرب.
الأمر هنا منسحب على الوضع في العراق وفي سورية وفي اليمن وفي لبنان وفي ليبيا، وغدا لا قدر الله ربما في الخليج (خاصة البحرين والكويت والسعودية). بالتالي، فإن معنى عقد قمة عربية بالمغرب، في ظل هذه الأوضاع الشديدة التعقيد، التي الواقع يصنع فيها بشكل جديد ليس للدول القطرية العربية فيه اليد النهائية الحاسمة (خاصة بالعراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان)، يعتبر عبثا حقيقيا، بكل مقاييس النزاهة الأخلاقية قوميا وسياسيا. بهذا المعنى، فإن العرب، هم في حاجة في الحقيقة، إلى إعادة ترتيب جيو سياسية، تفرض قمما مصغرة لعواصم عربية لها القدرة على إعادة صياغة خريطة المصالح بكل العالم العربي، بما يتوافق وميزان القوى مع مختلف المصالح العالمية المتقاطعة مع بلاد العرب (الثروات والإنسان والمواقع الجيو ستراتيجية). هنا مهم أن تعقد مثلا، قمة مغربية جزائرية تونسية موريتانية مصرية خليجية أردنية سودانية، يكون صلب موضوعها هو بلورة استراتيجية جديدة للعالم العربي ممتدة على أفق القرن 21 كله. وأن تكون تلك الإستراتيجية مسنودة بأمرين حاسمين: إعادة تنظيم السوق الإقتصادية للعالم العربي كتكتل ضمن باقي التكتلات العالمية، وضمن نظام السوق العالمي. وأيضا بلورة قوة عسكرية عربية مشتركة، تحمي تلك السوق وتحمي الدول وتحمي حق الإنسان العربي في الحياة، بمقاييس حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، في كافة أبعادها، سواء السياسية أو الإقتصادية أو الثقافية أو البيئية أو الأمنية. وهنا الرهان يجب جديا، أن يكون موكولا على عمقين وازنين وكبيرين، هما العمق الخليجي والعمق المغاربي، وحلقة الوصل بينهما هي مصر.
إن هذا التحدي لا يمكن إنجازه، بدون ثقافة سياسية جديدة بكل العالم العربي. ثقافة تنتصر للحداثة السياسية في معناها الحضاري الشامل. وأن المداخل المركزية لذلك، هي التعليم والإقتصاد والأمن. بمعنى أوضح، لا يمكن للمنهاج السياسي المتبع حتى اليوم في الخليج مثلا أن يكون مساعدا لتحقيق ذلك، لأنه لا يمكن مواجهة التطرف والطائفيات المتعددة، بدون إعادة نظر شاملة في منظومة صناعة الفرد هناك، عبر التعليم والإعلام.
ها هنا يكمن عمق معنى رفض المغرب لاحتضان قمة عربية لا يمكن أن تنتج فعلا ملموسا في الواقع الملموس للفرد العربي، هنا والآن. خاصة وأن الجغرافية المغربية، في قصة تاريخ احتضانها للسؤال العربي عبر قمم الجامعة العربية، ظلت دوما محطة مفصلية في بلورة مواقف مشتركة للدول العربية، تشكل انعطافة تاريخية ضمن ملف من ملفات العرب الحاسمة والآنية. بدليل مؤتمر القمة الإسلامية بالرباط سنة 1969، بعد إحراق المسجد الأقصى، التي دشنت عمليا لتحول في الفعل السياسي للعرب بأفق إسلامي أوسع (حتى وإن قرأ فيه البعض أنه تدشين لموقف سلبي من القومية العربية بواقعها البعثي والناصري حينها). وأيضا قمة الرباط العربية لسنة 1974، التي تم فيها فك أزمة القضية الفلسطينية ومن له حق الوصاية عليها، هل الأردن أم مصر أم الخليج، وكان القرار هو أن سيد الموقف الفلسطيني هم الفلسطينيون أنفسهم، من خلال ما بلوره حينها الشعب الفلسطيني من تنظيم سياسي فاعل في الميدان هو منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعترف بها رسميا في تلك القمة ممثلا شرعيا ووحيدا لذلك الشعب في نضاله من أجل الحرية والإستقلال. وأخيرا قمة فاس العربية الثانية سنة 1982، التي بلورت موقفا عربيا موحدا حول شكل إحلال السلام بالمشرق العربي في العلاقة مع دولة إسرائيل. وهو المشروع المتكامل الوحيد الذي لا يزال مطروحا على الطاولة إلى اليوم، فصل فيه أكثر مؤتمر جدة بعد ذلك بسنوات.
من هنا، فإن الموقف المغربي الجديد، هو في الحقيقة موقف جريئ غايته تحريك ممكنات الحلول عربيا (مشرقيا ومغربيا)، بمنطق الدولة. وأن أول الطريق ربما هو إلحاحية إعادة ترتيب خريطة القوى الجيو ستراتيجية عربيا، بالشكل الذي يمنح للأجيال الجديدة من صناع القرار السياسي العربي، فرصة بلورة مشروعهم القومي المتصالح مع منطق وحسابات القرن 21. المنطق الذي فيه اليوم قوى إقليمية جديدة، وازنة وقوية، مثل إيران وتركيا. وفيه أيضا فعالية قوى دولية جديدة مثل الصين والهند وباكستان. وفيه أيضا التحولات المعتملة بالفضاء الأروبي، بزعامة ألمانيا وإنجلترا، التي تفرض عليهم إعادة موضعة حسابات الكتلة العربية، بما يحقق انفتاحا على طريق الحرير الصينية الجديدة، وأيضا على التعايش مع الطموح الإيراني والطموح التركي، وكذا إعادة بلورة شكل جديد للفضاء المتوسطي بين شماله وجنوبه. وأن البوابة الأمثل لذلك، هي دعم وبلورة فضاء آفرو متوسطي، متكامل (بمنطق رابح رابح) مع الفضاء الأرو متوسطي. وهنا مرة أخرى الفضاء الخليجي والعمق المصري والفضاء المغاربي حاسمون في بلورة ذلك. فهل القمة العربية مؤهلة لإنجاز ذلك؟.
الجواب، عمليا وميدانيا، في غياب تنظيم تكتل اقتصادي وشكل لتنظيم تعاون عسكري منسق ودقيق وواضح، إنما يدفعنا إلى الجزم، للأسف، أن تلك القمة العربية غير مؤهلة لإنجاز ذلك. فما الفائدة إذن من عقدها؟. واضح أن القرار الأسلم هو عقد قمم مصغرة، مشرقية ومغاربية، قبلية، من أجل بلورة مشروع عربي جديد، يكون للقرار السياسي العربي أثر فعلي ملموس فيه. غير ذلك، ستظل القمم العربية ناديا للخطابة خارج التاريخ.