تُعلِّلُ بعض القوى العظمى تدخٌّلَها في شؤون بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسعيها لدمقرطة هذه الأخيرة. وهذا ما يُشَكِّل تناقضا صارخا، لأن تلك القوى لم يتم بناء مجتمعاتها ديمقراطيا عن طريق تدخل قِوَى خارجية، وإنما أساسا عبر ثورات فكرية وثقافية ومجتمعية قام بها مثقفوها وعلماؤها ومجتمعاتها… أضف إلى ذلك أن البناء الديمقراطي في البلدان الغربية لم يتم بتحالف قِوَى الاستنارة والحداثة مع الكنيسة ومحاكم التفتيش، بل كان ثورة عليها، حيث شكَّل قطيعة معرفية وسياسية معها. لذلك، ليس معقولا أن نجد اليوم هذه القوى تدَّعي العمل على “البناء الديمقراطي” لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مُوظِّفة في ذلك العوامل الطائفية والقَبَلِية التي تتناقض جذريا مع طبيعة الديمقراطية، ما يعني أن هذه القوى تسعى من وراء ذلك إلى إثارة الحروب في هذه المنطقة بهدف تفتيت أوطانها وإحكام سيطرتها عليها… فضلا عن ذلك، لم يسبق تاريخيا أن كانت النزعات الطائفية والقَبَلِية وحروبها وسيلة للبناء الديمقراطي والوحدة الوطنية… وتؤكد الحروب الجارية اليوم في هذه المنطقة أنها تسير في اتجاه تدمير أوطانها… وهذا ما جعل أغلب المتتبعين يفسرون تدخل هذه القوى في هذه المنطقة بكونه يرمي إلى خلق شروط تمكنها من تطبيق صيغة جديدة أخطر من “اتفاقية سايكس بيكو” التي صيغت في عام 1916، والتي نتجت عن اتفاق وتفاهم سرٌِي بين فرنسا وبريطانيا بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد سقوط الدولة العثمانية، التي كانت تسيطر على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى…
تؤكد مختلف الإنتاجات الفكرية حول الديمقراطية وتاريخها أن الثقافة الديمقراطية تقتضي من الفرد أن يكون ضد أي تدخل أجنبي في شؤون هذه المنطقة. وإذا كان أهلها من القصور لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يكونوا ديمقراطيين بأنفسهم، فهم لن يكونوا قادرين على أن يصيروا كذلك بتدخل غيرهم. لذلك إذا أردوا أن يكونوا ديمقراطيين، فعليهم أن يكونوا هم أنفسهم كذلك. لكن شروط تحقق هذا غير متوفرة اليوم في مجتمعات هذه المنطقة، ولا يمكن أن تتوفر إلا عبر التحديث والبناء الديمقراطي، وإعادة قراءة الدين قراءة سليمة وجديدة، وجعله تجربة شخصية روحية يجب احترامها. أما كل ما يتعلق بشؤون المدينة والبشر، فيجب أن يٌتْرَكَ للقانون وللبشر…
تقتضي الديمقراطية ألا يكون الإنسان ضد الدِّين باعتباره علاقة بين الفرد والله، حيث إن الأمر يتعلق بحاجة كيانية يجب احترامها. لكن لا يمكن قبول أدلجة العقيدة واستغلالها سياسيا عبر تحويلها إلى أداة في الصراع الاجتماعي السياسي. وهذا أصل مشكلة هذه المجتمعات، ما يقتضي الفصل الكامل بين الدين كرؤية إيديولوجية سياسية من جهة، والدولة والمجتمع من جهة أخرى. وما دامت مجتمعات هذه المنطقة لم تتمكَّن من إنجاز ذلك، فلن تستطيع أن تبني ديمقراطية ولا مجتمعا مدنيا. وإذا كانت الإيديولوجيا نفيا للديمقراطية، فكيف يمكن بناء هذه الأخيرة عن طريق الإيديولوجية الدينية؟! فهذه تتعارض مع الأولى من حيث طبيعتها، حيث تنفيها نظريا وسياسيا وإيمانيا. فعلى المستوى الإيماني، لا يوجد الآخر إلا بوصفه كافرا. وما دامت الرؤية الإيديولوجية الدينية هي المهيمنة مجتمعيا ومؤسسيا وقانونيا وتشريعيا، فلا يمكن أن تتوصل بلدان هذه المنطقة إلى الديمقراطية ولا إلى بناء مجتمع مدني. وهذا هو التحدِّي الكبير الذي تواجهه اليوم هذه الأخيرة. وبدون نجاحها في تجاوزه، سوف يجرفها التيار…
وما يجري اليوم في هذه المنطقة من حروب طائفية وقَبَلِية عنيفة هو اختبار للأنظمة القائمة أكثر مما هو اختبار للشعوب، أو المثقفينً؛ إنه امتحانٌ للدولة ولبنياتها ورؤيتها الثقافية والسياسية والإنسانية من أجل أن تؤكد مدى قدرتها على أن تتغير، فتستمر… أما إذا عجزت عن ذلك، فستندثر…
عندما ننظر إلى مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بكل ثرواتها وطاقات الأفراد المنتمين إليها في الداخل والخارج، خصوصا من المفكرين والمبدعين والمهندسين والأطباء والمفكرين الكبار على قلَّتِهم، نجدُ أنَّ الفرد العربي لا يقل ذكاء عن نظيره في بلدان العالم المتقدم. فهو يتوفر على ذكاء ويُحرزُ تفوٌّقا، لكن هذا وغيره من الميزات لا يتأتى له غالبا إلا خارج مؤسسات مجتمعه. ويعني ذلك أن العائق في وجه تطور مجتمعات المنطقة التي تعنينا لا يكمن في الأفراد، وإنما في مؤسسات هذه المجتمعات. فعندما نقارن ما أنجزته هذه البلدان خلال القرن الأخير بما حقَّقه الغربيون خلال الفترة نفسها، نستنتج بكل وضوح أن العرب والمسلمين يسيرون في اتجاه الانقراض، بمعنى أنه ليس لهم أي حضور مُبتكِر على الساحة الإبداعية العالمية. فالبشر موجودون عدديا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكنهم ينقرضون عندما تنعدم لديهم القدرة على الإبداع والإنتاج وتحسين أوضاع عالمهم… وأبرز دليل على هذا السير نحو الانقراض هو أن الأغلبية الساحقة من نخب ومفكري هذه المنطقة ما زالوا يفكرون في إطار سياق هذا الاندثار، ولم يستطيعوا بعد الانفصال عنه. وهذه هي الأزمة الفكرية والثقافية الحقيقية لهذه المجتمعات، إذ تجابه عالما جديدا بأفكار لم تعد موجودة وسياق انتهى…
خلاصة القول، لقد أدى تَلَكٌّؤ الأنظمة السياسية السائدة في هذه المنطقة إلى عرقلة إرساء مؤسسات ديمقراطية تؤهل هذه الرقعة من العالم للالتحاق بركب الدول الحديثة والمتقدمة. كما أن التأويل السائد للدين لدى المسلمين جعلهم يهدمون الإسلام، إذ أصبحوا يفتكون بذاتهم بشكل أعمى، ما جعل أغلب المتتبِّعين يَرَوْن أن مستقبل المنطقة سيزداد سوءا على نحو يمكن أن يؤدي إلى انقراض أهلها وكياناتها… نتيجة ذلك، يلزم أن تُحدِث مجتمعات هذه المنطقة قطيعة كاملة مع سياق الانقراض على جميع المستويات، وتفكر في تطوير ثقافة ومجتمع جديدين…