هو رجل إشكالي، ومن يكون مثله، لا يكون عبوره بدون صدى. يعود الأمر، ربما، إلى الفضاء الذي تعلم فيه الحياة، وتشرب قيمها التي تلتصق بالروح، التصاق الوشم بظاهر اليد. أي فضاء مدينة مثيرة، جميلة، عتيقة، مثل مدينة الصويرة المغربية.. المدينة، التي تعايشت فيها الديانات السماوية الثلاث منذ قرون، لأنها كانت وبقيت، ميناء تواصل مع العالم لقرون، بالنسبة للمغاربة، منذ الزمن القديم للفينيقيين، ومنذ الرحلة الشهيرة للقرطاجني حانون (تلك الرحلة التي أخدته في القرن الخامس قبل الميلاد، إلى ست مدن/ موانئ مغربية هي: طنجة، أصيلة، الليكسوس (العرائش الحالية)، الصويرة، فونتي (أكادير الحالية) والداخلة، ووصلت به حتى بلاد الكاميرون بعد أن توقف بنهر السينغال).
بالتالي، فإن الرجل، الذي ولد في الثلاثينات من القرن الماضي، بمدينة الصويرة، قد ظل يعبر من باب إلى باب، وهو يقرأ أبجديات الكتابات العربية الإسلامية على مداخل المدينة، المجاورة للكتابات العبرية وللكتابات المسيحية. وحين كان يعبر من ذا الزقاق إلى ذا الزقاق، ومن هذه الساحة إلى تلك، كانت تتصادى في سماء وعيه، أجراس الكنائس وأصوات الأدعية في «الميعارات» (الكنائس اليهودية)، وصوت الآذان القادم من المآذن، مناديا أن «الله أكبر» من أجل الصلاة. إن طفلا مثله، لا يمكن إلا أن يكون ابنا للحياة مختلفا، وأن يكون مغربيا حتى النخاع، من حيث أن منابع الإنسية المغربية (حضاريا)، قد ظلت تغتني منذ الأزل بالتعدد والإنفتاح، بفضل الإحتكاك القديم مع العالم، كل العالم. أليس في الصويرة تلك، أنزل الإنجليز لأول مرة الشاي إلى إفريقيا في القرن 16، حين كان العالم العربي والإسلامي، كله قهوة (هدية العرب ومصر والعثمانيون إلى العالم)؟. ألم يصبح من حينها المغرب شايا والمشرق قهوة؟.
لهذا السبب، كان عاديا، بل طبيعيا، أن يكون الرجل ذاك رجل مسرح. ألم يولد شكسبير، فنيا، في ميناء مفتوح على العالم، إسمه لندن على نهر التايمز، المحمي من مجهول المحيط الأطلنتي؟. ألم يولد فولتير عند ضفاف ميناء نهري آخر هو ميناء باريس على نهر السين، بعيدا عن بحر الشمال؟. أليس على ضفاف ميناء القاهرة النائم على النيل، ولد سيد درويش؟. فحيث يكون التعدد، والإنفتاح الإقتصادي يولد السؤال. بالتالي، فحين صعد الفتى الطيب الصديقي، من الصويرة، ثم مراكش، ثم الرباط، كي يسطع نجمه العالي ب «المسرح العمالي» ثم بالمسرح البلدي بالدارالبيضاء، مدينة العمال والصناعات بالمغرب، إنما كان متصالحا مع «مغربيته»، في معناها الثقافي والحضاري والإنساني العميق. وظل، متمايزا، بلوثته الخاصة معرفيا ووجوديا، التي هي لوثة القلق. وما سؤال الإبداع غير القلق أمام الوجود. ما جعله على امتداد حياته، أشبه بمن تكون الريح تحته، دائم السفر في المعاني وفي البحث عن الأجوبة الممكنة عن الحال والمآل.
ليس اعتباطا، أن الرجل، اختار بوعي أن يوقض من سباته أبى حيان التوحيدي، وأن يسائل مقامات بديع الزمان الهمداني، وأن يصادق بعشق لزوميات المعري، في العديد من مسرحياته. فالسبب كامن في النزوع الإنسانية، بمعناها الحضاري، التي هي كامنة في كتابات هؤلاء الكبار. بل إنه حتى حين عاد إلى الموروث الشعبي المغربي (قصة الحراز كمثال، وقصة سيدي عبدالرحمان المجدوب.. والحراز بالنسبة لإخوتنا في المشرق هو الرجل الذي يحرز على الشئ، أي يضع دونه الحدود والموانع)، فإنه كان يهدف إلى إنارة الحاضر عبر تأمل تجربة الماضي، وأن المنع مهما تجبر وعلا، فإن الشمس لا تحجبها أسوار، وأن الحبيب يتحايل على كل حصار ليحقق وصال الحبيب. وأن ذلك كله، يتم بتقنية الحكواتي الشعبي، ذاك الذي ينجح في ابتداع شكل تواصلي كل يوم، في حلقات الحكواتيين، بساحة جامع الفنا بمراكش أو بساحات المدن القديمة كفاس وتطوان والصويرة وطنجة وتارودانت.
من هنا، ظل الطيب الصديقي، رجل مسرح نعم، لكنه ظل مغربيا في الأول والأخير. وهذا ما منحه العبور إلى الأثر المختلف ضمن ريبرتوار المسرح العربي والمتوسطي والإفريقي والعالمي. على القدر نفسه، الذي ظل مزاجا مختلفا، سليط اللسان، كما قد يتوهم البعض، لكنه في الواقع، كان مجرد رجل موقف، وطفلا يخاتل الموت بالحياة، متى استطاع إلى ذلك سبيلا. وظل وفيا لأن يكون إبن الصويرة، ليس المدينة فقط، بل المعنى. ويحق لنا السؤال هنا: هل ستنجب البلاد ذات النموذج من المغاربة ذات يوم؟. جازما: مستحيل. فالطيب الصديقي نموذج لوحده، نسخة وحيدة، لن تتكرر أبدا. لأن الذي تغير للأسف ليس الفضاءات، بل الذي تغير هو الناس والمعاني. وما قيمة المسرح، يا ترى، حين لا ينضج المعاني في أعين الناس؟.