لم يعد انتظار جمهور المتلقين والقراء طويلا، وشوقهم عارما، وفضولهم جارفا، لتعرف مواقف المثقفين، والإنصات لصوتهم، وآرائهم، وجس نبضهم صوب ما يعتري مجتمعاتنا من هموم كالجبال أو أشد،
مع الثورة التي يشهدها العالم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وما أتت به من وسائط متطورة، ووسائل باهرة؛ في تيسير التواصل بين الشعوب والجماعات والأفراد، والتي أعادت رسم الحدود بين بني البشر؛ سواء عبر القارات الخمس؛ أو الكيانات؛ أو على مستوى القطر الواحد؛ ولعل خير دليل على ما نقول؛ شدة التفاعل الذي رصدناه بين المثقفين المغاربة وواقعة الخميس القاتم؛ في السابع من يناير 2016، حين تعرض الأساتذة المتدربون، والأستاذات المتدربات، للاستعمال المفرط للقوة؛ لاسيما في مدينة أكادير.
لقد أبان المثقفون المغاربة عن تجاوب سريع مع الصور التي تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة الفايس بوك، بل وجعلوها خلفية لنصوصهم التي بادروا بكتابتها بتلقائية نادرة وعفوية جميلة؛ تختزلان قوة الاندغام؛ والالتحام؛ والتضامن، والتآزر، مع معاناة الأساتذة المتدربين، والأستاذات والمتدربات وآهاتهم.
نستهل تشخيصنا لردات فعل المثقفين المغاربة، بما وُثِّق بواسطة الشعر، ويأتي هنا نص الشاعر المغربي محمد علي الرباوي؛ الذي أبى أن تفوته هذه الفاجعة المؤلمة التي نزفت فيها دماء الذين كادوا أن يكونوا أنبياء…
للتذكير، فالشاعر محمد علي الرباوي، حاضر بقوة على ضفاف البحر الأزرق، باسط ذراعية باستمرار، آناء الليل وأطراف النهار، للإصغاء لنبض المجتمع، وفئاته التي أنهكها جور الزمان وغلبة الرجال!!
نص “المغرب القاسي”، هو عنوان القصيدة التي أطلقها الشاعر مدوية على يوميات حائطه في فايس بوك، في اليوم الموالي لحادثة الخميس القاتم، بالضبط يوم الجمعة ثامن يناير2016 على الساعة الواحدة وثمانية وثلاثين مساء.
وقد وصلت بسرعة البرق إلى العدد الكبير من أصدقائه من الجنسين، اثنين وتسعين وتسع مائة وأربعة آلاف (4992) صديق.
الشاعر انتقل من تسمية المغرب “الأقصى”، المنتمية لحقل الجغرافيا، إلى الحقل الإنساني” الأقسى”، حيث مجال العواطف والمشاعر والأحاسيس…
لقد كسر الشاعر أفق انتظار القارئ، وخيب توقعاته، لقد قام عن سبق إصرار بخلط مجال الجغرافيا؛ ذي المعالم الواضحة؛ في عالم الحس والعلم، بعالم الوجدان؛ حيث تتشابك الآلام والآهات لترسم معاناة الموصوف…
الشاعر محمد علي الرباوي يسافر بقارئه بين مغربين، المغرب الأقصى؛ كما تدل عليه الخرائط، وكما سماه العلماء في الماضي، والمغرب الأقسى، الذي انبثقت خريطته الجديدة من رحم التعنيف، واستعمالا الهراوات ضد أطر المستقبل التي ينتظر أن تطرد ظلام الجهل من العقول… الشاعر لم يشأ الزج بقارئه في أتون التأويل ودروبه الملتوية، حيث أعاننا بإدراج صورة أستاذة متدربة، وهي مدرجة في دمائها بعدما نالت نصيبها من هراوات التعنيف في الخميس القاتم…
لقد أراد الشاعر أن يعبر عن شجبه وإدانته لما حدث ضد الأساتذة المتدربين المحتجين، فما اختار جهازا محددا، ولا اتهم آلة بعينها، بل صب جام استنكاره على الجغرافية كلها؛ ووصفها بالقسوة؛ وهي أشد الأوصاف تعبيرا عن انعدام الإنسانية، والرحمة من القلوب!!!
لماذا وصف الشاعر المغرب بالأقسى؟
لأنه كما يقول الشاعر في نص على حائط يومياته:
أَدْمَى أَمانِينَا
نَدْنُو هَوىً مِنْهُ
وهْوَ يُجَافِينَا
اَلْمَغْرِبُ الأَقْصَى
أقْصَى أَهَالِينَا
لِأنَّنَا عِشْنَا
فيهِ مَسَاكِينَا
الشاعر لا يتورط في لغة التقرير المباشرة، يكتفي بالإيحاء مستعملا خطابا رمزيا لمهن يهمه الأمر، فلولا صورة الأستاذة المتدربة التي تناقلتها المواقع والمنتديات، للأستاذة المتدربة والدماء تسيل من أنفه الذي هشمته الهراوات، والتي وضعها
الشاعر مرافقة لنصه، لما أقمنا جسورا بين واقعة السابع القاتم وفحوى النص…
الشاعر يدين العنف الممارس ضد الأساتذة المتدربين؛ الذين أقصاهم كما يقول: الوطن القاسي!
هذا أنموذج لشجب الردة الحقوقية، والجميل المعبر عنه في شعر الرباوي، كونه لم يفصح عن الجلادين، ومن يتقاسمون معهم وزر المسؤولية، بل جعلها واقعة على الجميع!!! لقد أتت الإدانة شعرا، فكيف عبر عنها المثقفون الآخرون؟
سنقف عند موقف شاعر آخر، لكن هذه المرة ليس من خلال نص شعري، بل من خلال تصريح مباشر، أبان فيه الشاعر ياسين عدنان، عن موقفه عبر صفحته على فايس بوك، كالآتي:
“أن تنتقل الحكومة من التبرير إلى التنكيل بأساتذة الغد وسحلهم وإراقة دمائهم في الشوارع فهذا أمر مُخْزٍ. والمخزي أكثر أن الحكومة، من خلال قوات الأمن التي أطلقتها على أساتذة الغد، بدت كمن يستأسد على ضعيف. والحقيقة أننا كمواطنين صرنا نشعر أن قوات الأمن بدأت تستأسد فقط على الفئات المثقفة المتعلمة، فيما تتحوّل مع الأسف الشديد إلى نعامة في الملاعب أمام ميليشيات التشرميل الكروي العنيفة”. يوميات الشاعر على الفايس.
الشاعر ياسين عدنان لم يخف في تدوينته على حائط يومياته في فايس بوك، أنه كان منذ البدء متعاطفا مع الطلبة الأساتذة ضد المرسومين، وقد بين عدم تفهمه لتخفيض منحتهم، لكنه عبر عن احتجاجه الكبير فصل التوظيف عن التكوين، وقد اعتبر الشاعر أن هذا القرار أتى مستفزا، وغير مفهوم في ظل المعطيات المتوفرة التي تؤكد وجود خصاص كبير في عدد أساتذة المستقبل…
الشاعر غير ولاشك موقفه، أو لنقل درجة نقده وعتابه للحكومة بعد حادثة يوم الخميس الأسود، حيث اعتبر أن سلوك التعنيف؛ يعتبر موقفا مخزيا بعدما وصف الأفعال المصاحبة للهجوم على الطلبة من قبل قوات الأمن؛ بأشنع الأوصاف بعدما استدعى لذلك معجما قدحيا يتمثل في أفعال:
التنكيل/ السحل/ إراقة الدماء في الشارع/…
الشاعر اعتبر ما أقدمت عليه الحكومة يوم الخميس، بمثابة استئساد على الضعفاء من الأساتذة المتدربين، وهذا التوصيف بمثابة انتقاد وإدانة قويين للردة الحقوقية التي دشنتها هذه الحكومة التي أتت بعد دستور 2011 بعد الحراك الشعبي الذي تزامن مع موجات الربيع العربي…
وقد استغرب الشاعر تقاعس الحكومة في التصدي لما أسماه ميليشيات التشرميل الكروي العنيفة في الملاعب في مقابل استعمال القوة ضد المسالمين..!!
وذكر بأن حالة الحكومة المغربية – ووزارة دخليتها- اليوم يَصْدُقُ عليها بالبيت الشهير الذي قيل عن الحجّاج مرّةً:
أسدٌ عليّ وفي الحروبِ نعامةٌ/ ربداءُ تُجفِلُ من صفيرِ الصّافرِ
وفي الأخير “أعرب عن خجله مما حصل باعتباره مواطنا مغربيا، وأعتذر باسمه الشخصي لكلّ الأساتذة المتدرّبين الذين أُريقَتْ دماؤهم…”
الموقع الثالث الذي نورده في هذا السياق، للناقد حسن لمودن، الذي لم يتوان مثل باقي المثقفين المغاربة، في إدانة ما حصل يوم السابع يناير، حيث صدح على جدار يومياته بالتصريح الآتي:
“لا للقوة والعنف… نعم للغة الحوار وتبادل الرأي والبحث المشترك عن الحلول… كيف نعنِّف مَن نُريد منه أن يُربي أبناءَ الوطن على لغة التواصل والحوار والإقناع؟ كيف نُعنِّف مَن نُريد منه غدًا أن لا يُعنِّف تلامذته، وأن يَتواصل معهم ويُحاورهم بالتي هي أحسن؟ كيف نُعنِّف المعلِّمَ الذي نُريد منه أن يُعلِّمَ المجتمعَ كيف يحلُّ مشاكله وقضاياه، التي قد تكون معقدة، لا بالعنف والتعصب والقوة، بل بالنزوع إلى الوسائل السلمية، من تواصل وتحاور وتفاهم على الحلول المعقولة والعادلة؟ ” يوميات الناقد على الفايس.
الناقد حسن لمدن لم يغادر مرجعياته التي اشتغل في ضوئها، ويؤمن بها كما تتجسد في آخر كتاب نشره، “في بلاغة الخطاب الإقناعي”؛ والذي أكد فيه راهنية موضوع الإقناع؛ باعتبارة آلية فعالة خلال الحوار بين البشر؛ من أجل حل النزاعات… وتدبير الاختلاف…
الناقد يشجب العنف ويدين استعمال القوة؛ واعتبارهما بديلين عن لغة الحوار والتخاطب، إنه يقولها بوضوح تام “لا” للحكومة… ولكل من له صلة باستعمال القوة ضد الأساتذة المتدربين…
استنكار الناقد حسن لمودن بلغ مداه، حين تساءل بأسلوب الاستفهام الاستنكاري:
“كيف نعنِّف مَن نُريد منه أن يُربي أبناءَ الوطن على لغة التواصل والحوار والإقناع؟ “
الناقد حسن لمودن، جعل كلمة “لا” بهذا الاستفهام الاستنكاري، مضاعفة، قوية، لأن الذين عنفوا ليسوا مواطنين عاديين، إنهم من سيحمل مشعل تربية ابنائنا وحفدتنا!!
هذه ثلاثة نماذج سقناها هنا على سبيل التمثيل، والمتابع لما يكتبه المبدعون والمثقفون المغاربة عبر أمواج المحيط الأزرق، كل يوم، وساعة، سيلحظ كيف أن هؤلاء لا ينزوون في أبراجهم العاجية، ينغلقون على آهات المجتمع ونبضه، بل هم أحياء لكونهم يعيشون سط الناس وبالإحساس بهم… صحيح أن المبدعين يكتبون عن ذواتهم كثيرا، لكن متى كانت تلك الذوات معزولة عن الآخرين؟
الخميس 4فبراير 2016