يشهد الحقل الحزبي في أغلب بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ظهور أحزاب سياسية جديدة بشكل مستمر، دون أن يعني ذلك وجود تعدُّدية سياسية فعلية، لأنّ هناك جهات في السلطة لا تقبل بوجود أية قوة تنافسها، وهناك أخرى ترفض التعدٌّدية بذريعة “حفظ الوحدة الوطنية من التشتت”، فيما تطالب نخب قليلة بالإسراع بتوفير شروط حقيقية لبناء تعدُّدية سياسية قائمة على مبدأ التداول على السلطة وعدم السماح بتوظيف عناصر الهوية الوطنية لأغراض سياسية…
توجد أيضا في هذه المنطقة أحزاب خرجت من رحم المجتمع لأنها كانت تستجيب لمتطلبات مرحلة من مراحل تطوره. لكنها لم تستطع الحفاظ على مكانتها ووزنها، لأنه تم اختراقها من خارجها، ما تسبب في شلَلِها، فلم تستطع أن تُطوِّرَ وتجدِّد خطابها وممارساتها وهياكلها بما ينسجم مع روح العصر وما يحدث من ثورات علمية وتحولات محلِّية وإقليمية ودولية. وهذا ما جعلها تتخلف عن العصر وتفقد قدرتها على التأثير، فبدأت تختفي تدريجيا، وقد تندثر في المستقبل إذا لم تبزغ من داخلها قوة قادرة على ممارسة قطيعة مع عقليتها وأوضاعها الحالية… كما أن هناك أحزابا أخرى صنعتها جهات في السلطة واتخذت منها قناعا تشتغل من خلفه لتمنح شرعية شكلية لسياساتها وتعطي الانطباع بوجود تعدٌّدية، مع أن هذه الأخيرة مجرّد صورية…
هكذا أصبحت الأحزاب تتشابه فكرا وممارسة، مما ينزع عنها أية تعددية، حيث لا تقوم بأي مبادرة فعلية، ولا تختلف بنيتها العميقة عن بعضها البعض. ويؤكد هذا عدمُ امتلاكها لأي مشروع مجتمعي ولا برنامج، لأنها عاجزة عن التفكير والتأطير…
لذلك، ليست هناك اليوم أحزاب متجذِّرة في تربة المجتمع، لأن ما يجمع بين أعضائها ليس هو خدمة المجتمع والوطن، وإنما قضاء المصالح الشخصية لا غير. ويشكِّل استمرار مقاطعة الانتخابات من قِبَلِ أغلبية الناخبين دليلا على وجود قطيعة بين العملية السياسية ومُدبِّريها والأحزاب من جهة، والمجتمع من جهة أخرى. وهذا ما جعل مجتمعات هذه المنطقة تعاني من فراغ مؤسسي خطير. وعندما تغيب التعددية، فإنه يصعب الحديث عن وحدة وطنية متينة، لأن الفراغ المؤسسي يحول دونها، ويتعارض مع الديمقراطية، ويعوق التنمية… أضف إلى ذلك أن هذه المنطقة تعرف تشجيعا للطائفية والقَبَلِية من قِبَل قوى داخلية وأجنبية، ما ينم عن رغبة في عرقلة تحديث مجتمعات هذه البلدان وبنائها ديمقراطيا…
يلاحظ متتبعو “الإصلاحات” المؤسسية والسياسية في هذه المنطقة أنّ هذا النوع من المبادرات يصدر دوما عن السلطة المركزية التي تحظى بمكانة خاصة فيها، ما جعل العديد من المختصين يصنفون أنظمتها السياسية ضمن الأنظمة المركزية المغلقة، لأن تركيز كل شيء في يد هذه السلطة يتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة، إذ لا يسمح للمؤسسات الأخرى بالمشاركة في اتخاذ مبادرات الإصلاح وترجمتها على أرض الواقع…
نتيجة لذلك، لم يحدث الاندماج السياسي الذي يدخل ضمن عوامل عديدة تساعد على الاستقرار السياسي ونجاح الإصلاحات. وعوض ذلك، نلاحظ أنه في الوقت الذي عرفت فيه التشكيلة الاجتماعية لمجتمعات هذه المنطقة تحوّلات كبيرة، وحدث وعي سياسي وثقافي نسبي، فإن أي تجديد في النخب الحاكمة لم يحصل، بل جرت قطيعة بين هذه النخب والمجتمع الذي تتشكل أغلبيته من الشباب، كما جرى تهميش المثقفين من قِبَلِ الحاكمين، مما تسبب في غياب الثقة بين السلطة والأحزاب من جهة، والمثقفين وغالبية أعضاء المجتمع من جهة أخرى، حيث يسود الإحباط والملل، ما يعوق الإصلاح…
هكذا، غاب العقل، وانعدمت المقاييس، وتم تجهيل أغلب “النخب” السياسية، فأصبح الجهل قيمة، وانعدم الإنتاج والإبداع من قِبَلِ المؤسسات السياسية، حيث صارت عاجزة عن التأطير والتحديث والبناء… وهذا ما يفسر غياب أي حديث عن المبادئ والقيم والأفكار والاختيارات والمشاريع، وساد خطاب شعبوي هدفه الإثارة والتضليل وتمييع المسؤوليات… فخاب الأمل، وفقد العمل السياسي ومؤسساته أية مصداقية، فأصبح المستقبل غامضا، ما قد تكون له عواقب سياسية واجتماعية تنذر بالمخاطر…
لذلك، فغياب إرادة إعادة بناء مؤسسات الدولة وإصلاح الأحزاب وتحديثها ودمقرطتها، لم يسمح لهذه التنظيمات ولا للانتخابات، بإفراز نخب سياسية جديدة، إذ ظلت الأغلبية الساحقة لهذه الأحزاب تدور في فلك السلطة وبعض القوى الأجنبية، ولم تنجح في ممارسة السياسة باستقلال عنها من أجل إحداث تغيير ديمقراطي فعلي، بل تحوَّلت مع مرور الزمن إلى مجرد أداة توظفها السلطة في مختلف المناسبات الانتخابية والسياسية خدمة لمصالحها، كما أصبحت مرتعا لأصحاب المصالح الشخصية، لدرجة “أن زعامات بعضها صارت تبيع رؤوس قوائم المرشحين للانتخابات إلى أناس لا علاقة لهم بأحزابها…
وهذا ما جعل أغلب المتتبعين يقتنعون بعدم وجود ديمقراطية فعلية بهذه المنطقة، لأن الديمقراطية هي تعدُّدية سياسية فعلية، ومجموعة من المبادئ والقِيَّم والقواعد والمؤسسات والإجراءات التي تُمَكِّن المواطنين من التفكير والتعبير والمشاركة بكل حرية. كما تعني القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية تكمِّل الإصلاحات المؤسسية والسياسية، لأنَّ الديمقراطية مشروع مجتمعي متكامل…
فضلا عن ذلك، يطغى على هذه المنطقة، أفرادا وجماعات، هاجس التفرُّد بالسلطة. ومعنى ذلك أن الحريات والحقوق الفردية والجماعية لا تزال محط خلافات ثقافية وطائفية وقَبَلِية واجتماعية… وهذا ما يشكل سببا في عدم تمحور الصراع حول بناء مؤسسات ديمقراطية تُمكِّن مجتمعات هذه المنطقة من الانخراط في بناء الحضارة العالمية الحديثة…
نتيجة ذلك، افتقرت هذه المنطقة لثقافة التساؤل والبحث والتطور، فسادت عوضها ثقافة المحافظة، والاستئثار بالسلطة رغبة في إخضاع الآخرين واستتباعهم… وطغى التخلف في مختلف مجالات المعرفة وحقوق الإنسان وحرّيّاته، ما أدى إلى عدم امتلاك أسباب بناء ثقافة جديدة، ومجتمع جديد، وإنسانٍ جديد. وقد استفحلت هذه الثقافة في مختلف المجالات، فتمحورت غالبية الأحزاب والتنظيمات حول السلطة فكرا وعملا، وغابت المواطَنَة والحريّة، فتم إلغاء الإنسان الفرد.
تبعا لذلك، تفتقر معظم الأحزاب السياسية إلى أفكار وبرامج وبرامج تستجيب لمختلف القضايا الوطنية، مثل السياسة الأمنية، والاستثمارات الأجنبية، والمنظومة التربوية، والبطالة ومختلف القضايا الاجتماعية الأخرى، وأولويات التنمية وأساليب ووسائل تنفيذها، كما أن خطاباتها تتسم بالغموض وتتشابه في المضمون…
إضافة إلى ذلك، يوجد تضخم كبير في عدد الأحزاب السياسية، ما يحول دون تبلور أغلبية أو معارضة فعليتين. وعندما يكون الحقل الحزبي مجرد فسيفساء غير واضحة المعالم، فهو ينعكس سلبا على حظوظ أي حزب أو تكتل حزبي منسجم بالفوز في الانتخابات، وعلى تمثيليته في “المؤسسات المنتخبة”وتصويته فيها…
فوق ذلك، يسود غياب الممارسة الديمقراطية داخل معظم الأحزاب، بحكم سيطرة عقلية “الزعامة” والروابط الطائفية والقَبَلِية… وهذا ما أسهم في خلق “أزمات داخلية” في العديد منها أدّت في النهاية إلى حدوث انشقاقات في صفوفها وظهور صراعات بين زعاماتها. ونتيجة لغياب الديمقراطية الداخلية فيها وقيامها على “الشخصنة”، وظهور مختلف أنواع ”التعصّب” بداخلها، وحدوث تصدعات بداخلها، فقد انتهى الأمر بمعظم أعضائها إلى تجميد نشاطهم فيها أو مغادرتها. كما صار المواطنون ينفرون منها، وخصوصا الشباب، لأنهم أصيبوا بالإحباط وخيبة الأمل…
فضلا عن ذلك، لقد تسبٌّبٌ المال الفاسد في ظهور ممارسات وسلوكات غير ديمقراطية داخل الأحزاب السياسية، حيث صار من الوسائل الأساسية لاحتلال صدارة قوائم المرشحين للانتخابات، وذلك على حساب الاعتبارات الفكرية والقيمية والكفاءة… ويجد هذا مرتعا له في ظل عدم احترام أغلب زعامات الأحزاب للضوابط التنظيمية والأخلاقية، لاسيما خلال عقد مؤتمراتها وانتخاب هياكلها… مما جعلها تفتقر إلى القدرة على التنظيم والتأطير والتواصل السياسي الناجح، ولا تمتلك الجرأة على المطالبة بالديمقراطية على مستوى السلطة السياسية…
تفسر كل هذه العوامل وغيرها مراوحة هذه البلدان في مكانها وعدم قدرتها على الانخراط في التحديث والبناء الديمقراطي، حيث تذهب أقلية إلى صناديق الاقتراع للتصويت، لكن الأمور تبقى على أحوالها…

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…