ما القص، إن لم يكن بحثاً دائباً عن المعنى وإبحاراً في عوالم الكلمات والبشر؟ وما القصة إن لم تكن حضوراً متفرداً وبناءً متجدداً للعمارة الشعرية؟
وكيف تتمثل المشاهد العادية ومفردات الطبيعة والإيماءات والاستجابات الإنسانية، تجربة القاص – القاصة، وتفسح المجال لتجاوز الآخر والخروج من عباءته؟
هذه مقاربة، لتجربة القاصة العراقية بثينة الناصري، التي رأت القصة القصيرة، رحلة بحث دائم عن المعنى، واكتشافاً للحظات الجمال الخفية، وبناء جمالياً للنص.
واجهت الحصار الظالم الذي فرض على شعبها ووقفت إلى جانب فقراء بلادها، ووجدت في هذا الموقف خيارها الإنساني، وإذ عانت مثل كثيرين من مبدعي بلادها وطأة الحصار، لكنها لم تهن ولم تفقد الأمل بقدرة الكلمة المبدعة على إزاحة العتمة واستعادة اللحظات الحميمة.
إن مجموعتها القصصية «الطريق إلى بغداد» شكلت حالة فارقة في القصة العربية القصيرة، وكاتبة القصة القصيرة الناجحة هي التي تستطيع الاقتراب من تحولات الواقع، ولعل هذا أحد أسباب نجاح القاصة واستمرار حضورها الإبداعي، في هذه المجموعة القصصية.
ضمت المجموعة تسع عشرة قصة قصيرة، يمكن أن نشير فيها إلى ما يمكن أن نطلق عليه، سحرية المكان والزمان في الخطاب السردي للقاصة بثينة الناصري، فالزمان في قصصها دولاب متحرك يتأرجح في فضائه الكائن الإنساني بين ماض وحاضر، ففي قصتها «واقعة الحاجة سميحة» تقول: «لا يدري أحد كيف تتدحرج الحكايات إلى حجر الحاجة، بالرغم من انها لا تكاد تغادر المنزل بسبب الروماتيزم الذي ينخر ساقيها، وضعف البصر الذي يغشى عينيها، كل ما تفعله هو أن تتربع على الأريكة، تشرب الشاي وتستمتع بشغف لمن يروي لها وقائع الجيران والأقارب، فتلقى آهة تأسٍ مرةً، وصيحة فرح مرة أخرى، حسب الحالة» ص47
ويبدو الوقت في سرد الناصري مثل كائن خرافي يحاصر عمر الإنسان وقدره، كما يتدفق الزمان في حكايات الحاجة سميحة إلى الوراء، سنوات الشباب إلى الأمام، وبين الزمنين يكون رنين الحكايات وتختلط المواعيد.
في خطاب بثينة الناصري السردي، يتمحور قدر الإنسان في حالة من الدوران المعاكس للزمن، لا يملك الإنسان الإفلات منها، حيث يتكرر هاجس الزمن الوجودي كثيرا في قصصها، حتى يكون في بعض الحالات حواراً غامضاً بين الوجود والعدم.
في قصتها « الليلة الأخيرة « يكون الحوار كصمت يوحي بالتوقع، فهو مثل لحظات الانتقال من زمن إلى زمن آخر، هذا الغموض في استخدام عنصر الزمن، يتطلب مقدرة في ربط أجزاء السرد، وبخاصة في الحيز المحدود للقصة القصيرة، وإلا صار فعلا معاكساً لترابط النسق السردي للنص.
يظهر ذلك جلياً في بعض النصوص، التي رغم تماسك نسيجها السردي، فإن التعتيم على حركة الزمن، يجعل الغموض من مكونات النص.
نقرأ في قصة «سفر»: «كان الوقت ضحىً حين وقفت سيارة السجن أمام باب القنصلية، عبث الحارس بقفل الباب الخلفي فأزاحه وزعق في الداخل.. تدلت ساقان متسربلتان بسروال كالح، تنتهيان بقدمين مسودتين، تلوح أظفارهما الطويلة المشوهة، من نعلين تبدو عليهما الجدة» ص119
هذا التلاعب بالذاكرة يجعل شخصيات القصة في مخيلة القارئ، مرضى نفسيين، بينما يقول النص غير ذلك، لكن يظل عنصر الزمان في نصوص بثينة الناصري، ركيزة مهمة في حيوية السرد وجماله.
خاصية أخرى، تبدو جلية في معظم نصوص هذه المجموعة، هي سحرية المكان، بل غموضه في بعض الأحيان، فالبيوت تقوم في مكان غير قريب من الناس والعمران، ما يضفي على القصة والشخصيات مناخاً أسطورياً غامضاً، ففي عنوان المجموعة القصصية « الطريق إلى بغداد «غير دليل على هذا الغموض الذي يدفع القارئ لتخيل ما بعد الطريق، ومثل هذه الصورة تتكرر في نصوص المجموعة، ربما لأنه إلى جانب سحرية الزمان وسطوته، يعطي المكان مهابة تخلع عليه شيئاً من الفانتازيا.
في نص بعنوان «سبق صحفي»: «هل تعتقد إن للمنازل الحق في اختيار ساكنيها؟
كان محدثي في العقد الثالث من عمره، نحيفاً، ربع القامة، على شيء من الوسامة، تلوح في فوديه شعرات بيض قبل الأوان،.. كانت تتربع في عينيه حكمة من غير طيش الشباب بسلام، ينفضه قلق، تفضحه رعشة خفيفة في اليدين» ص 99
هذا الغموض في المكان يكون إضافة للنص عندما تلبسه القاصة لغتها الثرية وعباراتها المختزلة المترعة بعمق فكري، هكذا نتبين أيضا أن الغموض في نصوص «الطريق إلى بغداد» يتأتى من طرافة الاستعارة وتشعب العلاقات فيها، ومن كثافة الرمز وتعدد طبقاته، كما يظهر من خلال المراوحة في تشكيل الصورة القصصية بين الإيقاع الاجتماعي والمكون النصي.
وما يلفت الانتباه في المجموعة، إن الإشارات الزمانية المتواترة تتعلق بالفجر والمساء، وهما من وجهة نظر علمية فترتان انتقاليتان مهمتان تؤثران على الإنسان فسيولوجيا وسايكولوجياً، إنهما زمنا موت وحياة، ليل يموت وصبح يولد أو نهار يموت وليل يولد، إنهما مرحلتا التقاط ورصد وتأمل لا تفقه كنههما إلا قاصة ثاقبة البصر والبصيرة، مأخوذة بالطبيعة وتحولاتها، ولعل ذلك يبرر التوتر الذي يطغى على الكثير من النصوص في المجموعة، وقد يفهم هذا التوتر على أنه صدى لما يعتمل من أحاسيس في نفس القاصة.
إلا أن ما يميز الزمن في السيرة القصصية، التداخل غير المنطقي، إن جاز هذا التعبير، ذلك ان هدف القاصة يتجاوز تقديم شهادة إلى التأويل القصصي، فالسيرة هنا ليست حكاية تقوم على علاقات سببية للحدث وإنما هي تسليط الضوء على المستفز والمؤثر من وجهة نظر القاصة، لذا نجد تنوع الشخصيات في «الطريق إلى بغداد» في العتبات النصية وفي المتن، وهي قادرة على القول أو حاضرة بأقوالها وأفعالها.
لقد وردت أغلب النصوص مصدرة بذكر شخصيات هي على الأرجح معنية بالقول القصصي، ولعل نص «سفر» بإهدائه إلى روح صبحي العراقي الذي ظل ضيفا على مصر، الدليل على ذلك، فهي تتناول موضوعاً عن هموم الشخصية، الموجودة في عتبة النص وفي السياق، حيث نقرأ في القصة:
«ولكننا لا نستطيع إصدار جواز مرور له دون أن نتأكد أولاً، من أنه فعلاً عراقي، من يقول ذلك؟
– هو يقول ذلك.
رد القنصل بسرعة:
– رجلٌ فقد الذاكرة.
اعتدل القنصل وهو يقول:
– كل ذلك لا يكفي، لا بد أن يكون في أيدينا أوراق تثبت عراقيته» ص111-112
وإذ أدخلت هذه الشخصية في قصتها « سفر» لرصد ما يعاني الإنسان في الغربة، حتى بعد الموت، فهو يعاني من إثبات هويته، غير أن هذه الشخصيات الحاضرة من خلال أفعالها أو أقوالها تفتح في النص فضاء كاشفاً، يستوعب أصواتاً عديدة، يجمعها صوت الساردة في بؤرة دلالية تتشظى في أصوات في أصوات من أزمنة وثقافات مختلفة ولكنها موسومة بنار واحدة، نار النفاذ إلى عمق الوجود والتمرد على السائد والمألوف، أصوات متنوعة تؤكد إن بثينة الناصري ابتعدت عن تقليد ساد في القصة القصيرة، وهو تناول القاص – القاصة، الذات والآخر والمحيط بصوت واحد، لتنجز ذلك بأصوات مختلفة، حاضرة بأسمائها ودلالاتها، ولعل ذلك ما يحقق مفهوم الإقامة القصصية على الأرض، وتمثل مجموعة « الطريق إلى بغداد « التي تعددت فيها التفاصيل، نشيداً للحياة بألوانها وأشجارها وأزهارها وأشخاصها وأماكنها ومعارفها، واتسعت فيها بؤر المجاز والرمز، بحيث لا يمكن أن نراها كما ينبغي أن ترى، إلا بالوقوف عند الإهداء الذي اختارته الناصري لمجموعتها: إلى المدينة التي تنتهي عندها كل طرقي.. بغداد.. العشق الأول والأخير.
*عن صحيفة الدستور الاردنية