يرى دارسو تاريخ فكر ومجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن ظاهرة التطرُّف ضاربة بجذورها العميقة في فكر هذه المجتمعات وتاريخها، وأن انفجارها من حين لآخر هو مجرد تنويع على ما استمر حدوثه في الماضي. ويعود ذلك إلى أن المنطقة لم تعرف إلى الآن ثورة معرفية وسياسية تُمَكِّنها من ممارسة قطيعة مع هذه الظاهرة…
من الأكيد أن لهذه الظاهرة عوامل داخلية وخارجية تتجسد في الاحتلالات العسكرية الأجنبية والاستعمار وغيرهما من أشكال التدخل، كما أنها تعود إلى فشل السياسات الحكومية، وغياب الحريات، والأزمات المالية والاقتصادية، وشعور الناس بالإقصاء، ما أدى إلى سيادة الفكر الخلاصي القائم على مانوية الأسود والأبيض، وطغيان التفسيرات الدينية الطائفية الأكثر تشدٌّدا وعنفا…
وإذا كانت هناك عوامل عديدة تساهم في نشوء ظاهرة الإرهاب وتطورها، فإن نظام التعليم، وخصوصا التعليم الديني، يلعب دورا كبيرا في توفير المناخات التي تفرِّخٌ التطرُّف وتحتضنه. وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى استنتاج أن ثقافة التعصب والعنف التي تتبناها تنظيمات الإرهاب التكفيري يتم تدريسها نظريا، بشكل أو بآخر، لتلاميذ مدارس هذه المنطقة، وإن بأساليب خجولة أحيانا وصريحة أحيانا أخرى…
ويتجلى ذلك في كون أنظمة التعليم في هذه البلدان تٌولِّد شعورا لدى التلاميذ بأنهم أفضل من غيرهم من أبناء الطوائف والديانات الأخرى، ما ينجم عنه إحساسهم بتعاليهم عليهم واحتقارهم لهم… وبذلك تٌرَسِّخ هذه النظم نوعا من ثقافة استعلاء الذات والاعتقاد بأنها أفضل من غيرها.
ويتضح ذلك في عدم تضمٌّن المنهاج الدراسي الديني مبدأ ضرورة تقبُّل اختلاف سائر المعتقدات الدينية وغيرها، والتعايش مع أصحابها. في المقابل، نجد أن الخطاب المدرسي يُرسِّخُ في أذهان التلاميذ أنّه، من بين الكتب السماوية الثلاثة، وهي القرآن والإنجيل والتوراة، فالنص الإسلامي هو الكتاب السماوي الوحيد “الذي حفظه الله تعالى من التغيير والتحريف”، ما يرسِّخ في أذهان التلاميذ أن الأديان السماوية الأخرى هي أديان مُحرَّفة ومضلِّلَة، مع أنَّ من لا يعترف بديانات الآخرين وقناعاتهم لن يحترمه الآخرون، كما أن من لا يعرف ديانة غيره لن يعرف ديانته… وهذا يعكس ضيق أفق وظيفة المدرسة في هذه المنطقة، إذ ينبغي ألا تحصر نظرة التلاميذ وفكرهم في نطاق طائفتهم ومجتمعهم الصغير فقط. في المقابل، على المدرسة أن تفتح أعينهم على العالم، وهذا ما لا أثر له في الخطاب المدرسي، حيث يغيب العالم تقريبا.
وعندما يعتقد الإنسان بأنه أفضل الناس تَوَهُّما منه أنه يحتكر الحقيقة المطلقة، فإنه سينظر إلى الآخرين ممن يعتقدون أو يتبنَّون “حقائق” مغايرة، ليس بوصفهم مساوين له في الحق في الوجود والتفكير والتعبير، بل بكونهم كائنات منحرفة وضالة. ويرجع ذلك إلى أن طائفية المناهج الدراسية لا تتجاهل تنوٌّع الأديان والمذاهب والأفكار في هذه المنطقة فحسب، بل تتجاهل أيضا تنوُّعَها الإثني واللغوي والثقافي الداخلي، فضلا عن التعدٌّد المذهبي داخل الدين الإسلامي ذاته، عندما تفرض وجهات نظر بعينها في قضايا تعدَّدت فيها آراء المسلمين…
يقوم المنهاج الديني غالبا على التدريس بالأوامر والنواهي القاطعة، إذ يحول دون تساؤلات التلميذ، فيحرمه من التفكير والتعبير والتواصل، ما يعوق فهمه للدين… أضف إلى ذلك أن المدرسة لا تمتلك أية مقاربة تٌمَكِّن المتعلِّم من إدراك الجانب الروحي للدِّين الذي تتناوله الأغلبية الساحقة من آيات القرآن الكريم، حيث لا تهتم غالبا إلا بتحفيظ التلميذ بعض الأحكام المرتبطة بالعلاقات بين البشر التي هي قابلة للتغيير بتغير أحوال المسلمين وظروفهم. وما يزيد من خطورة الأمر هو أن هذا التعليم “بصيغة الأمر والنهي” يمتد غالبا إلى أغلب المواد الدراسية الأخرى…
كما تنهض معظم المناهج الدراسية في هذه المنطقة على الإلقاء والتلقين، واعتماد الثقافة والآراء الدينية والفتاوى الشرعية التي كانت سائدة في قرون ماضية، حيث يتم استحضار بعض التفسيرات الدينية التي أنتجها فقهاء طائفيون في تلك الأزمنة. لكن ما يتم نسيانه أو تناسيه هو أن تلك التفسيرات قد تكون مناسبة لعصرها دون أن تكون مُطلقة. إلا أنَّ هذه البديهية لم تجد بعدُ طريقها إلى العمل بها في التعليم الديني في هذه المنطقة.
لقد تغيرت مجموعة من الأحكام المتعلقة ببعض القضايا بتغير الظروف والأحوال في عهد الرسول (ص)، ما يشكل درسا للمؤمنين. فلو أراد الله حكما قاطعا واحدا بدون تبديل ولا تغيير لفعَلَ. ومعنى هذا أن الإسلام ليس جامدا ثابتا، وأن للمسلمين دورا فاعلا، ما يستوجب ضرورة تغيٌّرهم كلما ظهرت مستجدات وتغيرت ظروفهم وأحوالهم, ويقتضي ذلك تغيير الأحكام المتعلقة بحياتهم دون المساس بجوهر العقيدة.
لكن فقهاء الإرهاب التكفيري تنكروا لهذا الدرس، فأصبحوا لا يتردَّدون اليوم في اللجوء إلى ممارسات الرق وبيع وشراء النساء والأطفال باعتبارهم سبايا حرب… كما أننا صرنا نقرأ ونسمع بعض الشيوخ والفقهاء يتقدمون بفتاوى وجوب غزو المسلمين لبلاد غير المسلمين لحل مشكلات الاقتصاد والفقر في دار الإسلام… إن هذه “الأحكام” وغيرها تُلَقَّن في مدارس هذه المنطقة بشكل أو بآخر، ما يفسر التطرّف والتشدُّد الذي يطغى اليوم على مجتمعاتها ويدمِّرها…
لذلك، أصبح إصلاح التعليم الديني ضرورة مُلِحَّة تحتاج إليها مجتمعات هذه المنطقة. فقد تأخرت في ذلك كثيرا إلى أن تم الشروع في الفتك بها. والإصلاح التعليمي والديني المطلوب ليس مجرد معالجة سطحية، أو الاكتفاء بالتعبير عن قيَّمِ “التسامح والتعايش” لفظيا في الكتب المدرسية أو في بعض البرامج التلفزيونية أو المقالات الصحفية، لأنَّ الإصلاح الديني الفعّال يقتضي القيام بثورة حقيقية تهدف إلى إعادة بناء نظام التعليم على أساس المواطَنَة والمساواة والدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، بعيدا عن النزعات والشرعيات الطائفية والقَبَلِية التي ترسِّخ الاستبداد وأخواته.
وعندما يتم الإعلاء من شأن المواطَنَة والمساواة، والتخلي عن قيَّم الاستبداد والطائفية والقَبَلِية، آنذاك سوف يتم تكوين أجيال تنظر إلى أفراد المجتمع بأنهم كلهم مواطنون يتنافسون بينهم على أساس الكفاءة والإنتاجية وسائر ما ينظمه ويضمنه القانون. بدون ذلك، سيظل مجال التفسير الديني مفتوحا في وجه من هبَّ ودبَّ كي يُحدِّد معايير الولاء والانتماء، فيُدخل إلى دوائر ولائه من شَاء ويُخرج منها من شاء. وما ينبغي التشديد عليه هو أن هذه التفسيرات يتم التأسيس لها في مناهج التعليم التي تنظر إلى الناس وتصنِّفهم باعتماد معايير طائفية وقَبَلِية تتعارض جذريا مع مفهومي المواطَنَة والمساواة…
إضافة إلى ما سبق، يتعلم تلاميذ مدارس هذه المنطقة أن من أسباب تراجع الأمة تبَنِّي الكثير من أبنائها لمعارف وعادات وقِيَّم دخيلة على الأمة الإسلامية، ولا تتناسب و”قِيَّمِها وسلوكها”، لأنها تعود إلى أمم أخرى كافرة… وبذلك، فما تقوم به جماعات الإرهاب التكفيري هو تفعيل لبعض ما يتلقاه التلاميذ في المدرسة. فالمناهج الدراسية القائمة على ثقافة حرمان الإنسان من حقوقه ومواطَنَتِه… هي التي تهيئ الأفراد، إلى جانب عوامل أخرى، للانخراط بشكل تلقائي في مشروعات الإرهاب التكفيري مستقبلا. وإذا استمرت الأنظمة التعليمية على هذا النهج، ولم يتم إصلاحها، فإن هذا الإرهاب سيستمر، وسيظل جاهزا للاشتعال، ولن يحتاج سوى لمن يطلق شرارته الأولى لكي ينفجر، فيأتي على الأخضر واليابس ويحرق الحرث والنسل…
إن مناهج التعليم بهذه المنطقة تحتاج إلى ثورة حقيقية تُعلي من شأن العقل والنقد… وبدون الانخراط في إصلاح جدِّي وشامل لنظام التعليم، يروم تحريره من سيطرة الفكر الطائفي الجامد والمغلق، ستعجز كل جهود مكافحة التطرف في هذه المنطقة عن التخلص منه نهائيا، لأنه سيظل قابعا في بنيتها العميقة، وسينفجر من حين لآخر كلما توفرت له شروط ذلك..

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…