من يصدق أن الصراع بين السعودية وإيران هو وليد اليوم، من يصدق أن السلام المسلح الذي ساد بين رائدة السنة ورائدة الشيعة لا يعمر منذ 14 قرنا….
فنحن أيخها السادة لم نغادر بعد شعاب صفين..
نحن نعرف ، منذ بداية وعينا أن التراجيديا تعود مع عودة المكبوت الديني، في الصراع الدائر، سياسياً واستراتيجياً، بين السنّة والشيعة، حيث تقاطع الذاكرات يشكل تلاقي القطيعات، وبدون الحاجة إلى المستقبل، تكتفي الشعوب بتربية ماضيها لتفسير حاضرها، فيصبح الحاضر في نهاية التحليل مجرد “عارض سيكولوجي”، أو بالأحرى عارض باطولوجي عن وجود الماضي. فتبني التراجيديا نفسها أمام أعيننا، لكنها، مع ذلك، ليست مقيمة، بل هي عائدة من زمن سحيق، من زمن القميص المدمّى والرأس المقطوع، وخروج الدولة من سقيفة بني ساعدة.
وهذه التراجيديا المتلفّعة بعودة المكبوت الديني، لا نحتاج أن نبحث لها عن “لاشعور” فرويدي، نتقفّى أثره ونتعقّبه، بل إنه هنا حاضر ملموس ومرئي، وبقوة قاتلة ومدمرة، “لاشعور” يحرّك الطائرات والسيارات والمدافع، ويركب الأسلحة الأكثر عصرية في سُلّم التدمير.
“مع عودة التراجيديات التي التقى فيها المكبوت الإثني واللغوي والديني، لم تعد الحرية هي التي تعوّض الغياب النهائي للدولة، بل أصبح العنف، أو التراجيديا، هي المنشّط الوحيد للتاريخ في الشرق الأوسط”
عودة المكبوت تتصل، في الوقت نفسه، بسؤال الأقليات: والأقلية هنا باعتبارها المجموعة التي تعيش في دولةٍ، لا تشعر بالانتماء إليها إلا كمشكلة. ويكفي أن نتابع الشرق الأوسط وكياناته لكي نشاهد، مع الحرب الدائرة، أننا أمام أمم بلا دول، وكل المجموعات الإثنية واللغوية. هنا، تكاد تعيش الحاضر في بلدانٍ، قد أصبحت بلا دول.
تعوّدنا الاقتناع بأنه عندما تختفي الدول، فهي، عادة ما تفعل ذلك، لكي تفسح المجال للشعوب، لكي تعود إلى مجال صناعة التاريخ، ولكي تجتهد من جديد في ترتيب الدولة.
وفي تجارب العالم، يثبت حقاً أن الدول تختفي لتبقى الشعوب، وما يحدث اليوم في شرق الشرق وغرب الشرق أن الدول انهارت في أكثر من مكان، واختفت الشعوب برمّتها، وبحذافيرها، لتثبت أن المنطقة خارج المنطق الذي فكر به مؤرخو الجدل المبشرون.
رابعاً، يمكن للدولة أن تختفي، على حد قول إيليتش أوليانوف، المشهور بلينين، عندما تحقّق المجتمعات المبدأ التالي: الانتقال من مبدأ كُلٌّ حسب قدراته إلى مبدأ كُلٌ حسب حاجياته، والحال أن شعوب الشرق لخّصت قدراتها في.. حاجياتها.
وكان صانع ثورة أكتوبر الطيّبة الذكر، في روسيا، قبل أن تطيحها عودة المكبوت الإثني والديني على حد سواء، يعتقد بوهم استراتيجي مادي وجدلي كبير، أن نهاية الدولة إيذان بعصر الحرية (فما دامت هناك دولة لا وجود للحرية، وعندما ستسود الحرية لن تكون هناك دولة).
ومع عودة التراجيديات التي التقى فيها المكبوت الإثني واللغوي والديني، لم تعد الحرية هي التي تعوّض الغياب النهائي للدولة، بل أصبح العنف، أو التراجيديا، هي المنشّط الوحيد للتاريخ في الشرق الأوسط، الذي يمثّل بالنسبة للجغرافيا ما تمثله “الطبيعة الميتة” في تاريخ الفن.
خامساً، الأتراك يحلمون بالخلافة، ويجادلون من أجل إعادتها، وهنا تكون التراجيديا عنواناً للتدخل في مجال النفوذ الجغرافي السابق الذي تركه التاريخ بلا ساكنة، اللّهمّ حشود من الأحلام.
وتكون أيضاً الشكل الاستعاري لميلاد (المحور الجغرافي للتاريخ)، كما نظر له هارولد ماكندير. وحيث الشرق يصنع التراجيديا، ولا يصنع الخريطة الجيواستراتيجية للمستقبل، وحيث التمدّد الإيراني والتركي يعيدان التاريخ إلى الجغرافيا، في شكل شعور مأساوي لدينا بعودة “فارس” والخلافة “العثمانية”. وفي الحالتين، تكون السماء شرطَ المأساة أو الشرط الرباني للمأساة، فمن بين الصيغ التي اقترحها جورج لوكاش (1885 ـ 1971، فيلسوف وكاتب وناقد ووزير مجري)، للدخول إلى قلب الوضع التراجيدي، العبارة التي يدعو فيها “السماء إلى مغادرة المشهد مع بقائها متفرجة عليه، لأن ذلك هو الشرط لقيام إمكانية تاريخية للعصر التراجيدي”.
والسماء هنا لم تغادر المشهد كلياً، ما دام كثيرون يعتبرونها الفاعل السياسي الأول في تراجيديا الشرق، شرقه وغربه.
يكاد العَود المأساوي للتاريخ أن يكون مثالياً، ونحن نتحدث عن هذا الشرق، وفي حركيته البعيدة، رجوع إلى تلك “اللحظة المحورية” التي هزّت العالم ما بين القرن 800 إلى 200 قبل ميلاد المسيح، عليه السلام، التي جمعت الصيني كونفوشيوس والفارسي الإيراني حالياً، زاردشت، وبدايات الدين في فلسطين والتراجيديين من هوميروس إلى افلاطون، ومن معه من الكتّاب التراجيديين في اليونان. في هذه “الصرّة” من الكون يتفاعل العالم حالياً، تراجيدياً. كما لو أن التراجيديات السابقة كانت تنقصها الصورة والفيديو فقط، وقد عادت ليكتمل التصوير.
ليست الحدود وحدها التي تلتهب اليوم، بل تحولت الحدود الى داخل الأوطان. وهكذا عشنا في السنة التي مضت وبداية الحالية ما لم نشعر به… أبدا من قبل.
إذ لم يعد يوجد مكان آمن للمسلمين، شيعة كانوا أو سنة، والشيعة أكثر من السنة، حتى بيت الله، المسجد الذي يكنّ له المسلمون عادة إحساساً بالرهبة والتقديس لا يضاهى، أصبح كميناً مضمون الضحايا، وصارت بيوت الله من أخطر الأماكن في العراق وباكستان والسعودية واليمن
نكبِّر قبل الصلاة، وعند الدخول، ثم بعد الانفجار بقليل، ترتفع آيات التكبير من جديد بقتل من كبَّر قبلنا.
من يصدق أن الذين يفجرون أنفسهم في المساجد، يقرأون القرآن، وأن الذين يهاجمون المصلين توضأوا، قبل أن يقتلوا باسم الذات الإلهية؟
أربعة عشر قرنا خلت، والله سبحانه وتعالى كتب وصفة استعمال المساجد ووصفة للأمن، لمن يريد أن يختار بيته واحة وسط صحراء العالم، والمفارقة أن الذين كان لهم القرآن، ومن كتبت لهم وصفاته في السلم، هم الذين حولوا المسجد إلى نقطة ألم كبرى في أرض الإسلام.
وكما يحدث مع الشمعة، فإن النقطة الأكثر عتمة هي بالذات التي تكون أسفل المحراب 14 قرناً، ولم يتحرر المسجد، مع ذلك، من الدم الأول الذي سال فيه دم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما هوى عليه لؤلؤة بالقتل، ليسمم تاريخ البشرية المؤمنة بأول جريمة قتل في بيت الله.
أربعة عشر قرناً، ولم نحرر المساجد أبداً من أحقادنا، وهناك، حيث يكون الإيمان أقرب إلى الحياة، يكون الخطر في جوار الألوهة، حيث يمر القتلة باسم الله وباسمنا.
منذ نفذ الخنجر إلى قلب عمر، من وراء حجاب الظهر، ونحن نعيد التجربة جماعياً، في الحفاظ على المكان المظلم في المكان “الأكثر إضاءة”.
يريد الله أن يكون المسجد بيتا له، يدخله الذين وجدوه لتطمئن قلوبهم، فتدخله الأشباح، تستل السيوف في بداية الخلق الديني، ثم تنتقل، تبعا لتسلسل الجريمة في العصر الحديث، لتستل الرشاشات وتفتح النيران، والأكثر براعة من المسلمين هم الانتحاريون الذين يصرون على حمل قتلاهم معهم، من المسجد إلى قبة الله اللامرئية.
“صبح التعايش مع الجثث تحت سقف المسجد الواحد جدولاً يوميا للحروب الجديدة بين أبناء الوطن الواحد

يقول الله في قرآنه الكريم إن المساجد له، ويشدد العقوبة على الذين يريدون منا أن نمنع فيها ذكره هؤلاء الأشد كفراً، “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ، لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”.
مع ذلك، إذا استبد بنا الخوف، لن نستطيع أن نهرب إليها، ولن يهرب إليها مسلم، قبل غيره من أنصار الديانات الأخرى إلى الله. هنا، تكمن سخرية الترقب، أليس العدو هو الموعود بالشر في المستقبل، حيث لا أمان له؟ كيف نصبح نحن أعداءنا، أو لعلنا أفضل ما نملكه من أعداء لنا؟
سبق أن وقعت الواقعة، واستيقظ المسلمون في العالم على الدم يسيل من جديد في الحرم المكي، عندما اقتحم جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، الموظف في الحرس الوطني السعودي المسجد الحرام وقت الفجر، وأعلن ظهور المهدي المنتظر، وفي لحظة هذيان قصوى، اكتشف هو ومن معه أن العلامات الخاصة بالمهدي، والصفات المتعلقة بشخصه، تنطبق على أحد أفراد الجماعة، وهو محمد بن عبد الله القحطاني، المتزوج أخت جهيمان، فبايعوه على الخروج، وطلبوا من جموع المصلين مبايعته، وكان جهيمان وأصحابه قد أغلقوا أبواب المسجد الحرام، ومع تدافع القوات السعودية، وتبادل الطرفين النيران الكثيفة، سال الدم، وذهل المسلمون، وهم يتابعون القتل في الحرم.
لم يكن يوم المهدي المنتظر، في تقدير المرحلة، آخر أيام الذهول العام، بل ستتحول المساجد إلى نقط كمائن في أرض المسلمين، بل أصبحت الأهداف الأكثر إغراء للقتلة من الدين الإسلامي، باعتبارها مساجد ضرار، أو باعتبارها مخادع للعدو من الطائفة الأخرى، والاسم الحركي الجديد للمدافن.
قضت المساجد زمنا طويلاً، وهي عرضة للسلطة، ومسرحا لإعلان الحكم والوظيفة المنبرية له، وبهذا المعنى، كانت بوابة تعميم الشرعية للحاكم ومباركة السلطة، وكان علينا أن نخوض معركة طويلةً، لم ننهها بعد من أجل تحرير المساجد من الاستعمال السلطوي، فإذا بنا نضيف إليها، في القرن الواحد والعشرين، القتل والتفجير والحروب الطائفية، حلاً فاشستياً للخلافات حول السلطة ذاتها. وأصبح التعايش مع الجثث تحت سقف المسجد الواحد جدولاً يوميا للحروب الجديدة بين أبناء الوطن الواحد، أو عبر تصدير التوابيت من الأوطان المجاورة، كما حال هجوم أنصار داعش على مساجد في السعودية، أو هجوم أنصار طالبان في أفغانستان على المساجد في باكستان.
كيف نتحرر، إذن، من كمِّ هذا الدم على جدران المساجد، وعلى جدران الروح الدينية للمسلمين؟
إنه السؤال الذي يجب أن يكون عنواناً لتحرر النص الديني من القتلة، وتحرر التدين نفسه من الموتى الذين يقتلون الأحياء من وراء نصوص، وهي الإشارة إلى الفتاوى القديمة والمحينة، بلغة الكمبيوتر التي تستعيدها الفصائل الحالية لتبرير القتل، بل وجعله تسلية ميتافيزيقية للمؤمن الحقيقي في عصر القنابل البشرية.

****(ملحوظة: كثير من هذا الكلام كتبته في يوليوز ويونيو الماضيين)..

* كسر الخاطر * عودة التراجيديات والمكبوت الديني.. * عبد الحميد جماهري

                       عن جريدة الاتحاد الاشتراكي

                           الثلاثاء 5 يناير 2015

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…