لقد علَّمنا التاريخ أنه كلما تصاعدت حِدَّة الطائفية في بلد معيَّن إلا وضَعُفت فيه المواطَنة، وتحوَّلت الطائفية إلى هوية وانتماء ومعيار سياسيين، وأنه كلما خفَّت الطائفية في البلد نفسه برزت المواطَنة ورسُخَت. فالعلاقة بينهما جدلية، إذ تؤثر إحداهما في الأخرى…
يؤكد تطور الأحداث اليوم أن التخلف مُتجذِّر في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأن أفكار هذه المجتمعات ومدارسها لا تساير روح العصر، وأن الانخراط في هذا الأخير يتطلب معركة واسعة لإحداث قطيعة معرفية وسياسية مع العقلية الطائفية والقَبَلِية الخرافية التي نشأت هذه المجتمعات في ظلامها الدامس، وما تزال لا تملك الجرأة على الشك فيها ومساءلتها…
ونظرًا لاستفحال الطائفية في هذه المنطقة، فقد أصبح كل شيء فيها يحتاج إلى فتاوى فقهية لِيتمَّ قبوله أو رفضه، بل أصبحت المواطَنَة ذاتها في حاجة إلى الشيء نفسه ليُباح التعايش مع المُخْتَلِف ولا يكون هناك مانعٌ من تمكينه من حقوق المواطنة، ما يعني أن المواطَنَة لا تستمد شرعية وجودها من ذاتها، وإنما هي في حاجة إلى من يُشَرْعِنُهَا…
يعني ذلك أنَّ هذه المجتمعات لا تملك وعيا ولا إرادة حقيقية لمواجهة ذاتها وإعادة النظر في فكرهـا وثقافتها بغية التَخلُّص من الإرهاب التكفيري، إذ يبدو أنها تجهل طبيعته، ولا تعي العوامل التي تساعد على بروزه، كما لا تدرك خطورة حجم تهديده لها في وجودها، عِلما أنَّ ما ينجم عن هذا الإرهاب من كوارث إنسانية في بعض مجتمعات الشرق الأوسط كالعراق وسوريا ماثل اليوم للعيّان أمام العالم أجمع…
فما تزال هذه المجتمعات لم تُحدِّد بعدُ شكل الدولة التي تريد أن تعيش فيها، حيث يبدو أنها لا تُظهِر، غالبا، رغبة كبيرة في أن تحيا في إطار دولة حديثة تُشكِّل المواطَنَة عمادها الأساس ويعلو الولاء للوطن فيها على سائر الولاءات، وإنما تميل إلى العيش في دولة الطائفة أو القَبِيلَة، حيث لا اعتراف بالفرد ولا بالمواطَنة، وإنما بأصله وانتمائه السَّحيقين…
لا يمكن للدولة الوطنية، مفهوما ومنطقا، أن تتعايش إلا مع مرجعية المواطَنَة، وذلك على عكس المرجعية الطائفية التي تعتبر الوطن وثنا يجب التخلُّص منه بتحطيمه، لأن المواطَنَة لا تنهض على رابطة العرق أو الطائفة أو المذهب!…
ونظرًا لكون أغلب أعضاء مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يعون الأخطار المحدقة بهم نتيجة هيمنة الطائفية والقَبَلِية على فكرهم ووجدانهم، فإنهم يعتقدون أنه لا يمكن شرعَنَةٌ المواطَنَة إلا بفتوى شرعية، ما يعني أن الوطن في اعتقادهم مُتَغَيِّر في حين أن الفتوى هي الثابتة! وهذا ما يشكل انقلابا خطيرا على بناء الدولة قيد التأسيس، منذ الاستقلال، إذ قد يفضي هذا الاعتقاد إلى تقبُّلِ هدم كيان الدولة في ذهن أعضاء هذه المجتمعات ووجدانهم. ويعود ذلك إلى كون مبدأ المواطَنَة سيضع أهل الطوائف في خانة واحدة مع المُختلِفين معهم عرقيا ومذهبيا وثقافيا (بالمعنى الأنثروبولوجي لاصطلاح الثقافة)، بل وحتى مع “الكفار” و”المرتدِّين”، وهو ما تعكسه بوضوح فتاوى بعض الشيوخ على القنوات الفضائية، وما يتواترُ بكثرة في مناهج التعليم وفي بعض الكتب والمقالات الصحفية التي يُدبِّجها بعض الشيوخ…
تبعا لذلك، لا تعتبر الطائفية الوطنَ ثابتا يُمْنَعُ منعا باتا المساس به، بل الفتوى عندها تعلو عليه وتُشَرعِنُه. وإذا كانت الزعامات الطائفية تضع الفتوى فوق الوطن، وترى أن رجال الدين هم المؤهلون وحدهم لتقديم الفتاوى لشَرعَنَة مبدأي تقديس الوطن والمواطنة، فإنها تغفلُ أنَّ طبيعة تكوين الفتوى ووظيفتها تستدعيان فتوى أو فتاوى أخرى مناقضة لها، ما يعني وجوب عدم مؤاخذة الإنسان إذا فضَّل فتوى معينة على أخرى طالما أن الأمر لا يخرج في كل الأحوال عن اجتهادات فقهية. وهذا ما يجعلنا أمام بيئة تدعم، في جزء منها، فكرة القتل دفاعا عن الهوية المذهبية أو الطائفية، ما يترتب عنه أنّ المناخ الذي يُفرِّخ الإرهابيين بشكل تلقائي، يكون في نهاية المطاف أخطر بكثير من الإرهابي الذي هو مجرد نتاج طبيعي من نتاجاتها.
لا تقبل الدولة الوطنية الحديثة المساومة على الوطن، ولا تسمح بجعله موضوعا للنقاش الطائفي أو القبَبَلِي أو الإيديولوجي، وما إلى ذلك من المساومات، لأنها تعتبر المُواطَنَة فوق كل المذاهب والنزعات وأعلى منها. وهذا ما جعل القوانين المناهضة لكل أشكال التمييز والداعمة لحقوق الإنسان في الدول المتقدمة تكون ترجمة للواقع ونتيجة اجتماعية طبيعية، قبل أن تكون نتيجة قانونية لمفهوم المواطَنَة السائد، لأن هذه الأخيرة في وعي تلك المجتمعات تُبرِّرُ نفسها بنفسها وتُشَرْعِنُ ذاتها بذاتها… كما أن الوطن ليس في حاجة إلى من يمنحه شرعية لأنه هو الذي يمنحها…
لذلك، إذا كان لِسَنِّ القانون فوائد مهمة، فإنه ينبغي مراجعة مفهوم المواطَنَة وتحريره من المرجعيات الطائفية والقَبَلِية وجعل ذلك أولى الخطوات التي يجب القيام بها قبل وضع القانون، إذ ستُمكِّن هذه الخطوة الأغلبية الساحقة من الإحساس بأن القانون يُعبِّر عن إرادتها العامة، وليس مفروضا عليها من أي جهة من الجهات…
لكن هذه المهمة ليست سهلة، خصوصا وأن جماعات الإرهاب التكفيري قد مارست الكثير من الهدم والتدمير على مدار سنين، وبالتالي ينبغي مواجهة هذه الظاهرة في جذورها، لأن الاكتفاء فقط بالمقاربة الأمنية في التصدِّي لها دون مُقارعتها فكريا قد يهيئ لها التربة الملائمة لتزداد استفحالا إلى أن تأتي على الأخضر واليابس…
لا يمكن تفعيل بناء الدولة الحديثة دون التخلُّص من الطائفية وتنمية المواطنة، كما لا يمكن لمقاومة الإرهاب وإنجاز الإصلاح والتنمية أن يأتيا أكلهما بشكل سليم في غياب ممارسة قطيعة معرفية وسياسية مع القبَلِية والطائفية، إذ لا يمكن أن تشتغل دولة بقِيَّم حديثة في زمن سيطرة الطائفية لأنها ظاهرة تنتمي إلى عالم ما قبل الدولة الحديثة. بعبارة أخرى، لا يمكن أن يشتغل نظامان متناقضان في بلد واحد: نظام الدولة الحديثة، ونظام ما قبل هذه الدولة. ويعود ذلك إلى أن الطائفية من مٌخَلَّفَات عصور قديمة بينما المٌواطَنَة والديمقراطية والمؤسسات والقانون والعلم الحديث من شروط الدولة الحديثة. لذلك، فبوجود الطائفية، لا يمكن بناء الدولة الديمقراطية، إذ كلما سادت هذه الآفة تعطَّلَت سائر شروط بناء هذه الدولة.
لكن لا توجد وسيلة أكثر فعالية في محاربة الطائفية من المواطَنَة نفسها. لذلك، يقتضي بناء الدولة الحديثة تعزيز قيمة المواطَنَة بالممارسة والفكر والثقافة فضلا عن الإصلاح المؤسسي والسياسي… ولا يمكن أن يثمر ذلك ما لم تٌعضِّده مناهج التربية، ووسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني…