عن جريدة الاتحاد الاشتراكي ..
نسال الله الرحمة والمغفرة والجنة للراحلين الكبيرين ..سي محمد باهي وسي الحسين ايت احمد
هو أقدم معارض جزائري وأحدث معارض جزائري وأصلب معارض جزائري، وأكثر معارض جزائري ثباتا على المبدأ ومثابرة على متابعة الهدف، وأكثر المعارضين صبرا وأوسعهم مصداقية.
هو أقدم معارض جزائري لأنه جهر بمواقفه، بعد إعلان الاستقلال مباشرة، وهو أحدث معارض جزائري لأنه رفض التنازل عن مطالبه عندما لوحوا له في السنوات الماضية بإمكانية العودة مقابل التأييد والمشاركة، وهو أصلب معارض جزائري لأنه لم يسقط طوال هذه السنوات رغم ظروف الاغتراب الصعبة في إغراءات الارتباط أو التعاون مع أية جهة خارجية عربية كانت أو غير عربية، وهو أكثر قادة المعارضة ثباتا على المبدأ ومتابعة له لأنه ما يزال ينادي بنفس الأفكار والمبادئ التي طرحها منذ ربع قرن، وهو أكبرهم جَلْدا لأن كل عوامل اليأس لم تنل لحظة واحدة من إيمانه بحتمية انتصار الديمقراطية، وهو أوسعهم مصداقية سياسية لأن نظام بومدين ونظام الشاذلي بن جديد لم يستطيعا أن يسجلا عليه أو ضده، زلة من هذه الزلات الكثيرة التي ارتكبها بعض، إن لم نقل أغلب المعارضين المقيمين بالخارج، وأدوا ثمنها غاليا من سمعتهم ومن احترامهم في الداخل.
صاحبنا إلى هذا وذاك من الرعيل الأول الوطني أي من ذلك الجيل من المناضلين الجزائريين الذين بدأوا غداة الحرب العالمية يُعِدُّونَ العدة في صمت لقيام الثورة المسلحة. إنه الرئيس الأول »للمنظمة الخاصة L?organisation spéciale« أي تلك الهيئة السرية التي انبثقت من حركة انتصار الحريات الديمقراطية والتي نشأت منها جبهة التحرير الوطني، وهو عضو سابق في المجلس الوطني للثورة الجزائرية ووزير سابق في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكان هذا الرجل أول مخطط استراتيجي للثورة، كما كان أول دبلوماسي لها، وكما سيصير أول مناضل ديمقراطي في صفوف قادتها التاريخيين البارزين. كان أول مخطط استراتيجي بالمعنى الحربي الدقيق للكلمة لأنه تحمل مسؤولية تأهيل الكادر السري للعمل المسلح، وكان أول دبلوماسي عرف العالم الخارجي بواسطته مطالب الشعب الجزائري، عندما ذهب إلى مدينة باندونغ الأندونيسية بجواز سفر مصري ليمثل جبهة التحرير الوطني في المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز (1955)، وكان أول داعية ومبشر بالنظام الديمقراطي لكونه اعترض منذ اليوم الأول، بعد الاستقلال، على فكرة الحزب الواحد. هو واحد من »الأحرار الخمسة« الذين خلدتهم أغنية مصرية قديمة، لعلها للمرحومة أم كلثوم، أغنية رددتها أجيال العربية الفتية حتى حقبة الخمسينات، تعبيرا عن انفعالها بأحداث الثورة الجزائرية. وقد أطلق اسم »الأحرار الخمسة« في العالم العربي، مشرقا ومغربا، على مجموعة من القادة التارخيين للثورة الجزائرية، ذهبوا ضحية أول قرصنة تمارس ضد طائرة مدنية، في هذا العصر. ففي الثاني والعشرين من أكتوبر 1956، اعترض سرب من الطائرات الحربية الفرنسية طريق طائرة نقل مغربية وضعها الملك محمد الخامس رهن إشارة أعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني الجزائري، لتنقلهم من الرباط إلى تونس، حيث كان يفترض أن يعقد اجتماع قمة ثلاثي بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة للبث في موقف موحد من السياسة الفرنسية تجاه الجزائر. وكانت تلك الطائرة تحمل على متنها السادة أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد خيضر ورابح بيطاط ومصطفى الأشرف. لقد أرغم سلاح الجو الفرنسي طائرة الركاب المغربية على الهبوط بمطار الجزائر العاصمة، وأنزل منها ركابها الجزائريين، مكبلين بالقيود مثل مجرمين عاديين، واضطرت الحكومة الاشتراكية الفرنسية، برئاسة غي مولييه، تحت تأثير ضغط الرأي العام وخوفا من مغبة موت الخمسة تحت التعذيب على أيدي ضباط الجيش الفرنسي، اضطرت لنقلهم إلى فرنسا، حيث بقوا في السجون حتى استقلال الجزائر.
بعد ربع قرن تقريبا وتحديدا في ربيع 1962، بغرفة الإستقبال في منزل ممثل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالرباط كان كاتب هذه السطور صحفيا مبتدئا بجريدة التحرير، جاء برفقة وفد من رجال حركة المقاومة وجيش التحرير بقصد التحية والتهنئة، وكان السيد حسين آيت أحمد، الذي حضر مباشرة من فرنسا إلى المغرب مع الزعماء الآخرين الذين أطلق سراحهم بعد اتفاقات أفيان، واحدا من أبرز الوجوه القيادية للثورة الجزائرية. وما تزال الذاكرة تحتفظ ببعض ما جرى في ذلك اللقاء وخاصة كلام السيد حسين آيت أحمد عن الدور الذي تنوي الجزائر المستقلة النهوض به لتوحيد المغرب الكبير. أما اللقاء الأخير، فقد تم في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 1988، بإحدى مقاهي شارع السان جرمان في الحي اللاتيني، بحضور الصديق محمد أيت قدور، ودار فيه الكلام مدة ثلاث ساعات عن نفس الإشكالية : وضع الجزائر بعد خريف الغضب الأخير واحتمالات تأثيره على المغرب العربي.
بين اللقاء الأول الذي تم بإحدى »فيلات« الرباط في ربيع 1962، واللقاء الأخير حول طاولة خشبية صغيرة بالحي اللاتيني، عشرات اللقاءات بالجزائر وباريس ولندن، والرجل هو هو، ما يزال يحتفظ بحيويته وذهنه المتوقد ورؤيته السياسية الواضحة. بدا لنا السيد حسين آيت أحمد، وهو يرافع بلغته العربية الفصحى ومسلح بلغته الفرنسية الراقية، وكأنه نفس الشخص الذي شاهدناه، قبل ربع قرن يشرح موقفه داخل المجلس الوطني التأسيسي الأول.
*كيف تفسر هذا العناد في موقفكم؟
* إنه إيمان وليس عنادا…
* ما رأيكم في أن الجميع أصبحوا ديمقراطيين؟
* ظاهرة التوبة من نظام الحزب الواحد جديدة في الجزائر. أما أنا فلست من التائبين، بالمعنى السياسي، لقد كانت الديمقراطية اختيارا دائما بالنسبة إلي. حاولت الدفاع عنها بأحسن ما أستطيع سواء داخل حزب الشعب، أو ضمن حركة انتصار الحريات الديمقراطية بل وحتى وأنا على رأس المنظمة السرية الخاصة ثم في المجلس الوطني التأسيسي. خلال تحملي لرئاسة المنظمة السرية، حرصت، وذلك أمر يعرفه ويذكره جميع الكوادر الذين ما يزالون أحياء، على توفير أجواء المناقشة الديمقراطية في الحدود التي تسمح بها طبيعة العمل السري. وقد وُفقنا في الحفاظ على السرية، وعلى حد معقول من الديمقراطية المسؤولة، دون أن تكتشفنا السلطات الفرنسية. ولكنني مع ذلك كله شديد الحذر والسرية ومن التشوه الذي تلحقه بالفكر والممارسة في المجال السياسي. ومن حسن حظي أنني أفلت من التشوه الذي كثيرا ما يلحق العاملين في حقل السرية…
* ألا تعتقدون أن ما قمتم به بعد الاستقلال، هو عودة إلى السرية؟
* أبدا، لقد اخترت التعبير العلني وجهرت بموقفي صراحة ضد الحزب الواحد، وقلت رأيي ودافعت عن حرية التعبير، وكان هدفي، هو قلب الآفاق التي فتحتها أزمة صيف 1962. ولا تنسوا أنني استقلت من الحكومة، بكل بساطة، تجنبا للصدامات الأخوية. كنت أريد أن أقدم مثالا وقدوة، لأن الأمر كان يتعلق بصراع حاد حول السلطة.
*خصومكم السياسيون، اتهموكم آنذاك بمناهضة الاختيار الاشتراكي…
* أنا لم أكن مناهضا للاشتراكية، ولكنني وقفت ضد المفهوم الستاليني والشيوعي للإشتراكية، ولست أنكر ذلك الموقف بل أعتز به. ولا يفوتني أن أذكركم، مع ذلك بأنني وقفت أيضا ضد حل الحزب الشيوعي الجزائري وطالبت بالسماح له بالعمل. فعلت ذلك لأنني أؤمن بأن الديمقراطية يجب أن تتيح لكل تيار سياسي العمل في وضح النهار، ولأن غيابها يشجع ممارسة ما أسميه »استراتيجيات التغلغل السري المتبادل« التي تؤدي دائما إلى الخلط والالتباس…
* كيف تفسرون أن »جبهة القوى الاشتراكية« التي أنشأتموها بقيت محصورة النفوذ في منطقة القبائل؟
* جواب : لابد لي أن أشير أنني أنشأت جبهة القوى الاشتراكية عام 1963 بعد أن أُلغيت كل إمكانية لحرية التعبير وبعد أن أغلق المجلس الوطني السياسي كما يغلق مقهى أو كما تغلق علبة ليل. ولم يكن يكفيني أن أبشر بمبادئ الديمقراطية، وكان من المستحيل إقناع قادة الجبهة بها. وقد حتمت علي الظروف إنشاء حزب معارض، فبادرت، مع السيد محمد بوضياف، وهو أحد القادة التاريخيين للثورة، بتكوين جبهة القوى الاشتراكية.
* في بداية عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، اتهمتكم السلطات ضمنا بأنكم مسؤولون عن الاضطرابات التي شهدتها منطقة القبائل الكبرى…
* لنعد إلى الوقائع كما حدثت حقا في الساحة. بدأت أحداث القبائل أو ما سمي لاحقا »الربيع القبائلي« يوم 10 مارس 1980 حين اتخذ والي مدينة تيزي وزو، قرارا إداريا مجحفا، منع بموجبه الروائي الكبير مولود معمري، من إلقاء محاضرة أمام طلاب الجامعة حول »الشعر القبائلي القديم…« وقد أيقظ هذا القرار السخيف حزازات قديمة موجودة لدى النخبة الجزائرية ذات الأصل القبائلي، أو فلنقل الأمازيغي، تجاه السلطات المركزية التي تحاول خنق الثقافة القبائلية وكبتها ومنع استعمالها في المدرسة.
حاول الطلاب إلغاء القرار الإداري ووسعوا النقاش ليشمل إشكالية الثقافة الأمازيغية برمتها وما تتعرض له من اضطهاد وقمع وحصلوا بسرعة على تأييد تلامذة الثانويات في تيزي وزو وبجاية ذراع الميزان وعين الحمام وغيرها من المراكز الحضرية الكبرى في بلاد القبائل. وقامت مظاهرات سلمية شارك فيها الطلاب والتلامذة ورافقتها بعض التصرفات الاستفزازية مثل تكسير بعض الإشارات والواجهات والعناوين المكتوبة باللغة العربية. وقد امتدت الاضطرابات من تيزي وزو إلى العاصمة. وهكذا قامت الشرطة بقمع مسيرة شارك فيها الأساتذة جنبا إلى جنب مع الطلاب يوم 7 أبريل، أي بعد شهر تقريبا على منع محاضرة مولود معمري. جرت تلك المظاهرة في شوارع مدينة الجزائر العاصمة وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها : »من أجل الديمقراطية الثقافية«، »من أجل ثقافة شعبية«، أو »من أجل حرية التعبير…« وقد شهدت مدينة تيزي وزو مظاهرة مماثلة أُتلفت خلالها بعض الواجهات المكتوبة بخط عربي، كما نُظِّمت مسيرات تضامنية في باريس، من طرف العمال والطلاب والتجار الجزائريين، وانتهت الوضعية بإعلان إضراب عن الدروس في جامعة تيزي وزو وفي كلية الآداب بالجزائر العاصمة. وقد حضر السيد عبد الحق بْرَارْحِي وزير التعليم العالي إلى تيزي وزو وتناقش مع الطلاب المضربين ووعدهم بفتح حوار داخل الحزب والحكومة حول المسألة الثقافية. ولكنه أخفق في إقناعهم بالتخلي عن فكرة الإضراب. وفي يوم الأربعاء 16 أبريل كان الإضراب شاملا، بمنطقة القبائل وشارك فيه إلى جانب الطلاب والتلامذة ورجال التعليم، شارك فيه التجار الذين أغلقوا محلاتهم، وأصحاب المقاهي والفنادق، والعمال الذين لم يحضروا لا إلى المصانع ولا إلى ورشات العمل. وبعد بضعة أيام فقط من زيارة وزير التعليم العالي، بعثت الحكومة قوات الشرطة والدرك لاقتحام جامعة تيزي وزو، وفتح المستشفى بالقوة. ولم يؤد هذا التدخل العنيف إلى النتيجة التي أرادتها الحكومة، بل حصلت مواجهات دامية بين المتظاهرين والطلاب والأطباء والممرضين والأساتذة المعتصمين من جهة ورجال الأمن والدرك من جهة ثانية. حصل ذلك لمدة أسبوع كامل، عُزلت خلاله مدينة تيزي وزو عن بقية البلاد، وهبط مئات الشبان من القرى الجبلية المجاورة، وهاجموا مع سكان المدينة بعض المواقع الرمزية، مثل محطة القطار والمحافظة الوطنية للحزب، أي مقر جبهة التحرير الوطني الجزائري، تلك هي الوقائع، وقد حاولت أن أسردها لكم بأقصى حد ممكن من الدقة والموضوعية.
وبالفعل اتهمتنا السلطات بأننا ساهمنا فيها، وزعمت أننا نحاول تحطيم الوحدة الوطنية الجزائرية. وأريد هنا أن أذكر، بأن هذه التهم وُجهت إلينا عام 1963 عندما حاولنا التعبير عن رأينا وحاولنا تنظيم معارضة سياسية ديمقراطية ضد سيطرة الحزب الواحد. ولكن هذه التهم لا تصمد لحظة أمام محك التاريخ. فمنطقة القبائل ليست فيها أي نزعة انفصالية، وكانت أثناء حرب التحرير معقلا حصينا من معاقل الثورة، وقبل ذلك كانت بؤرة قوية ومشعة من بؤر الحركة الوطنية. وأنا شخصيا مارست أغلب نشاطي السياسي سواء خلال فترة التمهيد السري للثورة، أو خلال العمل الخارجي، بعيدا عن تلك الجهة التي ولدت فيها. ولكن لهذه المنطقة وضعا جغرافيا وتاريخيا يجعلها ذات طبيعة خاصة ويجعل منها مركزا للمقاومة الديمقراطية.
*ما هي علاقتكم مع الرئيس السابق أحمد بن بلة؟
* أنتم تعرفون، لأنكم عشتم تلك المرحلة التاريخية معنا وعايشتم تفاصيلها، أنني اختلفت مع الأخ أحمد بن بلة، بعد الإستقلال، حول المسألة الديمقراطية، ودخلت في صراع مباشر، ليس مع الشخص، ولكن مع النظام الذي كان يقوده آنذاك. وقد اعتقلت وسُجنت عام 1964. وقبل انقلاب هواري بومدين (19 يونيو 1965) كان أحمد بن بلة، شعورا منه بخطورة الجيش، قد بدأ إجراء اتصالات معنا للعودة إلى الحياة السياسية الاعتيادية. ولكن الانقلاب أوقف هذه المحاولات وأدى إلى اعتقال أحمد بن بلة والزج به في السجن. لقد قمت بإنشاء جبهة القوى الاشتراكية رسميا في 19 سبتمبر 1963، بعد مداولات ومشاورات مطولة مع عدد من الشخصيات، في مقدمتهم الأخ محمد بوضياف، واعتقلت بعد ذلك بسنة (في تاريخ 17 أكتوبر 1964) وجرت لي محاكمة صورية صدر علي الحكم بعدها بالإعدام، تلاه عفو جاء ضمن محاولة الحوار والانفتاح السياسي التي أَشَرت إليها. وقد هربت من سجن الحراش في الأول من مايو 1966، أي بعد سنة تقريبا من وصول هواري بومدين إلى السلطة، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وأنا أدافع عن فكرة إعادة الديمقراطية إلى الجزائر.
ولقد كان الهاجس الذي يؤرقني باستمرار هو ضرورة الخروج من عزلة »الغيتو« القبائلي الذي فرضته السلطة على المعارضة الديمقراطية، كما أنني كنت شديد الحساسية للاتهامات السخيفة الموجهة ضد شخصي وضد الحركة السياسية التي أنتمي إليها. وأنا رجل سياسي ولست رئيس عشيرة وليست لدي أحقاد ولا ثأرات ولا حسابات شخصية أريد تصفيتها. وأعتقد أن أهمية التاريخ، وأهمية الماضي تحديدا هي مساهمته في تقدم الأفكار الديمقراطية. لذلك، بادرت بعد خروج الأخ أحمد بن بلة من السجن عام 1981، وبعد التحاقه بالخارج، بادرت شخصيا بالاتصال معه، وتَركت لدي المناقشات الأولى شعورا قويا بأنه ينظر إلى المجتمع الجزائري نظرة متفائلة جدا. كان يَعتقد يومها أن النقمة العارمة، ينبغي ولا بد أن تؤدي إلى انفجار شعبي عام، انفجار سريع يؤدي إلى الخلاص من الديكتاتورية. كان ذلك إحساسي الشخصي بعد اللقاء الثنائي الأول، وقد تعزز هذا الشعور أثناء اجتماع تداولي رسمي بين الحركتين، في أعقاب مظاهرات جرت بمدينة وهران. كان السؤال الذي طرحناه نحن : ما هي حدود وطبيعة الغضب الشعبي الذي فجر تلك المظاهرات؟ وكان رأي الرئيس السابق أنها انتفاضة من أجل تغيير السلطة. وقد أدركت يومها عمق الفجوة الفاصلة بين تحليلينا ورؤيتينا . كان رأيي على العكس أن تلك المظاهرات هي في آخر المطاف تعبير عفوي، غير منظم، تكشف عن غياب فظيع للوعي السياسي. لقد أطلق الناس شعارات متناقضة من بينها واحد ينادي بحياة بومدين، وفعلوا كل ما فعلوه نكاية بالشاذلي بن جديد. ولم تكن هناك أية حركة سياسية تقود هذه النقمة وتؤطرها وتطرح لها أهدافا معقولة. بل لاحظت أن المجتمع الجزائري انحدر سياسيا إلى مستوى أدنى من المستوى الذي كان عليه عام 1933… كان رأيي أن من واجبنا الملح، أن لا نخطئ في فهم طبيعة المرحلة التاريخية. وقد قلت في تلك الاجتماعات أننا ندخل مرحلة صحوة المجتمع الجزائري على السياسة ولا بد من ابتكار أشكال وأساليب ملائمة للتوعية والتربية من أجل الإسراع بتسييس المجتمع وإخراج نخب جديدة.
وكما تذكرون، فإن مظاهرات وهران التي اعتبرها أحمد بن بلة، مؤشرا على إمكانية تغيير السلطة، جاءت بعد الربيع القبائلي. وقد اختلفنا معه حول تقييمها. إن تحريك المجتمع لتغيير السلطة، يستلزم شروطا أولية مثل الإضراب العام، والتأطير الجدي والسيطرة على مسار الأحداث، والتنبه للاستفزازات، وهي عوامل توفرت بمنطقة القبائل أكثر منها في الغرب الجزائري.
* كيف تفسرون أن منطقة القبائل بقيت هادئة نسبيا خلال خريف الغضب الأخير؟
* للدقة لا بد من تصحيح هذه الصورة. منطقة القبائل تعيش في شبه تمرد، في حالة شبيهة بالوضعية البولونية، منذ ربيع عام 1980، ولا تنسوا أنها كانت في طليعة الإضرابات الطلابية والعمالية التي مهدت لخريف الغضب، كما تسمونه. وما نقلته بعض وسائل الإعلام الفرنسية من أن أهل القبائل تقاعسوا عن العمل، لأن »العرب« لم يتضامنوا معهم في الماضي، تزوير مقصود للحقائق. والذي حدث، هو أن أجهزة الحزب والشرطة عبئت تعبئة شاملة في المنطقة وأرسلت رجالا يتجولون بسيارات تحمل مكبرات للصوت، وتتجول في الأسواق، لتقول للناس : »الزموا بيوتكم ولا تستمعوا إلى دعاة الشغب«. لكن ليست هذه التعبئة هي التي أدت إلى ما وصفتموه أو وصفه بعض زملائكم ب »الصمت القبائلي«. كلا. منطقة القبائل لم تصمت والتمرد فيها حالة كُمُونية. وقبل الأحداث الأخيرة قامت مجموعات منظمة من شبابها بنصب كمائن لشاحنات تحمل المواد الغذائية واستولت عليها ووزعتها على الفقراء.
o لنعد مرة أخرى إلى علاقتكم مع أحمد بن بلة…
n بعد الاتصالات التي أشرت إليها، أمضينا ثلاث سنوات من دون عقد أي اجتماع رسمي. كان الخلاف بيننا عميقا حول الوضع الداخلي، وكان أكثر عمقا حول الموقف من إيران وعن الظاهرة الإسلامية السياسية. لكن عدم الاتصال الرسمي الشخصي بيني وبينه، لا يعني أن الخيوط قد انقطعت. وقد توجت العلاقات بالاجتماع الذي عقدناه في مدينة لندن في نهاية عام 1986 وأعلنا فيه تحالفنا. وكان الهدف من ذلك اللقاء بالنسبة إلي هو إخراج النضال الديمقراطي من عزلته الجهوية والإقليمية. ويجب أن أشير هنا إلى أن المرحوم علي المسيلي الذي اغتالته أجهزة الاستخبارات السرية، في شارع السان جرمان بالحي اللاتيني، بعد سنة فقط من اجتماع لندن، كان صاحب المبادرة في الجمع بيني وبين بن بلة، وقد ذهب ضحية لنضاله الديمقراطي. وبعد وفاة علي المسيلي، عاد أنصار أحمد بن بلة إلى العمل السري وسقطوا في استراتيجية »عنق الزجاجة«.
* ألم تعودوا للإتصال بمناسبة الأحداث الأخيرة؟
*الظاهرة الأخيرة تتجاوزني وتتجاوزه.
المسألة الديمقراطية أصبحت تعني المجتمع الجزائري كله، كما حدث، مع اندلاع الثورة ضد الاستعمار، فإن الشعب الجزائري، يريد اليوم أن يستعيد السيطرة على نفسه، وأعتقد أن الموقف المشرف، بعد تلك المذابح الفظيعة، هو أن يغادر المسؤولون الرسميون مناصبهم، أو على الأقل يتخذوا إجراءات عملية لملاحقة صغار الطغاة من رجال الشرطة والجيش الذين لم يترددوا في إطلاق الرصاص على الأطفال. إن الرعب الدموي الذي عاشته بلادنا أثناء شهر أكتوبر الأسود، قد أماط النقاب عن الحقائق المرة، وخاصة عن الضرورة الاستراتيجية التي دفعت الماسكين بزمام السلطة منذ عام 1962 إلى ممارسة الحرب ضدنا. وعنف اليوم، يذكرنا بعنف الأمس. العنف الذي عاشته البلاد كلها، في خريف هذه السنة عرفته منطقة القبائل أثناء عامي 1963-1964. لقد مورس التعذيب بشكل جماعي سواء في ثكنات الجيش أو في مراكز الشرطة. وكان واضحا بالنسبة لنا منذ ذلك التاريخ، ليس في الجزائر وحدها بل في بلدان العالم الثالث كله، أنه حيث تنعدم المعارضة السياسية الشعبية المنظمة، يستولي الجيش على السلطة ويحافظ عليها بأي ثمن.
* يتردد في الدوائر السياسية أن السلطات الجزائرية اتصلت بكم أكثر من مرة واقترحت عليكم العودة إلى البلاد؟
* فعلا، جرت معي سلسلة من الإتصالات يمكن أن أختصرها في مرحلتين : المرحلة الأولى، بعد وفاة بومدين، وفي نطاق الانفتاح على الشخصيات المعارضة، طُلب مني أن أرجع إلى البلد ولكن مقابل الالتزام بعدم ممارسة أي نشاط سياسي. وقد اعتبرت الاقتراح إهانة شخصية لي ورفضته رفضا قاطعا، وطالبت من جهتي بإصدار عفو شامل عن المناضلين الذين اعتُقلوا معي في بداية الستينات أو بعد ذلك، بتهمة انتسابهم إلى جبهة القوى الاشتراكية، كما ألححتُ على ضرورة إعادة الاعتبار إليهم، ومنحهم حقوقهم الكاملة في التعويض والوظيفة. وقلت لمخاطبي أنني أنتظر ما ستفعله الحكومة لأعيد التفكير مجددا في متابعة الحوار معها أو قطعه نهائيا. أما المرحلة الثانية من الاتصالات فقد بدأت بعد اغتيال الأخ على المسيلي، وقد طُلب مني فيها أن أدخل لأتحمل مسؤولية هامة داخل الدولة أو الحزب. بل إن الشخص الذي أبلغني هذه الرسالة أخبرني بأن وجودي في السلطة مهم لموازنة نفوذ أحمد طالب الابراهيمي لدى الشاذلي بن جديد، وأوضح لي أن شخصيات نافذة في الجهاز، تساند عودتي على هذا الأساس. وكان جوابي هذه المرة أنني لست مستعدا لأن أمشي على جثث أصدقائي…
*وبعد الأحداث الأخيرة؟
* أول شيء حصل عمليا، هو أنني لم أعد من »المحرمات« أو »التابوهات«، فقد أعلن السيد ميلود الابراهيمي رئيس رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، المقرب من الرئاسة أنني واحد من الوجوه المعارضة التي ينبغي أن تجد دورها في المرحلة الجديدة. وهناك مقاربات ومداولات وعمليات جس النبض متعددة ومتواصلة مع الأصدقاء في الداخل لمحاولة جرهم إلى الانتخابات…
* ما رأيكم في موقف الحكومة الفرنسية من أحداث الجزائر الأخيرة؟
* لم أكف خلال نشاطاتي العامة والخاصة عن التنبيه إلى الأضرار التي ألحقها بالمغرب الكبير صمت الحكومات الأوروبية عامة والحكومة الفرنسية خاصة أمام ظهور »البَانْزَر«. إن إرادة عدم التدخل، كانت في الواقع بمثابة تدخل فعلي لفائدة الممسكين بزمام السلطة. إنه أيضا نوع من عدم المساعدة لشعب يتعرض للخطر. ثم هو بالإضافة إلى ذلك كله يمكن أن يعتبر ضربا من التخلي عن المسار الديمقراطي الناشئ في تونس. وقد حدث كل شيء، كما لو أن الحكومة الفرنسية تتجاهل بروز قوة عسكرية جزائرية معززة يمكن أن تشكل زعزعة حقيقية للمغرب الكبير. كما يمكن أن تسفر في المدى البعيد عن ظهور أنواع من الأصولية اليسارية أو الأصولية اليمينية.
* على ذكر المغرب الكبير، كيف تتصورون مضاعفات الانتفاضة الجزائرية على الساحة المغاربية؟
* لا بد من أن أؤكد أولا، بأن المسؤولين الجزائريين ذُهلوا لعمق الانتفاضة التي أثبتت أن مشاكل الجزائر الحقيقية ومشغوليات الحياة اليومية للناس ومطامحهم وأحلامهم، بعيدة بعد السماء من الأرض، عن التضليل الذي مارسه الحكم. وقد ظهر ذلك في أول مناسبة أُتيحت للجزائريين للتعبير عن مشاعرهم الحقيقية. المناسبة الأولى كانت مؤتمر القمة العربي، وخلالها رفض سائقو الطاكسيات أخذ أي مقابل عن أتعابهم عندما كانوا ينقلون ركابا مغاربة. لقد أثبت ذلك السلوك العفوي أن الشعب الجزائري، معارض لحرب لا تسمي نفسها ولا يتجرأ حكامه على تقديمها له في صورتها الحقيقية.
إنها حرب متنكرة تهدف إلى تضليل الرأي العام الجزائري، وتهدف إلى إغلاق البلد عن التفاعل مع جيرانه. والمناسبة الثانية كانت فتح الحدود مع المغرب وتدفق مئات آلاف الجزائريين على وطنهم الثاني، وعودة أواصر القرابة إلى مجاريها الطبيعية. وقد أثبتت هي الأخرى أن المغرب الكبير يسكنه شعب واحد، تربط فيما بين أجزائه المختلفة آلاف الوشائج المتينة.
وأنا أتمنى من صميم قلبي أن تنخرط كافة الاتجاهات التجديدية الناشئة والناهضة في الجزائر في عملية المسار المغربي. وفيما يخص حركتنا السياسية، فسوف نطرح إشكالية الوحدة المغربية أو المغاربية على جدول أعمال الروابط التي تتكون الآن. لا بد لهذا الشباب المفصول عن ماضيه والمفطوم عن ذاكرته التاريخية أن يسترجع الشُّعلة الوحدوية التي حركتنا في السابق ودفعتنا للعمل. ولا بد لنا أن نفهمه المستلزمات الاقتصادية وهي تفرض علينا بل تحتم الخروج من الوطنية القطرية الضيقة المشوهة. إن بقاء الوضع على ما هو عليه، إهانة حقيقية لشعبنا. الحياة العصرية الدولية الجديدة القائمة على التحديات الكبرى، في نطاق الكتل الضخمة مثل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، والتكتلات العملاقة مثل السوق الأوربية المشتركة، والتكوينات شبه القارية مثل الهند والصين في آسيا والبرازيل في أمريكا اللاتينية، والتوجهات الاستراتيجية المتمثلة أوربيا في الحوار السوفياتي الألماني وآسيويا في التقارب الصيني الياباني. كلها بديهيات تؤكد أن الاقتصاديات الكبرى وحدها قابلة للحياة. ولابد إذن من تحقيق وحدة المغرب الكبير ولكن لا بد بالخصوص من أن ترتفع أعلام الديمقراطية، خفاقة كشعار عملي لهذه الوحدة المنشودة.
وأنا أقترح منذ الآن إقامة مؤسسات فدرالية في مقدمتها برلمان للمغرب الكبير يتم انتخابه على أساس الاقتراع العام المباشر. ثم أقترح مجلس تنمية يشارك فيه إضافة إلى الاختصاصيين من رجال الاقتصاد وعلماء الاجتماع وأرباب العمل، ممثلون عن القطاعات المتضررة من التهميش، أي النساء والشبان والنقابيون. ولست أرى مفرا من تكوين مناطق مغربية، وأقطاب تنمية مشتركة في الحدود الحالية. وأبادر فأقول بأن الحجة المزيفة القائلة بوجود نظم سياسية واقتصادية مختلفة إنما هي ذريعة واهية، فأوربا الموحدة، والتي ستزيل جميع الحدود من بين دولها عام 1993، مؤلفة من ملكيات وجمهوريات وفيها أنظمة ليبرالية وأنظمة اشتراكية، تناقضات وصراعات وتحالفات متعددة مع أمريكا وروسيا إضافة إلى تاريخ حافل بالمنافسات والحروب الحدودية والخارجية لم تمنعها من وضع أسس معقولة لوحدة تدريجية، لا بد أن تفرض علينا نحن المغاربة المواجهين لها على الضفة الأخرى من البحر الأبيض أن نخرج بسرعة من أنانياتنا الوطنية الضيقة حتى لا نختنق.
إضافة إلى ذلك فإنني أدعو إلى تكوين مجلس أعلى لحقوق الإنسان يجسد فعلا أن هذه المشكلة ليست شأنا وطنيا أو إقليميا وإنما هي جزء من القانون الدولي. ولا بد أيضا من معهد مغربي لدراسة حقوق الإنسان، يقوم بإبراز القيم الأصيلة في تراثنا، باعتبارها زيادة وليست نقصانا. وأريد أن أوضح فكرتي في هذا المجال تجنبا للالتباس، أن الخطاب السياسي السائد لا يتكلم إلا عن الأصالة والتراث والتقاليد، ويدعي أن الديمقراطية وحقوق الإنسان بضاعة غربية وغريبة وزائدة. والهدف عندي هو الإكثار من أدوات التضامن العربي في وجه الآلة القمعية.
أصحاب النظرة التقليدية من الأصوليين التقليديين والحداثيين ومن الأصوليين اليساريين المقنعين أو من الأصوليين اليمينيين المكشوفين يعرفون أن عدم اكتراثهم بحقوق الإنسان هو إعادة إنتاج لخطاب عنصري عريق. العنصريون الغربيون كانوا يرددون أن الديمقراطية لا تصلح للعرب ولا للزنوج وأنا أقول أن الصمت والتهاون في شأن حقوق الإنسان يجب أن ينتهي. لابد أن نَسْتَنْهِضَ هذه الحقوق لنسترجع ما فقدناه من كرامة. ولا بد أن نبدأ أولا بالتنديد بالتعذيب والمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام وسيكون ذلك مساهمة كبرى منا في النضال الحضاري ذلك على الأقل بالنسبة إلي معنى الانتفاضة الجزائرية أو خريف الغضب الجزائري كما تسمونه.
*الحوار منقول عن جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد يومه الاثنين 3 يناير 2016 …(*) نشر هذا الحوار يوم 30 نونبر 1988 بيومية “الإتحاد الإشتراكي”، وهو وثيقة زودنا بها الصديق والأخ عباس بودرقة مشكورا الذي يهيئ بباريس كتابا حول كتابات الراحل الكبير الأخ محمد باهي وأساسا حول “رسالة باريس”.