لقد توصلت القوى الاستعمارية، بمساعدة بعض المستشرقين، إلى أن لتوظيف العوامل الطائفية والقَبَلِية دور فعال في خلق توازن داخل المجتمعات المستعمَرَة وإعاقة تحديثها وبنائها ديمقراطيا، فقامت بتوظيف تلك العناصر، ومن ثمة تمكَّنت من مواصلة بسط سيطرتها على مستعمراتها حتى بعد حصولها على الاستقلال. وقد اعتمد هذا النهج مسؤولو ما بعد الاستقلال هم الآخرون بغية الحفاظ على سلطتهم… لكن ما يجب الانتباه إليه هو أن العوامل الطائفية والقَبَلِية لم تعد تعوق فقط الدمقرطة والتحديث، بل صارت، في زمن العولمة، تشق وحدة صفوف المجتمعات وتُدَمِّر الأوطان لصالح بعض القوى العظمى التي استطاعت عبر تفعيل هذه العوامل التحول من عامل خارجي إلى عامل داخلي قد يكون قادرا على الحسم في مصير هذه المجتمعات…
وهذا ما جعل الطائفية والقَبَلِية عاملين أساسيين يعيقان الإصلاح المؤسسي والسياسي… وخصوصا عندما يكون الولاء السياسي لهما أهمّ من الولاء للوطن وعلى حسابه. ويعود ذلك إلى أن هذين الانتمائين يتسببان في عدم إدراك العقل والوجدان الاجتماعي والثقافة السياسية السائدة لأهمية الانتماء للوطن والارتباط بأفراده في إطار عقد اجتماعي يُشكّل قاعدة صلبة تضمن أمن المواطنين ووحدتهم ومصلحتهم… فالهويات الطائفية والقَبَلِية تؤديان إلى تفتيت المجتمع وعدم السماح بوجود الروابط السليمة التي يمكن أن تجمع بين أعضائه. بعبارة أخرى، ينجم عن ترسيخ هذه الهويات وتدعيمها سيادة ثقافة سياسية تحول دون إقامة مجتمع موحَّد ذي نسيج متماسك يتيح بناء دولة حديثة مستقلة. وهذا ما يستوجب أن تكون الدولة بقوانينها ومؤسساتها… تعبيرا عن إرادة المجتمع في تدبيره الذاتي لأموره وتوظيف طاقاته خدمة لمصالحه المشتركة. وفي غياب ذلك تصبح الدولة ساحة للصراعات بين مختلف الهويات الطائفية والقَبَلِية التي يُفتَرَضُ فيها أن تكون هويات ثانوية قياسا إلى الانتماء الوطني، حيث إن اشتعال الحروب بين هذه الهويات الفرعية هو ما يعصف بوحدة المجتمع، إذ يحول دون بروز ثقافة المواطنة ويُضعف الوحدة الوطنية والدولة في آن واحد. لذلك، يشكل تجذر الانتماءات الطائفية والعرقية عائقا أساسيا في وجه تحقيق الحريات العامة والحقوق الفردية ودولة الحق والقانون… التي يحلم بها المجتمع اليوم، والتي لا يمكن تحقيقها إلا ببناء دولة حديثة تشكِّل هذه الحقوق والمؤسسات عناصرها الأساسية، وهي عناصر ليس لها أي وجود في كل من النظام الطائفي والقَبَلِي، لأنها تتناقض معهما من حيث طبيعتها. وبذلك، فالدولة الحديثة تتعارض جذريا مع أنظمة الحكم التي تقوم على أساس طائفي أو مذهبي أو قَبَلِي. وما يجب الانتباه إليه هو أنه إذا كان مدُّ العولمة قد ساهم في إيقاظ الهويات المحلية في بلدان كثيرة، فإن تنامي خطاب هذه الهويات وانتشاره يكتسي صبغة خطيرة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا رغم مُضَيِّ عقود على التبنِّي الشكلي لبعض مظاهر الدولة الحديثة ودساتيرها في هذه المنطقة. فالطائفية والقَبَلِيةِ تُشكَّلان البنية العميقة لمجتمعاتها، ما يجعلهما عنصرين أساسيين في فهم بنيتها السياسية والاجتماعية، حيث تتم إثارة الطائفية والقَبَلِية بغية تحويلهما إلى هويات سياسية، على نحو يؤدي إلى انتشارها فيها كوباء فتَّاك…
بناء على ما سابق، يتضح أنه من الصعب التخلٌّص من الطائفية وما ينجم عنها من تفتت للمجتمع والأوطان؛ فهي تٌنتج خطابا يُشوِّه الواقع ويُحرِّفه ويمسخه، حيث تُغَيِّب الفرد الذي يٌشكل المحور الأساسي للحقوق والواجبات في المجتمع، فيصبح السِّلم بين الطوائف والقبائل مجرد تعايش أو تساكن بينها، وتصير المساواة مجرد حصص مٌتَوَافَق على توزيعها في ما بينها، ما يفسح المجال لاستفحال الفساد. ورغم ذلك، لا يتردَّد بعض الناس في وصف المساكنة بين الطوائف والقبائل بأنها ديمقراطية توافقية. لكن ذلك غير صحيح، حيث إن ما ينبغي الانتباه إليه هو أنه إذا كانت التوافقية تحول نسبيا ضد الاستبداد والطغيان، فهي ليست، بأي حال من الأحوال، ديمقراطية تقوم على المواطنة، إذ إن الفرد هو محور جميع الحقوق والواجبات في الوطن والمجتمع الديمقراطي، وليس الطائفة والقبيلة. ونظرًا لكون التوافقية تحتلّ موقعا فوق المجتمع والطوائف والقبائل، فإن ذلك يلغي الفرد تماما، ما يٌفقد المواطنة معناها. كما لا يكون للتنافس الديمقراطي معناه، إذ يتحول من تنافٌس على أساس برامج تتمحور حول مصالح الوطن والمواطنين، إلى تنافس داخل كلّ طائفة أو قبيلة على من سيمثلها إلى جانب ممثلي الطوائف أو المذاهب والقبائل الأخرى في اقتسام الثروات والاستفادة من الريع… وفي ظل انتشار الثقافة الطائفية والقَبَلِية ومنح البشر ولاءهم السياسي لهما، يدفع النظام التوافقي الفرد إلى التصويت في الانتخابات على مرشحي طائفته أو قبيلته وليس على برامج الأحزاب وممثليها، ما يحول دون قيام نظام سياسي حزبي تعدُّدي منفتح على جَمِيع المواطنين.
هكذا تتحول الأغلبية إلى أغلبية طائفية أو قَبَلِية، وهو ما لا يسمح بمشاركة جماعات أخرى من المواطنين في تدبير الشأن العام، ويفضي بها إلى الشعور مع مرور الزمن بأنها أَقَلِّية تتعرض للاضطهاد والإقصاء. تبعا لذلك، لا تُمَكِّن التوافقية من بناء دولة ديمقراطية قوية ومتماسكة. وخير دليل على ذلك ما وقع ويقع في لبنان والعراق وبلدان أخرى تقع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ففي لبنان، ساعد التوافق بين الطوائف على إيجاد حلّ مقبول من جميع الأطراف لإيقاف الحرب الأهلية الناجمة عن الطائفية … لكنه لم يٌمَكّـن من إضعاف الطائفية في أفق بناء دولة حديثة متماسكة ومستقلة. ونظرًا لعدم القدرة على التخلص من الطائفية السياسية، فإن الحديث عن الديمقراطية يبقى مجرد وهم يغيب معه تماسك المجتمع والدولة… أما في العراق، فقد قامت القوى العظمى بتدمير الجيش والدولة وترسيخ أسس الطائفية السياسية، ما تسبب في انشقاق المجتمع العراقي وشلِّ قدرته على الصمود في وجه الاحتلال. لذلك، عندما ينعدم تماسك الدولة والمجتمع ويغيب احتضان بعضهما للآخر، فإنهما يكونان ضعيفين وغير قادرين على إرساء ديمقراطية ولا مواطنة، بل يتحول المجتمع إلى مرتع للاقتتال بين أبنائه وجماعاته… نتيجة ذلك، حال عجز مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن التحديث والبناء الديمقراطي دون تكوين مجتمعات موحَّدَة قائمة على المواطنة التي تشكل ضمانا لذلك، إذ تكرس الطائفية والقَبَلِية الاستبداد الذي يدمِّر الأوطان…
لذلك، لا جدال اليوم في أن كلاًّ من الطائفة والقبيلة تناهضان قيام الدولة الحديثة والوحدة الوطنية في آن واحد، لأن هاتين الأخيرتين تقومان تاريخيا على أنقاض القبيلة والطائفة معا. ونظرًا لكون الدولة الحديثة هي ما يضمن الوحدة الوطنية، فإن أي عمل يرمي إلى ترسيخ الطائفية والقبلية لا يمكنه أن ينخرط إلا في مناهضة الوحدة الوطنية. فلا وحدة وطنية بدون تحديث المجتمع والدولة ودمقرطتهما، حيث في غيابهما لن تكون هناك لحمة وطنية متينة، ولا نسيج مجتمعي متماسك، ما يهدِّد الاستقرار…
وبما أن الخطاب المستنير ما يزال لم ينتشر بعد بما فيه الكفاية في هذه المنطقة، فإن الأمر قد يزداد تفاقما وخطورة. لذلك يجب القيام بتأطير فعلي للمجتمع يروم الدفاع عن المٌشتَرَكِ ويرسِّخه، ويقاوم التقسيم الطائفي والقَبَلِي الهادف إلى تجزئة المجتمعات وانقسامها وتَبَخُّرِ أوطانها، وذلك عبر الحيلولة دون هيمنة الثقافة الطائفية والقَبَلِية القابعة في ذهن أهالي هذه المنطقة ووجدانها، وتطوير بدائل ديمقراطية والعمل على تجسيدها في حركات ثقافية واجتماعية…