لقد تسبَّبت جماعات الإسلام السياسي المتطرِّفة في الحطِّ من شأن ثقافات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما تسبب في عزلة هذه المنطقة وتعرٌّضها للعديد من الكوارث والمآسي، حيث صارت هذه الجماعات المتطرِّفة تُحَرِّمُ وتحلِّلُ حسبَ ما تقتضيه مصلحتها السياسية. وهذا ما يفرض على مٌثقفي هذه المنطقة إعطاء الأسبقية لسؤال الهوية إذا ما أرادوا العمل على إحداث تحوُّل في واقعهم وتغيير تركيبة وجدانهم. لكن هل من المُجدي طرح هذه القضية اليوم، خصوصا في ظل تفتُّتِ بعض الأوطان بسبب الصراعات الطائفية والقَبَلِية وغياب مشروع تحديثي متكامل لدى بلدان المنطقة، وفي ظل طغيان الرغبة الجامحة لدى هذه الجماعات في تأجيج صراع الهوية للحصول على مكاسب سياسية هدفها تدمير الأوطان؟…
يكاد يُجمع الملاحظون على أن هذه الجماعات تُصاب بفورة هستيرية كلما سمعت كلمات حداثة أو علمانية أو ديمقراطية، خصوصا أن زعاماتها السياسية تعرف جيدا أنها هي التي قامت بالافتراء على هذه المفاهيم بهدف تشويهها، فحوَّلتها إلى “غول” ترهب به المسلمين للدفع بهم إلى الوقوف في وجه أيّٰ حركة تحديثية… ويعود ذلك إلى أنها ترى في ذلك خطرا عليها، على غرار ما كانت أمهاتنا وجدّاتنا تستعملن خرافات”ماما غولة” و”الأشباح”… لكي تخيفنا من الخروج من المنزل، وتُثْنِينَا عن مغادرته، أو عن فعل ما يُمنعُ علينا القيام به، أو لتخويفنا من العواقب الوخيمة التي قد تترتب عن عدم مراجعة دروسنا وإنجاز التمارين التي نُكَلَّف بالقيام بها في المنزل… وبذلك، اختارت هذه الجماعات مفاهيم ومبادئ وقِيَّم نبيلة شكلت تاريخيا أساس التقدم الحضاري لعدد كبير من المجتمعات المتقدمة، منذ اليونان القديمة إلى أيامنا هذه، ثم رمتها بالعديد من التهم التي لا أساس لها من الصحة، مع أنَّ هذه المفاهيم تتفق في الأساس مع روح الإسلام والمبادئ والقِيَّم الكونية المعاصرة في آن واحد. فإذا تأملنا هذا الدين بعمق اكتشفنا أنه يرفع من شأن العلم والمعرفة ويرفض الكهنوت، كما أنه لا يُفَرِّق إطلاقا بين شيوخ الطائفة ورجال السياسة أمام الله، ولا يسمح بالخلط بين مهام رجال الدين ومسؤوليات أهل السياسة في تدبير أمور الحياة الدنيا للمواطنين، إذ يشكل ذلك تحايلا على البشر، حيث يوجد لدى زعامات هذه الجماعات سوء نية يجعلها تتعامل مع البشر على أنهم قطيع، أو أشياء، أو دُمى، لأنها تعتقد أنهم لا يدركون معنى الأشياء…
لذلك تقتضي مسألة الهوية مناقشة رصينة وهادئة، ووعيا جمعيا عميقا، كما تتطلب الشروع في تنمية الوعي الوطني التاريخي… بالإضافة إلى ذلك، فمنطقة الشرق الأوسط متعدِّدَة دينيا وثقافيا وإثنيا، ما يستوجب تجنيبها السقوط في تأجيج الصراع بين مختلف مُكوِّناتها، وذلك بإيجاد صيغة تمكنها من استيعابها حضاريا عبر ترسيخ مبدأ المواطنة فيها، بغاية الدفاع عن سلامة الوطن وتأمين وحدته وتنميته…
يفيدنا تأمل تاريخ مجتمعات هذه المنطقة أن القوى الاستعمارية قد دأبت على رعاية هذه الجماعات المتطرفة وحمايتها وتمويلها… وذلك ليس حبًّا في الإسلام، وإنما للحيلولة دون ظهور أي حركية يمكن أن ينجم عنها تحوٌّل تاريخي لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يفضي بها إلى الانتقال من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة، ويرتقي بها من الذهنية الخرافية إلى التفكير العلمي، ومن مجتمع القبيلة أو الطائفة إلى مجتمع التعدُّدِية والاختلاف وتداول السلطة وحكم القانون… وهذا ما يجعل المرء يستخلص أنَّ هذه الجماعات المتطرِّفة هي “مَامَا غولة” الحقيقية والفعلية التي ذهب ضحيتها الملايين من الناس منذ عهد الاستعمار إلى غزو بعض بلدان الشرق الأوسط وتدميرها الجاري على قدم وساق إلى أيامنا هذه.
لقد تسبب الوعي الطائفي والقَبَلِي في جعل فئات من الناس يديرون ظهورهم للوطن بفعل الدوافع العاطفية والذهنية الخرافية، لكن التاريخ لا يبقى جامدا، حيث أصبحنا نشعر اليوم بأن الفئة المستنيرة في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد بدأت تنخرط تدريجيا في إحداث تحوٌّل تاريخي عبر الشروع في توجيه النقد إلى “مَامَا غولة” الداخلية التي تعتنق دينا أساسه العنف، ولا علاقة له بالإسلام، لأنه من صنع بعض معاهد الاستشراق الغربي التي توصَّلت إلى ضرورة توظيف العوامل الطائفية والقبَلِية لتفتيت كيانات هذه المنطقة، فأنتجت خطابا عنيفا أطَّرَت به زعامات هذه الجماعات، فجعلتها تٌصَدِّقُ، عن وعي أو عن غير وعي، هذا الفهم المنحرف – أو المُحَرَّف بالأحرى – للإسلام وتؤمن به، فاعتبرته هو الدين الحق، فسقطت في ادِّعاء احتكار فهمها للعقيدة، وتوهَّمَت أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، ولا ترى أي تغيير مناقض لأفكارها، فحذفت المستقبل لتعيش في الماضي، لأنها ملتزمة بفكر القرن الثالث عشر الذي غاب فيه الاجتهاد الهادف، وساد النكوص… وهذا ما يفسر استغراق هذه الجماعات المتطرِّفة في العمل على فرض فهمها هذا للإسلام على الآخرين بالقوة، وسَحب الماضي على الحاضر وإسقاطه عليه، فأصابها شَبَقٌ السلطة بغرور مٌتَوٓرِّم، وصارت لا تتردد في التضحية بالأوطان في سبيل إقامة الخلافة التي لا تخدم إلا أهداف بعض القوى العظمى الرامية إلى تفجير الأوطان!!…
هكذا سقطت مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في براثن “ماما غولة” الفعلية بسبب العوامل الثقافية التي تمَّ بها تنظيم فكر وعواطف شعوب هذه المنطقة التي أصبحت تميل إلى المبالغة والتضخيم والحماسة والانفعال، وهي عواطف تعوق استعمال العقل وتٌعَطِّلٌه وتحول ضد التحديث والبناء الديمقراطي والوحدة الوطنية والاستقرار…
لذلك لا يمكن مواجهة الإرهاب التكفيري عن طريق الحلِّ الأمني فقط، بل يجب مواجهتهم فكريًا، ما يستوجب إنتاج معارف حول ذاتنا في جميع الحقول المعرفية للتخلص من السيناريو الثقافي الذي وُضِع لنا من قِبٓل بعض القوى العظمى، ما سيٌمَكِّنٌنا من إنتاج معرفة حول “ماما غولة” الفعلية التي تتلاعب بعواطف المغاربة، خصوصا أنه بدأت تتشكل اليوم أَنْوِية مجتمعية تسعى إلى إحداث إصلاح وقائي بهدف ضبط المفاهيم والمصطلحات عبر توضيح معنى الأشياء، ووضع حد لتعامل هذه الجماعات مع البشر على أنهم قطيع ودٌمى! ويستلزم ذلك خطة توعية وطنية شاملة، يدخل ضمنها إصلاح مؤسسي وسياسي وثقافي وتعليمي واقتصادي، واستيعاب الشباب، والقيام بحملات إعلامية لنشر ثقافة التنوير وحقوق الإنسان… ولا يمكن إنجاز ذلك إلا بانتهاج أسلوب علمي منظم يُمَكِّن المواطن من فهم سليم للدين والتخلص من العقلية الخرافية المناهضة للعقل التي لا ينجم عنها سوى الاستسلام والخضوع…

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…