الحديث عن أمثال عمر بنجلون يقتضي استحضار عدة مقتربات، وكل مقترب يستلزم شتى الاعتبارات، وكل اعتبار ينحو مناحي دون الإلمام بتشعباتها خرط القتاد كما يقال- ثم إن الحديث عنه وعن أمثاله سهل وصعب في ذات الوقت، سهل لأن أمثاله قلة، وصعب لأنهم على قلتهم أفراد ازدحمت في هويتهم عدة كينونات والتأمت في شخوصهم كم من قيم، وتقاطعت في سيرة حياتهم وقائع وأحداث، وتباينت بشأن سيرهم أحاديث وكتابات، ذلك لأنهم رجال عظام بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف أو حتى الخلاف معهم، وهنا تكمن صعوبة الحديث عن عمر بنجلون، ومع ذلك، كان من حقه علينا تذكره بمناسبة أو غير مناسبة، تذكر أنه استشهد وهو يناضل من أجل حق شعبه في الحرية والعيش الكريم، ومن أجل حق فلسطين في الخلاص من الاحتلال الاستعماري الصهيوني، ومن أجل حق الشعوب المضطهدة في التحرر والانعتاق. ثم تذكر أنه استشهد وهذه الحقوق لم تنل بعد، وأن رفاقه عاهدوه على الاستمرار في درب النضال حتى النصر… هذا أقل آية من آيات الوفاء لهذا المناضل الشهيد…
أول لقائي بالمرحوم عمر بنجلون في صيف 1959 عندما حل بوجدة قادما إليها من «بركنت» عين بني مطهر حاليا، وكان آنذاك يزاول دراسته الجامعية بفرنسا، وفي نفس الوقت يقضي فترة تكوين كإطار من أطر ن حزب الاستقلال، وبما أن أغلب الحاضرين لم يكونوا يعرفونه فإن الذي تولى أمر التقديم هو المرحوم الراشدي بنعامر من مناضلي الحزب في قرية «بركنت» عين بني مطهر، وبعد التقديم وجه إلينا أسئلة في شأن وضعية الحزب من حيث الإقبال، والتنظيم والمشاركة، كان معظم حديثه باللغة الفرنسية وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصطلحات سياسية لم نعهد سماعها من قبل، لأن أغلبنا لم يكن يتقن الفرنسية، وبدون مقدمات انساب حديثه إلى قضايا وطنية ودولية بعربية دارجة تتخللها مصطلحات وعبارات بالفرنسية كنا نفهم بعضها، ونجهل أكثرها، ولكن المهم أننا قضينا معه وقتا ممتعا، هو مزيج من الجد، والنكت، وهو جانب رافق المرحوم إلى آخر رمق من حياته…حدثنا عن نشاط الطلبة المغاربيين في فرنسا حيث كان إذاك رئيسا لاتحاد طلبة شمال إفريقيا، وحدثنا عن الإقبال الذي شهده الحزب في فرنسا، وعن قضايا عربية كانت وقتها مثار نقاش خاصة الوحدة بين مصر وسوريا وهذه هي النقطة التي أثارت جدلا بين المرحوم وبين بعض الإخوة الحاضرين.
الموقف من الناصرية..
لم يكن عمر ضد فكرة الوحدة، ولكن ضد الطريقة والكيفية التي تمت بهما، كان رحمه الله متأثرا بأدبيات اليسار الفرنسي الذي كان له موقف خاص من القضايا العربية ولاسيما الناصرية، وكان جلنا إن لم أقل كلنا ناصريين مما أفضى إلى نقاش حاد لم ينهه إلا وفود الأخ الزبير وهو الأخ الأكبر لعمر وإخباره بأن موعد العودة إلى بركنت قد حل، وافترقنا على أساس أن يعود مرة أخرى لإتمام المناقشة…
وما أن غادرنا المرحوم حتى انهالت الملاحظات من لدن الإخوان عما سمعوه ولاسيما ما يتعلق بموقفه من الناصرية، ومع ذلك كان ضمننا من التمس له العذر لكونه مازال متأثرا بما يروج في الديار الفرنسية عن طريق المعاشرة ووسائل الإعلام…
ولم يمض أسبوع حتى فاجأني بزيارة في المنزل مصحوبا هذه المرة بأخيه الزبير والذي كان من مسؤولي فرع الحزب ببركنت «عين بني مطهر» ومن البداية سألني عما إذا كان حديثه في اللقاء السابق قد «جرح» أو «اغضب» الإخوان، فأجبته بالعكس، فإن الأخوان اختلفوا معك، وأبدوا بعض الملاحظات بعد انصرافك، ومع ذلك فإن الانطباع الذي خرجوا به هو أنك «مهدي صغير» مع فارق سيزول عندما تعود إلى المغرب إنشاء الله. ولقد ازداد هذا الانطباع لدى غالبية المناضلين الذين رافقوا الشهيدين في الحقل الحزبي.
تبسم عمر وقال «هيهات، إن المهدي من الرجال الذين لا يتكرر وجودهم» قالها بالفرنسية وأعادها بالدارجة، فماركس لن يتكرر، كما لا يتكرر أشخاص من عينات ماركس كلينين وتيتو، وماو… وقاطعته: وعبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي، وعبد الناصر وأكد هذا بقوله وهؤلاء أيضا، ولما لاحظ أني زكيت رأيه أضاف: وكيف تعتقد أن المهدي سيتكرر؟ هذا مستحيل، قالها بالفرنسية، فاستدركت: على كل حال إن فيك ملامح من صفات المهدي وهذا لا يعني أنك نسخة طبق الأصل من الرجل…
ومازلت أتذكر بعض الإشارات التي كان يتضمنها حديثه كلما تعلق الأمر بالحديث عن شخصية وطنية، إشارات تنم عن سلامة طويته ونبل أخلاقه، ومما مازال عالقا في ذهني هو تعليقه بشأن هجوم بعض الإخوان على علال الفاسي في اللقاء المذكور، فقد قال لي: إياك يا السي محمد والنيل من سيرة الرموز الوطنية مهما يكن اختلافك معهم، مثلما سمعته في اللقاء السابق من بعض الإخوان، فعلال مثلا يبقى زعيم الحركة الوطنية وإن اختلفنا معه اليوم. وكمثال على ذلك فإن المارشال دوكول محررفرنسا بالنسبة لكل الفرنسيين مهما تباينت توجهاتهم، وحتى إذا انتقدوا سياسته فلا يجرؤ أحد على تجريده من زعامة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني. ولم يفته في هذه الزيارة أن ينصحني بالمزيد من تعلم الفرنسية فالمناضل لا غنى له عن هذه اللغة للاطلاع على أمهات المؤلفات في علم السياسة وروافدها.
ومضت سنة قبل أن ألتقي به عندما عاد من فرنسا لقضاء عطلته كعادته كل سنة، وفي هذه المرة كانت الجامعات المتحدة قد شكلت مع عناصر من حزب الشورى والاستقلال ومن الحركة الشعبية تنظيمات أطلق عليه اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك في السادس من شهر سبتمبر 1959 (06/09/1959) وفي هذه المرة رجوته ألا يثير موضوعات قد تسبب مشاكل نحن في غنى عنها هذه المرحلة على الأقل، لأن الحزب في تركيبته الجديدة عبارة عن خليط من الناس وإن اتفقوا بشأن أهداف الحزب فإن وجهات نظرهم لا تلتقي بشأن قضايا أخرى، وبدل ذلك ننظم لقاء تحضره أطر الحزب على أن يتم هذا في الأسبوع المقبل، ابتسم كعادته ووافق.
ولما كان مقر الحزب لا يتسع لهذا اللقاء تم الاتفاق على عقده في بورصة الشغل مقر الاتحاد المغربي للشغل (UMT) وأن يكون الموضوع بعنوان «العلاقة بين الحزب والنقابة»، وقد ساد الاعتقاد إذاك بأن تعليمات أعطيت للمسؤولين في الاتحاد المحلي من القيادة للتشويش على اللقاء أو على الأقل على إفشاله. ولم يتردد أعضاء المكتب المحلي في تنفيذ العمليات رغم أن عددا منهم كان ممثلا في الكتابة الإقليمية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولكنهم لم يمنعوا اللقاء ولكن مسلكهم كان أخطر من المنع، من ذلك أنهم لم يوجهوا الاستدعاءات إلى الأطر النقابية، ولم يساعدوا على تهيئ القاعة موضع اللقاء.
كان اللقاء ناجحا رغم ذلك بالنظر إلى موضوعه والنوعية التي حضرته، فقد استغرق الموضوع ساعتين تقريبا توج بنقاش حاد تمحور حول جوانب تتعلق باستقلالية النقابة وديموقراطيتها الداخلية وبدورها من التوعية السياسية وبضرورة انحيازها للأحزاب ذات التوجه التقدمي، لقد تناول المرحوم عمر بنجلون من جانبه الطبيعي من حيث أن نقابة العمال تمثل طبقة مستغلة (بالفتح) لا مناص لها من الصراع ضد الطبقة المستغلة (بالكسر) وبما أن الحزب الذي يناصر طموح الأولى لا يمكن إلا أن يكون تقدميا بينما الذي يعاضد الثانية على العكس من ذلك، والموقف المنطقي لنقابة العمال هو الانحياز للحزب التقدمي. إلا أن هذه الرؤية لم ترق بعض الأطر النقابية ممن كانوا ينتمون إلى أحزاب يمينية من استقلاليين وحركيين قبل ظهور التعدد النقابي، وقد حاول المرحوم إقناعهم ليس فقط برأيه، بل وأنهم ضد مصالحهم واعتبارهم كادحين مناصرين لأحزاب هي بالأساس في خدمة الطبقة التي تستغلهم… وإذا لم يرق هؤلاء انحياز المحاضر للتقدمية، فإن هناك من لم يعجبه ما جاء في حديثه من إشارات في شأن هيمنة البيروقراطية على العمل النقابي وانعدام الديموقراطية في اختيار المسيرين، ومن هنا كانت البداية، بداية دخول المرحوم عمر بنجلون في معترك المتاعب التي ستنتهي في آخر المطاف إلى اغتصابه والمغرب على أهبة الانتقال إلى مرحلة جديدة، ولعل المخططين لها تيقنوا أن العقبة التي «ستشوش» عليهم هي: المرحوم عمر. فليكن عمر إذن ضحية هذا الانتقال…
ولم تكن هذه النهاية بدون مقدمات، فمنذ استقرار المرحوم بالبلاد كإطار من الأطر العليا للدولة اختار أن يناضل إلى جانب الطبقة العاملة، فلم يغره منصبه كمدير إقليمي للبريد ولا الامتيازات التي يحظى بها أصحاب مثل هذه المهام، بل انخرط مباشرة في العمل الحزبي والنقابي مخططا وموجها ومكونا، مالئا بذلك، بعض الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمرحوم المهدي بنبركة.
سفير الوجديين..
وكان حظ المنطقة الشرقية من جهود عمر رحمه الله وتضحياته متميزا لدرجة أن بعض الحزبيين صاروا ينعتونه ب»سفير الوجديين» لدى الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفعلا كان الأمر ذلك بحيث كان لا ينفك عن زيارة وجدة لإنجاز مهمة حزبية، أو القيام بعمل مهني، أو زيارة الأهل والأقارب بمسقط رأسه بركنت… وفي كل هذه المناسبات كان يخصص وقتا للاتصال بمناضلي الحزب والنقابة بوجدة إما في اجتماعات مهيأة «رسمية» أو أخرى مفتوحة، أو سهرات خاصة كتلك التي كنا نقضيها في بيت من بيوتات المناضلين. أما الاجتماعات «الرسمية» والمهيأة فكانت تخصص لتداول ما كلف المرحوم بتبليغه إيانا من طرف الكتابة العامة وغالبا ما كانت تتمركز حول جوانب تنظيمية وتوجيهية، والحق أننا -بحكم مستوانا في الثقافة والسياسة إذاك- لم نكن نتمثل بعض التفاصيل والخلفيات والأبعاد التي تتضمنها الموضوعات الموكل إلى المرحوم طرحها في الاجتماع بنا لولا حضوره وتوليه التوضيح والتعليق، وسوق الأمثلة تماما لو كنا أمام معلم أو أستاذ، كان بارعا في هذا الجانب، لدرجة أنني قلت له مرة: لماذا اخترت العمل في البريد؟ كان الأحرى بك أن تكون أستاذا فأنت تتوفر على الكثير من المواصفات المطلوبة في مهنة «الأستاذية»، ابتسم قبل أن يعقب على ملاحظتي «كنت أتمنى ذلك، لكن أتدري ما سبب عدم انخراطي في سلك التعليم؟» قلت: أخبرني، قال: «التحضير والتصحيح يوميا»، قاطعته: وماذا في ذلك؟ قال: «لقد اخترت طريقا للنضال لا يتلاءم مع الأعباء اليومية للمدرس، وذلك لأنها ستستغرق وقتي وتقيد من حريتي في التحرك، أفهمت؟» أجبت: تقريبا، ثم أردف: «وبيني وبينك لا أنوي الاستمرار في سلك الوظيفة، وإلا ما حملني على دراسة القانون؟» وهنا فهمت أن عمر ينوي احتراف السياسة، وأن المهنة الأكثر ملاءمة لهذا الاحتراف، هي: المحاماة… واستفهمته عما إذا كان له الحق في التخلي عن وظيفته كمدير إقليمي للبريد خاصة وأنه قد التزم بالعمل بها لمدة لا تقل عن ثماني سنوات، أجابني بسرعة: «المسألة ليست بهذه الصعوبة كما تعتقد، سأعرف كيف أجعلهم يستغنون عني بأسرع مدة». وهنا تأكدت أنني أمام إنسان طموح همه الأول أن يكون مناضلا سياسيا ونقابيا قبل أي شيء آخر، ليس هذا وحسب، بل وأنني أمام مناضل لا يهمه الموقع الذي يحتله في أجهزة الحزب أو النقابة، بل كل همه كان منصبا على التوعية والتنظيم والتوجيه أنى ما كان وحيثما كان، فإلى حدود المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يكن مسؤولا في أي جهاز من أجهزته الإقليمية أو الوطنية بحيث لم يصبح عضوا في لجنته المركزية إلا ابتداء من هذا المؤتمر، ومع ذلك استطاع بفضل مستواه الفكري والسياسي، وقدرته الفائقة على التحليل والمبادرة، قبل هذا وتلك ما كان يتميز به من الحيوية والدينامية الدائبتين.
أما الجلسات المفتوحة فكنا نعقدها في مقر الحزب ويشترك فيها كل من وجد فيه حينها ولو لم يكن منتميا للتنظيم من المؤلفة قلوبهم ومن أصدقاء وزملاء… كان عمر معروفا لدى الكثير من أبناء المدينة ممن درسوا معه أو من موظفي وزارة البريد… وتعتبر هذه الجلسة مناسبة لإجراء حوار مفتوح، يتولى فيه مسؤولو الحزب وفي مقدمتهم عمر توضيح بعض القضايا التي كانت مثار نقاش تلك الفترة مثل سبب الانفصال عن حزب الاستقلال وموقف الاتحاد من الدين ومن الملكية، وعلاقة الحزب بالنقابة، وغير ذلك من القضايا ذات الصلة بالوضع في البلاد إذاك، وكان لعمر صولات وجولات في النقاش تارة بعربية دارجة مشوبة بألفاظ وعبارات بالفرنسية، وطورا بالفرنسية وذلك عندما يلاحظ أن من بين الحاضرين «مفرنسين» لأن متعلمي الجهة الشرقية إما «معربون» مائة بالمائة أو «مفرنسون» مائة بالمائة، أما مزدوجو اللغة Bilingues فأقلية قليلة. ومن الملاحظ أن تفاهم عمر مع المفرنسين ومزدوجي اللغة كان أكثر من تفاهمه مع «المعربين»، وهم الأكثر تواجدا في الحزب، كان ذلك في السنوات الأولى من استقراره بالمغرب بعد إنهاء دراسته في فرنسا، كان رحمه الله يشتغل بالفرنسية حديثا وكتابة، كل كتاباته وتقاريره منجزة بالفرنسية التي كان يتقنها أكثر من الفرنسيين كما عبر له بذلك أحد زملائه. وكان أحيانا يحرر تقريرا أو مقالا باللغة الفرنسية، ثم يحيله على من يقوموا بتعريبه وهكذا إلى أن اعتقل يوم 16 يونيو 1953 إذ تمكن وهو في السجن من التعاطي للغة العربية التي لم يجد صعوبة في تحقيق تقدم ملحوظ سواء في الكتابة أو التعبير، اللهم إلا فيما يرجع للقواعد النحوية والإملائية، فهذا جانب كان يستعين بذوي الاختصاص بشأنه كلما توقف على ذلك… وما أن أطلق سراحه عام 1965 حتى أحرز تقدما هائلا في هذا المجال، فقد أصبح يعتمد على نفسه في تعريب كتاباته، بل وكثيرا ما كان يحرر تقارير ومقالات بالعربية.
الوجه المرح لعمر..
ومما مازالت أتذكره بشأن هذا الموضوع أنني في إحدى الزيارات التي اعتدت القيام بها كلما حللت بالبيضاء كنت أقرأ جريدة بينما كان منكبا في ترجمة افتتاحية أول عدد من جريدة فلسطين (لا أذكر تاريخ اليوم) وإذا به يضرب بقبضة يده على الطاولة التي كان يكتب عليها، ولما سألته عن سبب ذلك، أجاب ألم أقل لك: إن العربية لغة متخلفة؟ فاستفهمته، وأجابني: إنني أبحث عما يقابل كلمة Compris باللغة العربية فلم أجدها، قلت: اسمعني العبارة فقرأها، قلت له: إنها تعني قاطبة، أو بما ذلك، فأخذ يردد قاطبة، بما في ذلك، إلى أن نطق بعبارة إن الشعب المغربي قاطبة يقف إلى جانب الثورة الفرنسية، ثم أردف: إذن الترجمة المناسبة للكلمة هي «قاطبة» ولما أنهى تعريب الافتتاحية بادرني قائلا: الواقع يا السي محمد أننا نظلم اللغة العربية حيث نتهمها بالقصور، والحقيقة أن أهلها هم المقصرون… «أعدك أنني سأبذل جهدي لتدارك نقصي فيها» وهذا ما وقع بالفعل، فقد تمكن من تحسين مستواه في اللغة العربية لدرجة أنه صار يحاضر ويكتب بطلاقة وسلاسة باستثناء بعض الهفوات النحوية والإملائية كما أشرت إلى ذلك من قبل.
وكل من عاشر عمر عن قرب يكتشف فيه الشخص المرح صاحب نكت ونوادر، وهذا ما كان يخص به أقرب معارفه، ففي الجلسات الخاصة التي تتم كما أسلفت في بيت من بيوت المناضلين أو الأصدقاء كنا نجد أنفسنا إزاء عمر آخر، فما شئت من نوادر ونكت، وما شئت من أهازيج وأغنيات، وفي هذا الصدد أذكر كمثال فقط بعض النكت التي رواها لنا: في إحدى مباريات كرة القدم سجل هدف، ووقع الاختلاف حول مشروعيته، والتف اللاعبون حول الحكم، فسألوا أحدهم عن رأيه فأجاب: «إلى زيت تسوف بيت» (أبدل الجيم زايا، والشين سينا باللهجة المكناسية) وما كاد يجيب حتى صاح في وجهه لاعب آخر «ماذا تقول؟» وهنا أجاب الحكم «أولى زيت تسوف ماشي بيت»(بالمكناسية أيضا)، وروى لنا نكتة أخرى مضمنها «أن مجموعة من المجندين حضرت إلى الثكنة، وفي الباب شرع أحد الضباط في المناداة عليهم للتأكد من هويتهم فنادى على اسم «بوعزة الدكالي» فأجاب: بريزا (وقالها حافية) وعلى اسم: بنيونس بن عبد القادر فأجاب: «Présent مال امك» وعلى اسم يعقوب بن شمعون فأجاب: «بريزا تعبي باسي»، وعلى اسم محمد ولد البهجة الذي أجاب: «بريزا انعام السي» ثم على اسم: عبد السلام برادة فأجاب: «بريزا او ما كان غيريزا، او ما جينا هنا غير باش تكونوا بريزا أو عاش الملك».
ومن النكت المروية عنه، أن رجلا كان مدينا لآخر، ومنذ أن استدان منه لم يره، ومرت شهور وسنوات دون أن يبدو له أثر، وذات يوم كان يسير في الطالعة الكبرى في الاتجاه الصاعد، فرأى غريمه آتيا من الاتجاه المعاكس في نفس الطالعة، ولما رآه عرج نحو زقاق متفرع منها، فجرى وراءه وهو يصيح «أولي استغفر الله واش اخباغك (اخبارك»(
والذين يعاشرون عمر بنجلون عن قرب أيضا يكتشفون فيه إنسانا عاطفيا ذواقا للموسيقى والطرب، ففي الجلسات الخاصة أيضا نجد أنفسنا أمام مقلد لبعض المغنين الفرنسيين مثل تنينو روسي، والعرب كفريد الأطرش وإذا نسيت أغاني الأول فمازلت أتذكر أغاني الثاني التي كان يغنيها في جلساتنا الخاصة ولاسيما أغنية «يا نسمة»، وأغنية «يا زهرة في خيالي»، وأخريات لا أذكرها، وهي كلها كانت توحي بأن عمر كان يستحضر لحظات عاطفية وهو يؤديها، أقول هذا عله يمحو ما علق في أذهان البعض من دعايات وإشاعات تهدف إلى النيل من نضالية عمر بنجلون وإنسانيته، فعمر رحمه الله نموذج للإنسان المتخلق المتأجج حنوا وعاطفة، ذي المشاعر المضمخة بالأريحية والنبل والمفعمة بالوفاء والمروءة، تتجلى هذه القيم في علاقاته مع معارفه، فمنذ تعارفنا إلى يوم استشهاده أي على مدى ست عشرة سنة لم يبدر منه ?على ما أعلم- إلا ما يؤكد أنه شخص على خلق كريم، وما كان يشدني إليه هو علاقته الوطيدة بأفراد عائلته، فرغم بعد الدار البيضاء حيث مقر إقامته لم يكن يتوانى على زيارة مسقط رأسه بركنت حيث كانت تقيم عائلته. كان شديد التعلق بأفراد عائلته وأمه على الخصوص، وكان وفيا لأصدقائه القدماء، ومخلصا لرفاقه في النضال، ومحترما للرموز الوطنية، وعلى علاقة ودية مع الفاعلين السياسيين من مختلف التوجهات، هذا ما عاينته من خلال مرافقتي، فعند زيارته لقرية عين بني مطهر لا ينسى أن يبحث عن أصدقائه القدماء وأحيانا يدعوهم إلى منزل عائلته فيقضي معهم طيلة مدة تواجده في القرية لا فرق بين عاليهم وسافلهم، عاملهم وعاطلهم، فالكل لديه سواء يكن لهم التقدير والاحترام يبادلهم الجد والهزل، ويذكرهم بأيام زمان، وكثيرا ما لاحظت عليه علامات التأثر لحال بعضهم، فيخرج من الحجرة ولا يعود إلا بعد فترة يتمكن فيها من مغالبة دموعه، ونحن في الطريق مغادرين «بركنت» يعبر عن شعوره نحو وضعية «هؤلاء المساكين» ثم يستغرق المسافة بين القرية ووجدة في أحاديث لا تخرج عن انتقاد الوضع السائد في البلاد سياسيا واقتصاديا… وهكذا إلى أن نصل إلى مقر سكناي حيث يتركني ويستأنف السفر متوجها إلى الدار البيضاء ولا أطمئن إلا إذا هاتفني ليخبرني أنه وصل بسلام.
كان عمر مراقبا من عدة جهات كما هو الشأن بالنسبة لباقي مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكثيرا ما لفت نظره وألححت عليه بعدم السفر وحده، ولكنه يجيبني دائما بعد أن يبتسم، ألا يقول محمد عبد الوهاب «اللي على الجبين لازم تشوفو العين»، فأجيب بلى، فيرد، «إذا فلم الخوف مادام هناك موتة واحدة»، فأعقب، وهناك مثل آخر يقول: «الحيطة من الفطنة»، فيرد: «لا تخف فهم يراقبونني وفي ذات الوقت يحرسونني»، فأقول: كن حذرا فاليوم حراسة وغدا قد يغدرون بك، إنه البوليس وأجرك على الله. ولكن كيف تقنع شخصا آمن بقضية، ولم يعد يبالي بأي محظور، لقد ملأ قلبه انشغاله بهموم شعبه وأصبح متفانيا في أداء رسالته شأنه شأن الصوفي لا مجال للخوف لديه، فقلبه مفعم بالاطمئنان ولهذا عاش مطمئنا إلى أن غادر الحياة مطمئنا بعد أن ترك بصماته في سجل التاريخ النضالي لحزب القوات الشعبية.
المجال الحزبي والمجال النقابي..
فمنذ عودته من الديار الفرنسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك وهو منشغل بمجالين، المجال الحزبي والمجال النقابي، فبالنسبة للأول مازلت أتذكر بعض المحطات التي كان له فيها حضور متميز: المحطة الأولى، ومناسبتها الاستفتاء على الدستور الأول عام 1962 فمن المعلوم أن مسألة الدستور طرحت بحدة من طرف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ابتداء من ربيع 1961 على ما أذكر، وذلك في اجتماع الكتاب العامين للحزب، ولازلت أستحضر وقائع هذا الاجتماع وخاصة العرض الذي تقدم به الأستاذ عبد الهادي بوطالب، وتعقيب الأستاذ أحمد بنسودة، والمناقشة التي جرت، والموقف الذي اتخذ بشأن الدستور. كان العرض والتعقيب رائعين جمعا بين منهجية الأستاذ عبد الهادي بوطالب وسخرية الأستاذ احمد بنسودة، وللحقيقة أشير إلى أنه لأول مرة استمعت إلى «شبه محاضرة» مفصلة عن الدستور ولربما نفس الأمر بالنسبة للكثير من الحاضرين في الاجتماع، ومما أثرى عرض بوطالب وتعقيب بنسودة ومداخلات بعض الحاضرين وخاصة المرحوم عمر بنجلون، لقد تميز تدخله رغم صعوبة التعبير بالعربية التي كان يعاني منها، بالوضوح والدقة، بتضمنه إضافات مهمة على ما جاء على لسان الأستاذين بوطالب وبنسودة، وأتذكر أن الموقف المتخذ في الأخير هو المطالبة بانتخابات مجلس تأسيسي لوضع الدستور، ثم عرضه للاستفتاء الشعبي، وكان لعمر وبعض رفاقه دور متميز في الدفع في هذا الاتجاه، وهذه أيضا محطة كان لها ما بعدها بالنسبة لمصير عمر… ويحدد موعد إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور يوم 7 دجنبر عام 1972 ويقرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مقاطعته، ويتولى المرحوم عمر الإشراف على تنظيم عملية المقاطعة بالجهة الشرقية، ويتخذ من مقر مكتب فرع وجدة مركزا لتفعيل أجهزة الحزب وتعبئة أطره، ومما ساعد على إنجاح هذه العملية تنظيما وأداء هو أنه بمجرد الإعلان عن موقف الاتحاد من الدستور ومقراته وخلاياه بإقليم وجدة (كان إقليم وجدة إذاك ممتدا من بركان إلى فجيج على طول أربعمائة وستين كلم من الشمال للجنوب ومن وجدة إلى تاوريرت على طول مائة وعشرة كلم من الشرق للغرب)، بحيث كان على مناضلي الحزب أن يجوبوا مناطق متباعدة ذات المسالك الوعرة ويجتازوا هضابا وصحارى حيث لا طير يطير ولا وحش يسير، ليصلوا إلى قبيلة أو عشيرة قد لا يتعدى عدد المتواجدين بها أصابع اليد – كما يقال- إضافة إلى قلة الوسائل وإكراهات أخرى ناجمة عن موقف السلطة من الاتحاد لاسيما في القرى والبوادي، ومع ذلك تمكن الحزب من تغطية أغلب مراكز المنطقة وذلك بفعل تعبئته لكافة أطره ومناضليه وحنكة المرحوم عمر بنجلون وحيويته، وإن نسيت فما نسيت تلك الحملة التي نظمها الاتحاد لمقاطعة الاستفتاء على مشروع الدستور. وإذا كانت سائر المحطات التاريخية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثرية بالعطاء والمبادرات والتضحية، فإن مناسبة الاستفتاء على مشروع الدستور عام 1962 تعتبر علاوة على ذلك محطة احتد فيها الصراع بين النظام والحزب من جهة، وأعلن عن تباين في الواقف بين هذا الأخير وقيادة الاتحاد المغربي للشغل، فكان على مناضلي الحزب أن يواجهوا قمع النظام من جهة ودعوة النقابة للتصويت بلا على الدستور من جهة أخرى، إنها بالفعل محطة امتحان لمدى قدرة أطر الحزب ومناضليه على المواجهة والصمود.
مقاطعة الاستفتاء؟..
وبالنسبة لإقليم وجدة، لم نجد أي صعوبة في التنسيق مع النقابات، لأن معظم أطرها كانوا منتظمين في الاتحاد الوطني بل وكثير منهم كانوا مسؤولين إما في الكتابةالإقليمية أو مكاتب الفروع كما أن عددا من أطر الحزب كانوا مسؤولين في الأجهزة النقابية وهذا ما خلق انسجاما بين الأطر الحزبية والنقابية ما عدا بعض العراقيل من هذا أو ذاك لم يكن لها تأثير على سير الحملة في الظاهر على الأقل. من ذلك أننا عقدنا اجتماعات تنظيمية وتجمعات موسعة في برص الشغل بمساعدة الأطر النقابية المتحزبة منها على سبيل المثال التجمع في بورصة الشغل بوجدة ألقى فيه المرحوم عمر عرضا في موضوع الدستور خلص في نهايته إلى موقف الاتحاد منه. ومما لازلت أتذكره، سؤال وجه إليه من لدن أحد الحاضرين وهو من أعضاء الكتابة الإقليمية للاتحاد الوطني إذاك، فكان السؤال «ما هو الدستور الإسلامي؟» وبسرعة قاطعه عمر: الإسلام ليس له دستور، ولما كنت إلى جانبه قلت له همسا، قل القرآن، ولم يفعل وعندما بادره السائل: والقرآن؟ أجاب عمر بحدة «بنرفزة» القرآن ليس بدستور. وهنا غضب السائل وانسحب من القاعة وتبعه بعض الحاضرين، وتابعنا المناقشة وخلالها اغتنم المرحوم الفرصة لشرح معنى الدستور كمصطلح ليخلص إلى أن الفرق بين الدستور والقرآن هو أن الأول قانون وضعي يسري على الجميع كيفما كانت ديانتهم، بينما القرآن لا يخضع لأحكامه إلا المسلمون، وكانت «تخريجة» ذكية جنبت ما كان يمكن أن يترتب عن الجواب الأول من تأويلات وردود أفعال يستغلها خصوم الاتحاد وتثير البلبلة في صفوفه لاسيما بالنسبة للمؤلفة قلوبهم، وما أكثرهم في تلك الحقبة! وقد كلفتنا هذه «الفلتة العمرية» وقتا طويلا لإقناع المنسحب وهو عضو له سمعة طيبة في أوساط معارفه وداخل الاتحاد كذلك، فعادت المياه إلى مجاريها كما يقال… وبقدر ما كانت هذه المحطة التاريخية مليئة بالمتاعب والمشادات بين أجهزة القمع والأحزاب الموالية للنظام المؤيدة للدستور من جهة، ومناضلي الاتحاد الوطني من جهة أخرى، كانت مدرسة للتعبئة واكتساب الخبرة النضالية، وللتكوين النظري من خلال الحلقات التي لم تنقطع طيلة فترة الحملة تنظيما وأداء، وبعدها تحليلا وتقييما، وكان لعمر رحمه الله الدور البارز في التخطيط لها وفي الشرح والتوضيح بل والتحريض وصياغة شعارات الحملة الدعائية ضد مشروع الدستور، إذ لم يترك فرعا من فروع الاتحاد في المنطقة الشرقية إلا وترأس فيه مهرجانا لفضح مثالب المشروع ومخاطره على مصير البلاد، مما زاد في تضخم «ملفه الأسود» لدى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وهذه محطة أخرى تنضاف إلى سابقاتها لتقوم مؤشرا على أن الرجل «رقم» لا ينبغي الاستهانة به في معادلة الصراع القائم بين المعارضة والنظام. ويفرض الدستور، ويحتد الصراع بين قوى التقدم والديموقراطية متجسدا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبين الحكم الفردي الاستبدادي المسنود بقوى الرجعية ودعاة التخلف، ويبلغ هذا الصراع أوجه بمناسبة إجراء انتخاب أول برلمان في المغرب. إنها محطة كشف فيها كل طرف من أطراف الصراع أوراقه، كان يبدو من مقاطعة الاتحاد للاستفتاء على مشروع الدستور أنه سيقاطع الانتخابات التشريعية التي تجري في ظل تطبيق أحكامه وخاصة الانتخابات التشريعية، وهذا هو الموقف الطبيعي الذي استقر عليه رأي أغلبية المناضلين منذ الاستفتاء على مشروع الدستور بتاريخ 7 دجنبر 1962، كان فرع الاتحاد بالبيضاء يتوفر على مناضلين كبار أمثال عمر وباهي قبل انتقاله للجزائر، وعمر المسفيوي، البشير الفجيجي وعبد الله بومهدي ومبارك خليل، ومحمد الفاروقي، وبوشعيب الحريري، وأحمد شاكر… وهؤلاء كانوا علاوة على علاقتهم كحزبيين كانت تربطهم صلة الصداقة بكثير من المناضلين في الأقاليم، مما جعل منهم مجموعة مؤثرة ليس على سير الحزب بالدار البيضاء وحسب، بل وعلى سيره على الصعيد الوطني أيضا، وكان عمر بنجلون والبشير الفجيجي هما البارزان في هذه المجموعة إلا أن عمر كان أكثرهم حيوية والأوفى دورا في المجال التنظيمي وفي حقل المبادرات.
وبحكم علاقتي بعمر خاصة كنت كثيرا ما أصحبه لحضور لقاءات ينظمها أفراد هذه المجموعة على هامش الاجتماعات الحزبية. يتداولون فيها قضايا تهم سير الحزب ومواقفه، ومما أذكره أن آخر لقاء حضرته كان في شهر مارس عام 1963 وهو اللقاء الذي فهمت منه أن «المجموعة» تهيئ لإقناع أعضاء الكتابة الإقليمية بفكرة مقاطعة الانتخابات التشريعية، وفهمت أيضا أن هناك اتجاهين داخل الاتحاد يتبنى أحدهما المقاطعة انسجاما مع موقف الحزب من الدستور، بينما يحبذ الآخر المشاركة حتى لا يستغل الخصوم خلو البرلمان من الاتحاديين فيعبثوا بمصالح البلاد… وسيتضح ذلك في اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في شهر أبريل 1963 على ما أذكر…
ومازلت أذكر أنني كنت من المؤيدين لفكرة المقاطعة وأن غالبية المناضلين بوجدة كانوا مقتنعين بنفس الموقف، وأذكر أنني وأنا أتهيأ للسفر إلى الدار البيضاء لحضور اجتماع اللجنة المركزية وكتاب الأقاليم في شهر أبريل عام 1963 بعد تحديد يوم 17 ماي 1963 موعدا لإجراء الانتخابات التشريعية، اتصل بي المسؤول من فرع الحزب الشيوعي الذي كان محظورا إذاك الرفيق مصطفى العزاوي لمعرفة موقف الاتحاد بشأن هذه الانتخابات فأخبرته بأن الحزب لم يتخذ موقفا بعد، وفي هذا اللقاء تبادلنا الآراء واقترح علي قراءة كتاب «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» للاطلاع على موقف لينين بخصوص مجلس الدوما الروسي عام 1905. ولما أخبرته بأنني لا أتوفر على هذا الكتاب وعدني بتزويدي بنسخة منه… ولازلت أذكر أنني لما قرأت الكتاب أعجبت بمنهجية لينين في تناول المسألة، وقدرته الفائقة على دحض دعاوى من نعتهم ب»الشيوعيين اليساريين» وبجرأته وصرامته في مواجهة من يعتبرهم «يساريين طفوليين» ومما جاء في أطروحته «إنه من اللازم معرفة سبيل التراجع، وإن من اللازم حتما تعلم العمل العلني في أكثر البرلمانات رجعية…كما وأن أكبر البرلمانات العلنية مع وجود «برلمان» رجعي للغاية، تقدم أجل خدمة لحزب البروليتارية الثورية أي للبلاشفة» والمقطع الذي يقول فيه: «إننا لم ندع إلى مقاطعة البرلمان البورجوازي أي الجمعية التأسيسية، بل لقد كنا نقول رسميا باسم الحزب أن جمهورية بورجوازية مع جمعية تأسيسية، خير من مثل هذه الجمهورية بدون جمعية تأسيسية»، لم أتمثل أطروحة لينين في البداية لأن قراءتي لأدبيات المذهب الشيوعي كانت نادرة ربما لا يكفي لاستيعاب خلفياتها وأبعادها، ولكني رغم ذلك وكما أشرت أعجبت بمنهجيته وقدرته على المصارحة والدحض… والشيء الذي أرقني وأنا على متن القطار متوجها إلى البيضاء لحضور الاجتماع الذي ستعقده اللجنة المركزية للاتحاد بخصوص الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في ماي، ولكن ما إن أعدت قراءتها قبل أن أصل إلى البيضاء حتى استوعبتها بل واقتنعت بصوابها، وقد ازددت اقتناعا بذلك لما سمعت تقرير الكتابة العامة الذي قام بعرضه المرحوم عبد الرحيم.
الموقف من الانتخابات..
افتتح الاجتماع الشهيد المهدي بنبركة بعرض تحدث فيه عن الوضعية السياسية بعد الاستفتاء معرجا على ما اتخذه المجلس الوطني للاتحاد الوطني المنعقد مباشرة بعد نتائج هذا الاستفتاء من قرارات، ومذكرا إياهم بما ينبغي القيام به من جهود في سبيل إحباط الخصوم الذين سيبذلون قصارى جهودهم لإقصائنا من الساحة، وسيعملون بدون هوادة لإخراجنا من المنافسة ليتأتى لهم الاستحواذ على البرلمان لتمرير قرارات لا يستفيد منها إلا خصوم الجماهير دون أن يجدوا معارضة داخل قبة البرلمان (وهنا مال عمر نحوي هامسا أفهمت السي محمد؟) وبعد هذا أحال المهدي الكلمة لعبد لرحيم بوعبيد الذي ألقى عرضا مسهبا تطرق فيه إلى الوضع في البلاد خاصة بعد إقرار الدستور وإلى ما طرأ من متغيرات كلها تصب في اتجاه تثبيت دعائم الحكم الفردي، والدفع بالمغرب إلى تكريس عوامل التخلف وخدمة المصالح الأجنبية، ثم حذر من أن يترك البرلمان لهيمنة أحزاب الإدارة وقد ربط هذه المسألة بوجهة نظر الكتابة العامة بخصوص الموقف من الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها والتي انتهى بشأنها إلى الإعلان عن اقتراح الكتابة العامة المشاركة حتى يمكن للاتحاد أن يتخذ من البرلمان منبرا من خلاله يمكنه فضح سياسة النظام اللاشعبية. ودون التطرق لما حدث في الاجتماع وكيف انتهى أكتفي بالإشارة إلى أن المرحوم عمر رغم معارضته الشديدة للمشاركة فإنه انبسط للقرار وكان من أكثر النشيطين لتطبيقه، ليس هذا وحسب، بل وأنه قام بمجهود جبار لإقناع عدد من المناضلين الذين لم يقتنعوا بقرار المشاركة وهذا لمسته بنفسي في مرحلة تنظيم الحملة الانتخابية التي أشرف عليها في إقليم وجدة.
ولم أعرف ما إذا كان موقف الاتحاد قد بني على تجربة المعارضة الروسية أو على أساس حسابات سياسية مملاة من الظرفية التي كان يجتازها المغرب إذاك، المهم أن الموقف اتخذ بناءا على معطيات وحيثيات تضمنها التقرير الذي تقدم به المرحوم عبد الرحيم والذي أثار نقاشا حادا كاد يعصف بالاجتماع لولا تدخل المرحوم المهدي بنبركة الذي تناول الكلمة موضحا بعض النقط التي وردت في عرض المرحوم بوعبيد بطريقة أكثر دقة وجرأة في إبراز ما اعتبره آراء صادرة عن عدم استيعاب طبيعة المرحلة، وتمثل خلفيات وأبعاد قرار الكتابة العامة التي اضطر إلى إبرازها بأسلوب جعل كل من في القاعة وكأن على رؤوسهم الطير… وبذكائه وفطنته وقدرته على الإقناع، وقبل هذا وذاك ثقة المناضلين في وجاهة رأيه، استطاع أن يعيد إلى الجلسة هدوءها ليسأل، هل من متدخل؟ فيتبادل الحاضرون النظرات ولا يجيبون ويعلن عن اختتام الاجتماع طالبا من كتاب الأقاليم موافاته للمكتب ليستلموا الوثائق. ولما دخلت المكتب سمعت المهدي يخاطب عمر بحدة وكانت العبارات التي سمتعها وكنت دائما أذكر بها عمر فيضحك هي: Sors moi d›ici ou je te casse les reins، فما كان منه إلا أن يمتثل ويخرج تاركا لي المجال لأستلم من المهدي الوثائق المتعلقة بالحملة الانتخابية، لما خرجت وجدته في انتظاري وغادرنا المقر وتوجهنا إلى بيته، وفيه عبر عن عدم موافقته على المشاركة ولكنه احتفاظا على وحدة الحزب مستعد للقيام بما يلزم لإنجاح الحملة الانتخابية ولو في فضح سياسة النظام وكشف التزوير الذي سيلجأ إليه لإنجاح المرشحين الموالين له… ثم وعدني بأنه سيتولى هو بنفسه الإشراف على الحملة في المنطقة الشرقية. وهذا ما وقع بالفعل، فبعد ثلاثة أيام على ما أذكر، حل بوجدة وبدأنا في التخطيط للحملة الانتخابية بما في ذلك تعيين المرشحين، وتوفير الآليات والوثائق، ولائحة المراقبين في مكاتب الاقتراع، ولجان الاتصال والدعاية وما إلى ذلك من مستلزمات الحملة، بل وأكثر من هذا فرض علي أن أترشح في دائرة فجيج ولم يسع لي إلا الانصياع لرغبته. وقد أظهر المرحوم براعته وخبرته في هذا الميدان. ودون الدخول في التفاصيل أكتفي بالقول أنه بالرغم من عدم فوز الاتحاد في أي دائرة من دوائر إقليم وجدة، فالذي تحقق هو ما بنت عليه الكتابة العامة قرار المشاركة والمتلخص في فضح سياسة النظام، ونشر أفكار الاتحاد في كل أنحاء المنطقة الشرقية، لقد كانت الحملة الانتخابية محطة حاسمة فيها حدثت القطيعة بين الاتحاد والنظام، وهذا ما أفصح عنه بلاغ الكتابة العامة بالمناسبة، كما كانت محطة فيها تيقن الحكم وأعوانه أن عمر وأمثاله، يجب أن يزاحوا عن الطريق.
ومما زاد في تأجيج نقمة النظام على الاتحاد قرار مقاطعة الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها صيف هذا العام. ولم يتردد في تنفيذ مخططه، وهذه المرة بتوجيه تهمة الإعداد لمؤامرة ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي، كان ذلك يوم 16 يونيو 1963 حيث شنت حملة شرسة من الاعتقالات استهدفت جميع نشطاء الاتحاد، والذين مورست ضدهم أفظع وأقسى أساليب الهمجية والوحشية، وإن أنسى لا أنسى مشهدا لازلت لليوم كلما استحضرته إلا وتملكتني حالة من الكآبة لا أتخلص من وطأتها إلا بعناء، كنت من بين معتقلي دار المقري في هذه الحملة، وفي واحدة من جلسات الاستنطاقات، خاطبني أحد الحجاج (والحاج نعت كان يطلق على كل رجال الأمن المكلفين بالمعتقلين) حرفي، اسمع لقد تساهلنا معك في الجلسات Séances السابقة، لعلمنا أنك أستاذ تتفهم مثل هذه الواقف وأنت لست من الذين نلاقي معهم صعوبة، ثم إنك لا تتحمل ما يتحمله العامة، والآن من مصلحتك أن تعترف لنا بالتنظيم السري الذي كنت تشتغل ضمنه بموازاة التنظيمات الشرعية، إذن فكر جيدا وسنترك لك مهلة للتفكير إما أن تعترف، وإما ستتعرض لما تعرض له الشخص الذي أخرجناه من الغرفة قبل أن ندخلك إليها، واستدرك، آه نسيت أنت لم تتبينه لأنك «معصوب العينين» وهنا طلب من أحد «الججاج» أن يجعلني أرى هذا الشخص فقادني نحوه، ثم أزاح العصابة عن عيني برفعها إلى أعلى مستوى جبهتي، ثم أضيئت أرضية الرواق فوقع نظري على جثة، وهي لشخص ملقى على الأرض معصوب العينين يرتدي معطفا وسروالا مبتلين، حافي القدمين، ومن هول ما رأيت أصبت بالغثيان، وتراجعت قليلا وأنا أضع يدي على عيني لأخفي أثر الصدمة وتأثري لهذا المنظر المريع، لكن أحدهم أرجعني وهو ممسك بذراعي الأيمن ثم قال «تريث، إنك لم تشاهد شيئا، اقترب، أنظر، تأمل، أرأيت، أنظر إلى يديه» ففعلت وإذا بهما معقوفتين وكأنهما مصابتان بالشلل، ثم قلب الجثة إلى الجانب الآخر، ويكشف عن ظهره قائلا: «أنظر… وما إن وقع نظري على المشهد حتى أغمي علي إغماءة لم أستفق منها إلا بعد وقت لم أقدر مدته، وبعد أن تيقنوا أني عدت إلى حالتي أدخلوني إلى الحجرة فقال لي أحدهم: أعرفت صاحب الجثة؟ إنه عمر بنجلون، لم أشعر إلا وأنا أبادره، ماذا تقول؟ جثة عمر؟ أجابني وهل أكذب عليك، إنها جثة عمر، فقلت في نفسي ماذا يعني هذا؟ أيكونون قد قضوا عليه؟ ومما زكى هذا الظن في نفسي أن صاحب الجثة لم يتحرك: أعوذ بالله سأصاب بالجنون إن هلك عمر، ولم أشعر إلا وأنا أصرخ في وجههم، حرام عليكم يا ناس، ولم أكتف بذلك بل صحت: اقتلوني، ألحقوني به، وبدل أن يهدؤوا من روعي انهالوا علي ضربا ولكما وسبا وشتما، وهددوني بأنني سألقى نفس المصير، إن بقيت مصرا على عدم الاعتراف بالتهمة…
لم يفارق مشهد الجثة مخيلتي طيلة غياب عمر عن الحجرة التي حشرنا بها في دار المقري، ولم أطمئن إلا عندما أعادوه إليها، وتيقنت أنه على قيد الحياة (ومن بين المعتقلين الذين كانوا معنا في الحجرة، المهدي العلوي، محمد الماسي، محمد العكسة، وآخرون لم أكن أعرفهم…).
ورغم الحراسة المشددة التي كنا خاضعين لها، ورغم أحوالنا المؤلمة التي كنا نعاني منها من جراء التعذيب الجسدي والنفسي الذي كان يمارس ضدنا ليل نهار، علاوة على حرماننا من النوم فإن وجود عمر معنا كان بمثابة بلسم يخفف عنا من آثار ما كنا نعانيه من وحشية وهمجية على يد زبانية دار المقري، فعمر هو عمر في كل الأحوال، لا يفارقه جده أينما حل، ولا مرحه حيثما ارتحل، وكيفما كانت الظروف هنيئة أو قاسية، ومن حسن حظنا أن أحد «الحجاج» كان يتساهل في معاملتنا بحيث يغلق باب الحجرة وعندما يريد تفقدنا وحده أو بمعية آخرين يحدث حركة نسمعها من بعيد، فنسكت إذا كنا نتحدث أو نعيد العصابات إلى أعيننا، كان هذا «الحاج» فطنا حيث كان يفعل ذلك من تلقاء نفسه ودون أن يتفق معنا، لأنه بحكم خبرته المهنية كان يعلم أو يشك على الأقل، في أن بيننا «مندسا» يحصي تصرفاتنا وما قد نتبادله من معلومات تفيد «مضيفينا» في «زاوية المقري» ونحن بتجربتنا وخبرتنا بدسائس وأساليب هؤلاء «الحجاج» خارج دار المقري في مخافرهم الظاهرة والخفية كنا محتاطين وحذرين في مثل هذه الأزمات…
كان عمر يملأ فراغنا بتخمينات بشأن إقدام النظام على اعتقالنا، وتارة بموضوعات عامة تحلق بنا في فضاء ذكرياته عن طفولته وشبابه، وعن حياته بفرنسا، ولم يكن حديثه عن مراحل حياته ذا منح شخصي بقدر ما كان مرتبطا بشخصيات إما تتلمذ عليها أو ارتبط بها في مهنته أو عمله الحزبي أو بأحداث عاشها وهو تلميذ أو طالب أو موظف أو مناضل، والذي كان يعجبني فيه هو احتفاظه بالاحترام والتقدير لمعلميه وأساتذته وبالمودة والوفاء لأصدقائه ورفاقه وزملائه، وكان لا يتحدث عنهم إلا بخير، أما المخلصون منهم فكان لا يفوته ذكرهم كنماذج إما في الإخلاص والجدية إن كانوا معلمين أو أساتذة، وإما في التضحية والعطاء إن كانوا مناضلين، بقطع النظر عن كونهم متفقين معه أو لا. كان يجل قيم الإخلاص، والاستقامة والنزاهة والوفاء، وكان أشد كرها للانتهازية والنذالة والنميمة، زاره أحد أصدقائه، وكان من عادته دائما في مثل هذه المناسبة السؤال عن حال الأصدقاء والزملاء… لما سأل عن أحدهم أجاب: «دعنا منه… إنه كذا وكذا…» فقاطعه: «لقد سألتك عن حالته العامة، أما ما تقول الآن فأنا أعرف به منك، عرفته يوم كان يقوم صباحا ويخرج من منزله تاركا أفراد عائلته نياما ولا يعود إليه إلا بعد أن يكونوا شبعوا نوما… إنه قدوة في التضحية» فبهت النمام…
وكان المرحوم عمر يعمد إلى اختيار ما يسلينا ويخفف من معاناتنا، وفي نفس الوقت يطلعنا بتجارب الشعوب التي عانت مثلنا من عنت الإقطاع وقساوة الاستبداد. فقد حدثنا عن الثورة الفرنسية ومقدماتها وعن دور رجالات الأدب والفكر في التهيئ لها من أمثال هوجو وروسو، وحدثنا عن الثورة الروسية وآثارها على نشر الفكر الاشتراكي وعن الخلاف السوفياتي الصيني. كان المرحوم معجبا بالنموذج الصيني في تطبيق الاشتراكية، ومن الموضوعات التي حدثنا عنها تطبيق الاشتراكية في يوغوسلافيا القائمة على التسيير الذاتي والذي أخبرنا أن أحمد بنبلة يتبناه، والحق أن وجود المرحوم عمر بيننا كان رغم المصير المجهول الذي كنا ننتظره بمثابة بلسم يوضع على جراحنا ليخفف من آلامنا ويعيد إلينا الاطمئنان بأنه مهما قاسينا من محن، فإن ذلك لن يذهب سدى، وعندما يشعر المرحوم بتسرب العياء إلينا، ينتقل إلى النكت والطرب وفي هذا المجال حدث عنه ولا حرج، كنا نقضي لحظات مفيدة وممتعة لا ينغصها علينا إلا إخراج أحدنا للاستنطاق أو إعادته إلينا وهو في حالة أسوأ ما تكون وهذه حالما برفقة عمر في دار المقري، وفي الثكنة العسكرية التي حولنا إليها بعد انتهاء ضيافتنا بدار المقري تحت إشراف «حجاجها» وفي السيارة نحو قاضي التحقيق أو إلى السجن إلى أن تم عزله عنا ليودع في مصحة السجن بمعية مجموعة من الإخوان، ويودع باقي المعتقلين في جناح من أجنحة السجن المركزي بالقنيطرة سواء في سجن لعلو الذي كنا نزلائه خلال المحاكمة أو في قاعة المحكمة (مقر البرلمان حاليا) حيث كانت تتلى علينا صكوك الاتهام ونستمع إلى «الغراق» وهو يصول ويجول في توزيع مطالب بأشد العقوبات والتي كان حظ المرحوم عمر عدة فصول كلها تطالب بالحكم عليه بالإعدام، وأخيرا وهو محكوم عليه بالإعدام.
التهديد والاعتقال..
فطيلة كل هذه المراحل لم يفقد المرحوم عمر رجولته ولا روحه المرحة ولا أمله في انتصار «حركة التحرير الشعبية». سمعت أحد الأصدقاء يقول له وكنت إلى جانبه في مزار السجن Parloir عجبا، نزوركم لنخفف عنكم بعض ما تعانون داخل السجن فإذا بكم أنتم الذين تخففون عنا ما نعانيه خارجه… وقد بقي المرحوم محتفظا بمعنوياته العالية حتى وهو ينتظر في كل صبيحة تطبيق حكم الإعدام، علمنا أنه يقرأ بنهم ويدون ملاحظاته حول ما يقرأ ويفكر ويكتب، ومنذ صدور الحكم بالإعدام لم نعد نلتقي إلا في «المزار» parloir عند زيارة أحد المعارف. ودائما عمر هو عمر إلى أن تم إطلاق سراحنا عام 1965 بمقتضى عفو ملكي صادر بعد أحداث 23 مارس من نفس السنة بالدار البيضاء، فما أن استرد حريته حتى استأنف نضاله، حيث انصب اهتمامه على الجانب التنظيري والتنظيمي، ليس في إطار الاتحاد وحسب، بل تجاوز ذلك إلى القضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث شارك في إنشاء جريدة «فلسطين» وفي تأسيس جمعية لمساندة الكفاح الفلسطيني وقد أدى من أجل هذا ثمنا مس حريته مرة أخرى إذ تم اعتقاله عام 1967، كما تعرض للتهديد والاعتقال، ولمحاولات اغتيال عدة مرات، وكل هذا لم يثنه عن الاستمرار في كفاحه داخل حزب القوات الشعبية كقائد مقتدر، يمكن القول بكامل الصدق، بأنه بدأ «مهديا صغيرا» ولما اكتمل نضجه وأصبح «مهديا كبيرا» تم اغتصابه، وذلك ويوم 18 دجنبر عام 1975، في الوقت الذي كان حزبه وبلاده في أمس الحاجة إليه.
ومما أعتز به أن علاقتي الشخصية به ظلت ثابتة رغم اختلافنا وليس خلافنا بشأن ما حدث في 30 يوليوز 1972 والموقف من العمل النقابي، فقد استمرت زيارته لي كلما زار وجدة، وزيارتي له كلما حللت بالدار البيضاء. كان آخر لقائنا قبل خمسة عشر يوما من اغتياله، استفدت خلال هذا اللقاء بوجهة نظره في قضية الصحراء ولمست مدى إيمانه بمغربية هذه المنطقة وإني وإن كنت أعتبر أن «لو» أداة غير مشروعة في التاريخ ولكن ?والله أعلم- لو لم يغتصب المرحوم لكان مسار آخر لقضية الصحراء ولقضايا أخرى… أو لم يكن لغياب الشهيد المهدي بنبركة مضاعفات وتداعيات على الساحة الوطنية على الأخص فلم لا يكون لغياب الشهيد عمر بنجلون نفس التداعيات والمضاعفات؟ فإذا قيل عن أمثال عمر وهم قلة «إنهم هم الذين يعطون طعم الحياة، وأن العالم بدونهم يصبح شبه بركة ماء راكدة لأنهم لا يقدمون العظمة التي لم تكن موجودة قبلهم وحسب، بل يعرفون أيضا كيف يحافظون عليها» (فن الزعامة لأوجين جننجر ص 32) فإني أضيف «ولا يفرطون فيها بالمساومة والتنازل وينشئون عليها أتباعهم بالقدوة الحسنة والتشبث بقيم الإخلاص والاستقامة والوفاء والتضحية ونكران الذات، وتلك هي مواصفات عمر منذ التقيت به أول مرة إلى أن بلغني نبأ رحيله، وعند غيري ممن عاشروه الكثير مما ينضاف إلى سيرة عمر ومواقفه الوطنية والإنسانية…
وأنهي حديثي ببيتين نظمتهما مباشرة بعد اغتياله:
نم قرير العين أيا عمر
ما ضاع نهج صغته أيا عمر
نم قرير العين يا عمر
ما تاه جيل قدته يا عمر