تحتضن بلادنا، مجددا، الفرقاء الليبيين، للتوقيع النهائي على مشروع المصالحة الوطنية، بعد مسلسل طويل من المفاوضات، رعته الأمم المتحدة، وتدخلت فيه أطراف عدة بهذا القدر أو ذاك، من الإيجابية أو السلبية. وهو الموعد، الذي لا يمكن لكل مؤمن بالفكرة المغاربية، وبيقين مصيرنا المشترك، إلا أن يصفق له عاليا، وأن يأمل أن يشكل بداية النهاية للأزمة في بلاد حفدة البطل التاريخي عمر المختار بأن تولد أخيرا، ليبيا الجديدة، دولة المؤسسات، بحكومة وحدة وطنية، مهمتها التاريخية الكبرى، هي حماية وحدة الأراضي الليبية، وتحقيق الأمن.
إن المخاطر التي تتهدد الشمال الإفريقي كله، من خلال الأزمة الليبية، كبيرة، مما قد يحول البحر الأبيض المتوسط، إلى بؤرة للتوتر لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائجها الكارثية على السلم العالمي. وهي أزمة ظلت تمتحن فطنة الفضاء الأرو متوسطي ودوله، من خلال الشكل السياسي والتدبيري الذي ظلت تتعامل به الحكومات الأروبية والمغاربية والشمال إفريقية مع الملف الليبي. لقد ظل الخطر الأكبر قائما، من خلال محاولات عدد من العواصم في هذا الفضاء المتوسطي، التعامل مع مخاطر بلاد فزان وطبرق، من زاوية مصالحها الخاصة، بما يخدم أجندات تحكمية محلية خاصة. مما كانت نتيجته، تغول خطير في التطورات الميدانية بطرابلس وبنغازي، فتح الباب لكل التطرفات التي بدأت تحول الجنوب المتوسطي إلى برميل بارود، ستكون تلك الجغرافيات المتوسطية أول ضحاياه.
فهل انتصر العقل ومنطق المصالح الحيوية للمصير المشترك، أخيرا، في شكل التعامل مع الملف الليبي؟ هل انتصرت أخيرا الإرادة الوطنية الليبية، من أجل إعادة بناء الدولة في بلاد منصور الكيخيا؟ وحده القادم من الأيام من سيؤكد ذلك أو ينفيه، حتى والإرادات المغاربية الصادقة، الوفية لروح الآباء المؤسسين للنضال الشعبي المغاربي ضد الاستعمار، تأمل أن يكون لقاء المغرب الجديد هذا، بداية ترسيخ الأمل في ذلك. ويحق لنا، مغربيا، أن نعتز بأننا كبلد ودولة ومؤسسات ومجتمع، قد اجتزنا هذا الامتحان، مغاربيا، بأكبر قدر من الوفاء للمصلحة الليبية في الأول وفي الأخير، وبإرادة بناءة لحماية وحدة ليبيا وترسيخ أمن أهلها وحماية مصالحهم الوطنية الحيوية. ومن هنا نفهم معنى اختيار الفرقاء الليبيين، أن يعودوا تحت سماء بلادنا، لتوقيع اتفاقهم التاريخي هذا، كنوع من التحية الأخوية والعرفان والتقدير.
بدون مبالغة، نحن نؤمن، أن مغربا عربيا كبيرا، جديدا، سيولد من خلال إنهاء الأزمة الليبية. خاصة وأن تطورات القضية الليبية، قد كان لها دوما أثر على تطورات وضعنا المغاربي منذ الخمسينات، حين حازت بلاد البطل الشهيد عمر المختار استقلالها عن إيطاليا سنة 1951، ودخلت في امتحان لتدبير شؤونها الداخلية كدولة مستقلة جديدة. امتحان جربت فيه معنى تحقيق الوحدة بين أقاليمها الثلاثة الكبرى، وجربت معنى وضع دستور، وجربت معنى التوحد حول رمزية قيادية. مثلما جربت معنى التعايش بين بعدها المشرقي وعمقها المغاربي. إذ في ليبيا دوما تتجاذب المصالح بين مشرق الوطن العربي وغربه. والظاهر أنها لا تزال. لكن زمن القرن 21، ليس هو زمن نهاية مرحلة الاستعمار في أواسط القرن 20. والنخب الليبية اليوم، بحجم كفاءاتها، بقوة موارد اقتصاد بلدها، لا خيار أمامها سوى الانتصار لما يخدم وحدة التراب، بما يعزز الأمن الوطني ويحمي الأمن المغاربي والعربي والشمال إفريقي والمتوسطي.
هل نهاية شوط المفاوضات الطويل والمعقد، إذن، وميلاد حكومة الوحدة الوطنية، من خلال التوقيع على ذلك بالمغرب، سيكون بداية الأمل في تحقيق ذلك؟ لنا اليقين أن فطنة الليبيين، ورصيدهم النضالي والوطني، ووفاءهم للأمل الساكن في أعين أطفال بلدهم، سيجعلهم يدشنون لحظة تاريخية، لن تكون لحظة ليبية فقط، بل لحظة تاريخية مغاربية وشمال إفريقية ومتوسطية تأسيسية.

  • عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
  • الخميس 17 دجنبر 2015

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…