تحاول الكتلة التاريخية أن تتدارك الفوات الحضاري وأن تعثر على الجواب الشافي للسؤال عن الهوية وأن ترد على تحديات العولمة وأن تجد طريق الخلاص من أزمة خطاب الهوية التي سببها الإقصاء والحرب.
لكنها تقع في كماشة تعثر البدائل وفشل المرجعيات وحالة التخبط الإيديولوجي بين القوى المتنافسة وغياب المشروع الحضاري المتكامل وتعبر عن حاجة ماسة إلى رؤية معمقة للواقع وقراءة تشخيصية نقدية للمجتمع وغربلة فكرية للعقل الذي يسكننا.
لا يمكن بناء عمارة الهوية على أساس الدين فحسب ولا يجوز التعويل على الهوية الدينية لمواجهة المخاطر والصمود أمام موجات التفكيك والتقسيم بالرغم من ادعاء هذا الدين العالمية واكتساحه السريع للمعمورة. كما لا يتعلق الأمر بالبحث عن الأصل والتفتيش عن المصير بالنسبة للهوية التي تخصنا للإجابة عن سؤال من نحن؟ وذلك بطرح سؤال من أين أتينا؟ والى أين سنذهب؟ وإنما المطلوب تحديد موقعنا في العالم وقيمة الرصيد الهووي الذي تحوز عليه الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد والإجابة على سؤال أين نحن؟
ما انفكت حضارة اقرأ تطرح أسئلة شائكة حول نفسها ودورها في العالم سواء من أجل الرد على الاعتداءات والاستثبات أو بغية توطيد السيادة الحضارية وتدعيم الإشعاع والاستفاقة وتوكيد الانتشار الثقافي في الكون. لكنها لا تدعي امتلاكها لهوية متفوقة واستمدادها لهذا التفوق من الدين ولا تزعم مواصلة الريادة وقيادة القاطرة الحضارية في اللحظة الراهنة بل تعترف بفقدان البوصلة وبالضياع في العالم. كما أنها لا تحمل الدين حال الهزيمة التي منيت بها الملة ولا تتعامل مع نفسها كهوية مغلوبة وإنما تطمح إلى الاسترجاع والى العودة إلى الذات والتخلص من الاغتراب والجمود والتذبذب وزرع الاستنارة والمدنية في المدينة الانسية.
ما يثير الاستغراب ويمثل مفارقة أن الذين يتحركون في فلك الهوية ويقدمون أنفسهم كمدافعين عن الذات الحضارية ينتجون خطابا مبتسرا ويكتفون بكيل المديح الإفتخاري عن وضعيتنا التاريخية ويسقطون في زهو وغرور الخطاب الأبولوجي النرجسي، في حين أن الذين يجاهرون بالانتماء إلي الإنسانية ويحسمون أمرهم مع الموروث والتقاليد يشكلون مادة علمية دسمة عن زمانية الوجود الذي يحوينا والإطار الاجتماعي الذي يتبعنا. فهل يدل ذلك على أن ثبت الهوية يمر عبر الإفلات من رقابة الذاتية والاعتصام بالموضوعية؟ وكيف نتجاوز هذه الفصامية في البحث الأكاديمي بين ذاتية بلا هوية وخطاب هووي بلا موضوعية؟
ربما يكون الاستنجاد بالمثقف النوعي هو الخيار الذي يفيد في تقوية الاقتدار على مواجهة الخطر بالالتزام بالطابع المركب للهوية والتأصل الكوني والأنسنة الثقافية وتعليم الحشود التي ننتمي إليها من جهة الاجتماع والقانون والثقافة والاقتصاد القيم الكونية والإنسانية التقدمية.
على هذا الأساس لا يتوقف التفكير الفلسفي في الهوية التي تخصنا عند ضبط المفهوم وتقديم التعريف ووضع الحد الجامع والمانع بل يتعدى ذلك نحو تحويل الثوابت وتحريك السواكن وإدخال التعقد في البسائط وزرع الاختلاف في الواحد والتعدد في الوحدة والاعتصام بالمنهج المركب والتدبير الإيتيقي لمستقبل النوع البشري واختيار أنماط الحياة الملائمة على الأرض والسماح بالتلاقي بين الذات والغير وبين الفرد والمجتمع والاسترسال بين الطبيعي والثقافي.
لقد جعل أدغار موران من قضية أنسنة البشرية الاهتمام الأكبر بالنسبة للفلسفة المعاصرة وأوكل إلى العقل الايكولوجي مهمة المحافظة على الإقامة في العالم وركز على إبداع الهوية المركبة وصوب سهام نقده إلى المراوحات العقيمة والطرق التبسيطية والاختزالية للطبيعة البشرية وجعل من قضية المنهج البوابة المعرفية الحاسمة للتطرق إلى مطالب إنسانية الإنسانية ومعرفة المعرفة وطبيعة الطبيعة وحياة الحياة. وبالتالي تسمح الأنثربولوجيا الفلسفية عند أدغار موران بولادة سياسة للحضارة ترتكز بالأساس على محاربة الهمجية والشمولية وتوطن التأصل في الكون والاندماجية في المجتمع والأنسنة في الثقافة والخلقنة في السياسة وتضع الإيتيقا في حضن الوجود وتجعل من النهاية الكارثية بدء جديد لهوية البشر على منحى مختلف.
- عن موقع التجديد العربي
- نشر بها 15دجنبر2015