“انه العنف الذي يشكل القلب النابض والروح السرية للمقدس”[1]
لقد رحل عن الدنيا يوم 4 نوفمبر 2015 روني جيرار وهو أنثربولوجي فرنسي ولد بأفينيون يوم 25 ديسمبر 1923 وحصل على عضوية في الأكاديمية الفرنسية منذ 2005 وصاحب نظرية الرغبة المحاكاتية وكاشف العلاقة السحرية الخفية بين العنف والمقدس
والذي عاصر الجيل الذهبي من البنيونيين الفرنسيين أمثال جاك لاكان وجاك دريدا ورولان بارت ولقد وجه انتقادات كبيرة إلى كتابات كلود ليفي شتراوس والى تفسيرات علم النفس التحليلي الخرافية وميز بين عملية التوسط الداخلي والتوسط الخارجي.
من البديهي أن يشكل الإنسان عند ريني جيرار كائنا راغبا ومن الطبيعي أن يحاكي من ينافسه في موضوع رغبته ويضحي بنفسه لفائدته، ولكن الإشكالي هو ارتباط الرغبة بالعنف والمحاكاة والحاجة إلى التضحية لوقف هذا التدحرج. لكن مما تتكون الرغبة؟ وكيف يتحول موضوع تافه إلى موضوع رغبة؟ وألا يظهر العنف عندما تتنازع الذوات على نفس موضوع الرغبة؟ وكيف تساهم المحاكاة في ظهور أزمة تضحوية وانتشار العنف؟ وما تأويل حضور طقس التضحية في المجتمع؟ على ماذا يدل العنف الملازم للتضحية؟ وكيف تتحول قوى اجتماعية متنازعة إلى قوة موحدة في مواجهة خطر العنف؟ وماهي القراءة الأنثربولوجية عند روني جيرار للعلاقة الشائكة بين العنف والمقدس؟ ألا يلتجىء المقدس إلى العنف من أجل الوقاية من العنف؟ ما دور الديني في بناء اللحمة الاجتماعية؟ هل يشكل المقدس وضعا جماعيا لانتشار العنف أم يساهم في كبح جماحه؟ ما علاقة تفشي العنف في النسيج الاجتماعي بالرغبة والمحاكاة والمازوشية والسادية؟ وكيف يتمكن الكائن البشري في وجوده الاجتماعي من طرح العنف خارج وضعه؟ والى أي مدى تساهم التضحية في وقف داء العنف؟
“يجب وضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لفهم الموانع والمحرمات كلها”[2] فالإنسان بوصفه أقدر الموجودات على المحاكاة والرغبة ينخرط في رغبة محاكاتية للعنيف في عنفه فيشعر بالخوف من حتفه ويتسبب في تبادل العنف واندلاع الحرب الكلية. غني عن البيان أن الذات لا ترغب في شيء تافه وبشكل عفوي بل وفق منوال الآخر ومن خلال نموذج وبالتالي تتكون الرغبة من ثلاثة أبعاد هي الذات الراغبة وموضوع الرغبة والنموذج الذي ينبغي محاكاته عند الآخر ويتسبب في الأزمة التضحوية وظهور الرغبة المحاكاتية وانتشار العنف في المجتمع واختلاطه بالمقدس. في هذا المقام تبرز التضحية بوصفها ممارسة اجتماعية تهدف إلى حماية المجتمع والمحافظة عليه ويكون العنف التضحوي قد حرف عن موضوعه الأصلي نحو موضوع بديل ويسمح بتفريغ طاقة العنف في موضوع آخر أقل أهمية للحفاظ على تماسك الجماعة ودون المساس بسلامة الأفراد. وبعد ذلك يسمي روني جيرار هذه الظاهرة بالاستبدال التضحوي ويرى أنه فعل سوسيولوجي في عمقه يسيره أفراد من المجتمع ولصالح المجتمع و ذلك بقيامهم بتحويل العنف عن موضوعه الأصلي نحو موضوع بديل لوقف العنف. في هذا السياق يصرح:” المجتمع يبحث عن تحويل عنف يهدد المنتمين إليه نحو أضحية هي قليلة الأهمية… التضحية هي عنف هدفه حماية الجماعة من عنف، إنها خداع العنف… وتمنع التضحية العنف من النمو، إنها تساعد البشر على الحد من الانتقام… وظيفة التضحية هي المحافظة على السلم العام داخل الجماعة عن طريق توجيه العنف نحو أضحية ملائمة..”[3]
مجمل القول أن التضحية ممارسة شعائرية يقوم من خلالها الإنسان بمحاكاة الأزمة التضحوية (العنف المؤسس) من أجل منع التحقق الواقعي لتلك الأزمة وذلك بإعادة تفعيل ميكانيزمات الاستبدال التضحوي وتقديم الفداء والتوحد ضد الخطر والتعامل مع الرغبة المحاكاتية بوصفها سبب انتشار العنف وتخليص المجتمع شرور واقعية وافتراضية وحفظ النظام وتماسك المجتمع. إن التضحية هي عنف موجه نحو تخليص الجماعة من التناحر عن طريق تقديم أضحية والقربان الفدائي والذبيح الشعائري. من هذا المنطلق تعتبر التضحية وسيلة وقائية وحرب استباقية لتفادي اشتعال نار الانتقام وتبحث أضحية الفداء إلى كبح العنف المنتشر والمهدد داخل الجماعة وإعادة المجتمع إلى حالته الأولى وإخفاء حقيقة البشر العنيفة عنهم.
غني عن البيان أن دراسة علاقة المقدس بالعنف تتجاوز القراءات الاختزالية والتبسيطية التي ترى في:
– المقدس أصل البلاء ويصدر عنه العنف وبالتالي يجب التخلص من الدين للقضاء على العنف.
– المقدس بريء من العنف ويعمل على نشر المحبة والتعاون والتآلف ومصدر العنف دنيوي.
من المعلوم أن العلاقة بين المقدس والعنف معقدة وشائكة ويمكن أن نعثر في الدين على دوافع إلى ممارسة العنف والاستبعاد ولكن يمكن أيضا أن نجد فيه منابت لتجاوز العنف وتحقيق السلام وخاصة مبادئ التربية وقواعد الأخلاق وطقوس التضحية والاستبدال التضحوي والفداء. في الواقع أن حقيقة الدين هو تجاوز للعنف ونشر للسلام وليس بث الفوضى والعدوانية والتباغض. بناء على ذالك تتمثل “وظيفة الطقوسي هي التطهير من العنف وذلك بتوفير نقاط مرجعية رمزية”.[4] على هذا النحو يأتي الدين كي يمتص العنف ويغير وجهته ويسير في المسلكية الأخلاقية التي تهدف إلى اللاّعنف ولو باستعمال العنف الرمزي. هكذا يقوم الدين على تأليف بين العنف واللاّعنف ويعقلن عملية الانتقام. لكن ماذا عن المجتمعات التي لا يتأسس نظامها العام على التضحية والفداء والاستبدال التضحوي؟
هنا يحل النظام القضائي محل النظام التضحوي ولكن إذا كانت وظيفة التضحية وقائية وتأتي مانعة للعنف فإن وظيفة النظام القضائي علاجية وتأتي في فترة لاحقة لوقف انتشار العنف بفرض سلطة القانون. إن التضحية محاولة استباقية للوقاية من الانتقام بينما النظام القضائي يشرعن الجريمة والعقاب ويركز الانتقام في يد سلطة عليا تحتكر العنف المشروع لنفسه وتعيد توزيعه في شكل منظومة جزاء وردع. في مجمل القول أن روني جيرار ينصح باستدعاء نموذج كوني لكي يتفادى الخطر الذي يقع فيه غالبية البشر والعودة إلى التعاليم المرسلة إلى المجتمع عن طريق المقدس في حد ذاته ولكن أن يعيش المجتمع في المقدس هو أن يعيش في العنف وبالتالي لكي يعيش الإنسان في المجتمع يجب عليه أن يفلت من مرض العنف ويحقق مصالحة كاملة مع ذاته وذلك بأن يتجاهل العنف تجاهلا تاما. من جهة أخرى ألا يمكن الانتقال من تشابك الاجتماعي مع الديني إلى تفاعل بين الوضع الاجتماعي والبناء التحتي الاقتصادي؟
***
المصادر والمراجع
Réné Girard, la violence et le sacré, éditions Bernard Grasset, Paris, 1972.
Réné Girard, Du mensonge romantique et vérité romanesque, éditions Bernard Grasset, Paris, 1961.
*****
[1] Réné Girard, la violence et le sacré, éditions Bernard Grasset, Paris, 1972. p. 52.
[2] Réné Girard, Du mensonge romantique et vérité romanesque, éditions Bernard Grasset, Paris, 1961. p. 207.
[3] Réné Girard, la violence et le sacré, éditions Bernard Grasset, Paris, 1972. p. 63.
[4] Réné Girard, la violence et le sacré, op. cit. p. 168
*عن موقع التجديد العربي
الاثنين, 16 نوفمبر 2015