بسم الله الرحمان الرحيــم..
عزيزنا الراحل، نَمْ قرير العين، مطمئن النفس، وأنت في مثواك الأخير، تَحُفكَ ملائكة الرحمان، وتُمطرك شآبيب رحمته، جزاء ما قدمت من جليل الأعمال في حياتك القصيرة زمناً، الحافلة عطاءً، الزاخرة نضالاً، وبنياناً وإنجازاً…
فقد خُضت معارك الحياة في صُعدها المختلفة، وأبعادها النبيلة، فكنت في كل فصولها العسيرة واليسيرة، مثالاً يُحتدى، وأنموذجاً يُقتدى… فقد كنت مثالاً للغيرة الوطنية الصادقة، وأنموذجاً للجسارة النضالية الفذة، وتجسيداًً للأخلاقية السياسية النادرة.
أجل، فقد كانت غيرتك الصادقة على قضايا الأمة في منازلها المختلفة: الطلابية، والاجتماعية والسياسية، رافعة التزامك، ومناط انخراطك في مسيرة الحركة الطلابية، وأنت في ريعان شبابك، فتصدرت الصفوف، وتحملت المحن والإحن، دفاعاً عن مطالبها العادلة، وذوداً عن تطلعاتها المشروعة.
فكنت أحد روادها الأفذاذ في ربوع الفيدرالية الطلابية بفرنسا وأوربا الغربية، فراكمت نضالاً تلو نضال، وانجازاً تلو إنجاز، تنظيماً لفروع «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب» وتأطيراً لصفوفه، وتأجيجاً لكفاحاته…
وقد أهَّلك رصيدُك النضالي الزاخر، وتفانيك المستميت في تأصيل وتوطيد المبادئ المؤسسة والمؤطرة للخط النضالي للحركة الطلابية المغربية، في إطار «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، وهي مبادئ الوطنية، والديمقراطية، والجماهيرية، والاستقلالية – أهَّلك رصيدك النضالي ذاك، وتفانيك المبدئي هذا، لكي تتبوأ قيادة المنظمة الطلابية العتيدة، في غمرة أشغال المؤتمر الرابع عشر، في غمرة عام 1971، فكنت قائداً طلابياً جسوراً، ومناضلاً وطنياً غيوراً، وفاعلاً مجتمعياً خَلُوقاً…
وفي سياق الجدلية الخلاقة بين النضال الطلابي، في إطار الحركة الطلابية، والنضال الوطني، في إطار الحركة الوطنية التقدمية، عموماً، والحركة الاتحادية المناضلة خصوصاً، تقدمتَ صفوف الشبيبة الاتحادية، لتتبوأ مكان الطليعة في معارك نضالها، على الصعيدين الحزبي والوطني على حد سواء، فتحملتَ بصبر وشجاعة ونكران الذات، أهوال الانتماء، وتضحيات النضال، دون كلل أو ملل، فصدقت في عهدك، ووفيتَ لالتزامك، وأديتَ ضريبة كفاحك، قمعاً واضطهاداً، وتهجيراً…
ولم يحل انغمارك النضالي في قضايا الشأن الطلابي، لينسيك هموم وتحديات الشأن القومي، فكرستَ جهداً وافراً من أجل تعبئة الحركات الطلابية في الوطن العربي، دفاعاً عن القضايا الحيوية للأمة العربية، وفي صدارتها قضية تحرير فلسطين، وقضية إرساء الديمقراطية، فكانت لك مواقف مبدئية، وجولات نضالية في ربوع المغرب الكبير، والمشرق العربي، معززاً بذلك الإشعاع النضالي لـ «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب» على الصعيد القومي، بل وامتداده على صعيد الحركات الطلابية العالمية…
وقد سرت على درب وفائك ونضالك في إقبال دونما إدبار، فواصلت مسيرتك النضالية في إطار «النقابة الوطنية للتعليم العالي» فكنت أحد قادتها المرموقين، وفي إطار «اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم»، فكنت أحد أعضائها المحنكين، وفي إطار المدرسة المحمدية للمهندسين، فكنت أحد أساتذتها المبرّزين، وأحد عمدائها المرموقين…
وفي غمرة مسيرتك العلمية والمهنية، ساهمت بحيوية تربوية مشهودة، وبكفاءة علمية لافتة، في تكوين وتخريج المئات من الأطر العلمية، والكفاءات الهندسية، فكنت مثالاً فذاً للعالِم في تواضعه وعفته، وللمربي في نزاهته وإخلاصه، وللمناضل في مثابرته وصدقه…
وفي كل مراحل حياتك، الطلابية والوطنية، والمهنية، كنت إنساناً حقيقياً لم تزغ إنسانيتك النبيلة، قيد أنملة، عن إطار منظومتها الثلاثية الراسخة: الغيرة الوطنية، والجسارة النضالية، والأخلاقية السياسية…
وهي منظومة من القيم والمواقف والسلوك لا تجتمع ولا تكتمل إلا لمن أمده الله بصدق الإيمان، وخلوص النية، ومكارم الأخلاق، وهي، لعمري، هِبات ربانية، منحك الله إياها لتكون مثالاً يُحتدى، وأنموذجاًً يُقتدى، في زخم الحياة العامة والخاصة، مصداقاً لقوله تعالى:
«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه،
ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً». صدق الله العظيم.
عزيزنا الراحل؛
إن التئام هذا الجمع الغفير من المواطنين الشرفاء، والمناضلين الأوفياء، والأصدقاء والرفقاء، لتوديعك إلى مثواك الأمين، بقلوب خاشعة، ونفوس مكلومة، لا يضاهى جزعَه وحزنَه إلا الإيمانُ بقضاء الله وقدره، والانصياع إلى إرادته وحكمه، مصداقاً لقوله تعالى:
«إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون…»
وقوله جل جلاله:
«كل نفس ذائقة الموت»
صدق الله العظيم.
فنم قرير العين، تغمرك السكينة والطمأنينة، وحسن الثواب في الدار الآخرة، كما غمرك الإيمان بقدر الله وقضائه، وأنت تقاسي المرض العُضال، وتقاوم أعراضه وأهواله.
إليك ندعو الله جلت قدرته أن يجازيك عفواً وثواباً، وأن يدخلك فسيح جناته، ويمطرك شآبيب رحمته، وأن يرزق أهلك وذويك جميل الصبر والسلوان، إنه سميع مجيب.
وإنا لله وإنا إليه راجعــون.