سبق لبعض الملاحظين أن اعتبروا “الإسلام السياسي” المعاصر، بما في ذلك تنظيم “القاعدة”، استمرارا للمناهضة التي واجهت بها الحركة الإسلامية المعروفة بسلفية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده التوسعات الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. وهذه الوجهة من النظر مبررة تماما إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية العموم. الزاوية التي تركز على تناظر المسارين: مسار الشيء ومسار نقيضه.
ومع أهمية هذا النوع من التعميم من الناحية المنهجية، لأنه يفرض النظام على الأشياء وبالتالي على التفكير فيها، فإن الاتصال بين الأشياء والظواهر يجب أن لا يحجب عنا ما يثوي تحته من أنواع من الانفصال والتجاوز تشكل بدايات جديدة.
وهكذا فإذا نظرنا إلى الموضوع من هذا المنظور، الذي يأخذ في الحسبان الاتصال والانفصال معا، سهل علينا أن نميز بين “الإسلام السياسي” كما مارسه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من جهة، و”الجماعات الجهادية” التي تمارس العنف اليوم تحت مظلة الإسلام. ومع أنهما يشتركان في كونهما يكتسيان صورة رد فعل يمارس على شكل دفاع عن النفس… فإن الفعلين الذين ولّداهما ليسا من طبيعة واحدة.
فالفعل الأول، وأعني الغزو الاستعماري الذي حدث في القرن التاسع عشر لم يكن من دولة واحدة، بل كان من دول أوربية متنافسة متطاحنة. والهدف كان واضحا ومحدودا: الحصول على المواد الأولية والهيمنة على الطرق التجارية وبالتالي استعمار أمم وأقطار، والقائمون به كانوا في جملتهم –ما عدا من ارتبط بهم من جماعات مسيحية تبشيرية- علمانيين، أو على الأقل لم يكونوا يرون في الإسلام كدين وثقافة أي تهديد لهم. أما الفعل الثاني، وأقصد سعي الولايات المتحدة، اليوم، إلى فرض عولمتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية على العالم، فهو في نظر المنظرين والمنفذين له تعبير عن ما يسميه بعضهم بـ “صراع الحضارات” ويطلق عليه آخرون “شن حرب حضارية على الإسلام”، كما سبق أن شرحنا.
سنقتصر في هذا المقال على الحديث عن “النقيض الخارجي” الذي أفرزه الفعل الأول، النقيض الذي غلب عليه في مختلف الأقطار اسم “الوطنيون”، سواء وظفوا الدين في كفاحهم الوطني أو لم يوظفوه. ومع أن حركة الأفغاني و عبده، كانت تنادي بالرجوع إلى “ما كان عليه السلف الصالح” قصد اكتساب القوة التي تمكن من مقاومة الغزو الاستعماري، فإن هذه الدعوة كانت متجهة إلى الداخل، إلى المسلمين. كانت الإشكالية الرئيسية التي هيمنت على تفكيره زعمائها إشكالية حضارية أكثر منها سياسية: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. وكان الجواب هو أن ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلف، هو نتيجة تراخيهم في التمسك بالدين الصحيح.
فالدعوة السلفية في هذه المرحلة كانت تُمارَس كنقد ذاتي، متجه أساسا إلى حاضر العالم الإسلامي، إلى “المسلمين” كما يمارسون الإسلام في “الحاضر”. ويرى كثير من الباحثين (وهذا هو اقتناعنا نحن أيضا) أن السلفية بهذا المعنى –أعني التي تنتقد حاضر المسلمين انطلاقا من نموذج “السلف الصالح” (عصر الخلفاء الراشدين أساسا)، هي حركة ملازمة لتاريخ الإسلام منذ أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وفي العهود الأخير ظهرت حركات وتيارات سلفية بهذا المعنى منها الحركة الوهابية (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب 1703-1791م) التي قامت في قلب الجزيرة العربية تحمل معها مرجعيتها السلفية ممثلة في فكر ابن تيمية 1263-1327م) المرتبط بفكر ابن حنبل. فإذا نظرنا إلى مضمون “الدعوة الوهابية” وجدناه مضمونا دينيا خالصا : محاربة “البدع” التي تنحرف بعقيدة التوحيد الإسلامية فتنسب إلى غير الله ما لا يجوز أن ينسب له من أمور تحمل سمات الشرك بالله، وذلك مثل الحلف بغير الله والتوسل بالنبي (ص) بغير ما هو مقرر شرعا من الطاعة والدعاء الخ، وزيارة القبور والأضرحة للتبرك والتوسل بمن دفن فيها، والاعتقاد في التعاويذ والتعازيم ومخاطبة الجن في معالجة المصروع الخ.
وهذا “الفهم السلفي” للعقيدة، المبني على “التوحيد” قد جعل الدعوة الوهابية في مواجهة مباشرة مع “الطرقية” (الصوفية) التالي كانت واحدة من القوى الاجتماعية في المجتمع الإسلامي زمن الإمبراطورية العثمانية. ذلك ما أعطى للحركة الوهابية بعدا قوميا-دينيا: كان خصمها “الخارجي” هو الإمبراطورية العثمانية، وأما خصمها الداخلي فهو الطرقية وإيديولوجيتها ومسلكياتها. وهذا الخصمان يقعان معا داخل “دار الإسلام”، وبالتالي فالصراع في هذه المرحلة لم تكن له علاقة مع ردود الفعل التي ستقوم فيما بعد ضد التوسع الاستعماري الذي لم يكن قد أحدث بعد ما يطلق عليهم بعضهم “صدمة الحداثة”، والتي يربطونها بحملة نابوليون على مصر (1798) التي يفصلها عن حركة محمد بن عبد الوهاب نحو قرن من الزمان.
غير أن “صدمة الحداثة” هذه ستعمل على تحديث السلفية الوهابية، ولكن ليس في السعودية التي لم تتعرض لمثل هذه الصدمة (التي رافقت الاستعمار) بل في مصر، وبالضبط انطلاقا من حملة نابليون عليها. وكان ذلك مع محمد عبده (1849-1905م) الذي أسس السلفية النهضوية الإصلاحية”مع جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) الذي كان يجوب أقطار المشرق مستنهضا شعوبه وحكامه لمقاومة الغزو الاستعماري، خاصة منه الإنجليزي الذي اصطدم معه الأفغاني في شبه القارة الهندية.
كانت حركة الأفغاني وعبده، الفكرية والدعائية والعملية، نقلة نوعيا في مسار الحركة السلفية، تربطها بـ”الوهابية” علاقات اتصال وانفصال: كانت متصلة بها، بل وامتدادا لها، على صعيد محاربة البدع المتمثلة في الطرقية وفكرها ومسلكياتها، بوصفها انحرافا عن إسلام “السلف الصالح”. ولكنها قفزت بها قفزة نوعية حينما أكدت في نفس الوقت على أن هذه البدع وهذا الانحراف عن الإسلام الصحيح هما السبب الحقيقي فيما أصاب المسلمين من تأخر وانحطاط، مقارنة مع الغرب القوي المتحضر. إن فكرة “التقدم” التي كانت غائبة في فكر ابن عبد الوهاب أصبحت الآن الفكرة المركزية في سلفية الأفغاني وعبده. أضف إلى ذلك أن “الآخر” الذي كان محصورا عند ابن عبد الوهاب في الأتراك المحتلين أو المهددين باحتلال الجزيرة العربية، قد صار الآن طرفا يقع خارج “دار الإسلام”: إنه الغرب الاستعماري الذي يحتل أجزاء واسعة من العالم الإسلامي ويطمح إلى السيطرة على ما تبقى، بما في ذلك “الرجل المريض”، الإمبراطورية العثمانية التي تنظر إليها السلفية النهضوية هذه المرة على أنها الممثلة لـ “الخلافة الإسلامية” التي يجب استنهاضها وتقويتها وطلب المعونة منها للوقوف في وجه الاستعمار الغربي.
ومع أن وحدة الدوافع ووحدة الهدف كانتا تربطان الأفغاني وعبده برباط مقدس فإنهما سرعان ما اختلفا على مستوى الاستراتيجية. لقد أدرك محمد عبده أن الدعوة المباشرة لاستنهاض المسلمين جملة، والعمل على تعبئتهم للقيام بثورات جماهيرية، -وهي استراتيجية الأفغاني- لن يحن وقتها بعد، وأنه لا بد من نفس طويل، لابد من الجنوح إلى الوسائل السلمية، ونبذ سياسة العنف واجتناب معادة الحكام المسلمين، والانصراف بدلا من ذلك إلى تكوين أجيال تحمل الدعوة وتنشر التربية الإسلامية الخ. وإذا لزم اللجوء إلى نوع من المهادنة والمداهنة للإنجليز فلا مانع، ما دام ذلك يدرأ العدوان والمفاسد. وبالجملة فسلفية محمد عبده كانت سلفية إصلاحية نهضوية ولم تكن “ثورية” ولا “جهادية”. وفي هذا الإطار يمكن أن ينسب إليه نوع من اعتماد نمط من الفصل بين الدين والسياسة، قوامه تأجيل العمل السياسي إلى أن يتم تكوين ما يكفي من “الرجال” تكوينا صحيحا في الدين وغيره من علوم الوقت.
نعم لقد شهدت تلك المرحلة حركات سلفية أو ما يمكن اعتباره امتدادا لها، بصورة من الصور، لجأت إلى الثورة المسلحة (ثورة الأمير عبد القادر بالجزائر، المهدوية في السودان، حركة عمر المختار في ليبيا، ثورة ابن عبد الكريم الخطابي في المغرب …) ولكن هذه الحركات لم تكن تتحرك في أفق “عولمي”، بل كانت قطرية محلية الطابع. وهذا وذلك من جملة ما يميز “الإسلام السياسي” النهضوي الذي “نهض” لمقاومة الغزو الاستعماري الأوروبي لبلاد الإسلام، معتمدا العمل المباشر قطريا، والاقتصار على التضامن المعنوي (وأحيانا المالي) عالميا.
لم يكن ها الإسلام السياسي النهضوي يضع الولايات المتحدة الأمريكية مع دول الغرب في سلة واحدة. كان يركز مناهضته على الدول التي مارست الاستعمار، وغالبا ما كانت هذه المناهضة قطرية الطابع. فالتركيز لدى أقطار المشرق كان ضد بريطانيا خاصة، بينما كان التركيز في الغرب الإسلامي على فرنسا وإيطاليا وإلى حد ما إسبانيا. وأكثر من ذلك حرص “الإسلام السياسي” المناهض للاستعمار على استغلال المنافسة والخلاف بين الدول الاستعمارية سالكا مسلكا برغماتيا قوامه “عدو عدوي صديقي”.
***
من هذا العرض التاريخي السريع لتطور الحركة السلفية و”الإسلام السياسي” المرتبط بها نخلص إلى النتيجة التالية، وهي أن “الإسلام السياسي” المعاصر الذي ينسب إليه ما يعرف اليوم بـ”الإرهاب” ليس امتدادا للسلفية النهضوية التي حملت مشعل “الإصلاح الديني” ورفعت راية مقاومة الاستعمار … نعم هو يقع على نفس الخط والمسار؛ غير أن وحدة المسار لا تعني بالضرورة وحدة السير ولا وحدة “الراحلة”. وكما قلنا قبل فإن الاتصال بين الأشياء والظواهر يجب أن لا يحجب عنا ما يثوي تحته من انفصالات وقطائع تشكل بدايات جديدة.
كانت سلفية الأفغاني و عبده (السلفية النهضوية الإصلاحية) نقلة نوعية قياسا مع سلفية محمد عبد الوهاب. أما السلفية التي تسمي نفسها اليوم بـ “السلفية الجهادية” فهي نقلة نوعية مغايرة : ترتبط بالوهابية على صعيد “السلف” فهي من هذه الناحية نكوص بالنسبة للسلفية النهضوية الإصلاحية، ولكنها من ناحية أخرى “تجاوز” لها من حيث قفزها على القطرية والوطنية وتطلعها إلى التحول إلى “عولمة مضادة”، تجسم ما دعوناه في الحلقات الماضية بـ “النقيض الخارجي” للأمركة، للعولمة/الإمبريالية/ الأمريكية.