بقلم : زهير الخويلدي
“لقد أخفت السياسة عني لوقت طويل السياسي”1
يبدو أن أساس السياسي عند “ريجيس دوبريه” في كتابه “نقد العقل السياسي” هو الديني بمعنى الرمزي والمتعالي والمقدس والمعتقد.
إنها النتيجة التي توصل إليها عالم الاجتماع الفرنسي في نقده الطويل للحياة السياسية ولقد تعاكس في ذلك مع كارل ماركس الذي سبقه في تثبيت الاقتصاد وبدقة أكبر علاقات الإنتاج والقوى المادية للإنتاج والطبقات الاجتماعية الركيزة الضرورية والبنية التحتية التي تحدد كل من السياسة والثقافي والديني ومعظم مكونات البنية الفوقية وجميع الأجهزة الإيديولوجية للدولة مثل القضاء والتعليم.
يبدأ دوبريه كتابه بنقد معنى الايديولوجيا والكشف عن ضمنيات البدائل وخلفيات التنظيمات ووظائفها الحقيقية والمصالح المستهدفة من تشكلها ويقوم بتشريح الوهم غير الإجرائي الذي يحجب الواقع وينادي بالكف عن الاعتقاد في تبني إيديولوجيا عقلانية خالصة والتخلي عن الزعم بامتلاك قراءة موضوعية للواقع الاجتماعي ويكشف على أن الايديولوجيا هي عاطفية ومرتبطة بأمر الانتماء إلى مجموعة إنسانية.
يدرس ريجيس دوبريه شروط تشكل التنظيمات الهووية وقيام الأحزاب السياسية ووظيفة المجموعات البشرية الثابتة ويكشف الروابط المتينة التي يمكن أن تقوم بين قوة المعتقدات الإيمانية وصلابة الأفكار الدينية واستقرار الكيانات وانسجام المجموعات التي تتبنى تلك الأفكار التحشيدية والرؤى الإيمانية. لكن لماذا يرى دوبريه حتمية وجود معتقد داخل كل جماعة؟ كيف تكون طبيعة الجماعي دينية ضرورة؟
يحاول دوبريه الاجابة على هذا السؤال الأول بواسطة مفهوم اللا امتلاء واللا اكتمال ويفسر ذلك بقوله: “مع مفهوم اللا اكتمال أعمم على النظام السياسي ما تقوله قاعدة غودل في نظام المنطق التي تبين بأنه لا يمكن لأي نسق أن يؤسس حقيقته دون الرجوع الى عامل خارج عنه، بمعنى آخر لا يوجد أي نسق برهاني في ذاته، أحاول أن أوضح على ضوء هذا النسق الاجتماعي ماهية إذن هذا العنصر الخارجي”.
من طبيعة النسق الاجتماعي أن يترك المجال الى وسيط خارجي يتحمل مسؤولية التنظيم وتحقيق التناغم ويسمح بتأسيس الحقيقة وبالتالي لا تدرك المجموعة هويتها إلا عبر تمثلات أو أفضل بواسطة كاريزما. وبالتالي تبقى المجموعة مدينة للوسيط الخارجي باستمرار هويتها وبقاء وحدتها الكلية مصانة ومحفوظة.
بهذا المعنى تحتاج الجماعة السياسية إلى الديانة الطبيعية قصد التغلب على اللاإكتمال وسد أبواب النقصان ولا يمكن التعامل مع الديني هنا كنسق من المعتقدات وإنما يتم أخذه كمعطى لتصريف المقدس الاجتماعي. هذه الطبيعة الدينية للجماعي تفرض على كل المجتمعات خصوصياتها بما فيها المجتمعات التي تزدريها.
يشكل المعتقد عنصرا طبيعيا للجماعي ويتحول إلى أرتدوكسية ودوافع عميقة عميقة توجه الفعل السياسي وتحدد مصير الجماعي وتمثل بالخصوص نسق مقاومة ودفاع ضد كل اعتداء خارجي وكل تفكك داخلي.
يبرهن دوبريه على هذا التلاحم باستعصاء قسمة الوحدة المفهومية التي تكون السياسي والديني والعسكري ويرى أن الايديولوجيا الدينية تؤدي وظيفة الجهاز الاجتماعي وتمنح التنظيم الذاتي وتتفادى الانقلابات وتضمن الاستقرار والانسجام وتتدارك فترات الفراغ والانتقالات الفجئية وتحقق توازن اثني وهووي.
لا مجال للاعتقاد إذن بأن ملاحظة المجتمعات البشرية الحديثة تأذن بمصادفة مجتمع بلا ايديولوجيا وبلا منظومة إعتقادية تؤدي وظيفة اجتماعية وتضفي المعنى على العالم الذي يعيش فيه أفراد ذلك المجتمع.
ما فتئت السياسة تجعل الناس حمقى ومجانين ولاعقلانيين وخطرين وباحثين عن الانتقام والثأر وطامعين في المجد والسلطة والثروة وهذا ما يقوله الحس المشترك ويؤيده المنهج التحليلي الجدلي لريجيس دوبريه.
لا شيء يحدث للمرء دون سبب معلوم وتوجد جملة من العلل جعلت الناس يقعون ضحية اللاّ عقل ويتبعون الأهواء وربما سؤال دوبريه الثاني هو الآتي: لماذا يفقد الناس عقولهم من أجل أن يعيشوا في مجموعات؟
يتطلب معالجة المشكل واجب الصعود إلى شروط إمكان انبثاق الهذيان الجماعي والهوس الإيديولوجي وعلى هذا الأساس يشرع دوبريه في امتحان مكونات الخطاب السياسي وذلك بتحليل لغة الهذيان الجماعي وتشريع الايديولوجيا الثاوية وتفحص البنية المنطقية التي تسمح بتشكل جماعة سياسية مستقرة ومنسجمة.
يحدد لاإكتمال المجموعة المغلقة استعمالها الممكن لقابلية أفرادها للفعل والتنظم الجماعي، ولا تعمد إلى إتباع مسارات ايديولوجية كثيرة وفق سرعات متفاوتة بل تختار مسار اعتقادي واحد وفق سرعة منتظمة.
غير أن الطبيعة الدينية للوجود الجماعي تتبلور بطريقة مادية وتشكل اللاوعي السياسي للبشرية وتعمل على تنظيم اللاّمتغيرات والدوال الثابتة في سلوك الأفراد وفي تحديد العلاقات بين العناصر المكونة للسياسي. لكن اذا كانت الأحزاب السياسية العصرية تضمر خلفية دينية أين العجب في أن تحمل الجماعات الدينية مواقف سياسية؟ ألا يجب أن تخرج الطبيعة الدينية من ظلمات اللاوعي إلى أنوار الوعي؟
- عن موقع التجديد العربي
- الاحد 15 نونبر 2015
- Régis Debray, critique de la raison politique, éditions Gallimard, Paris , 1981.(1