اكتسى، هذه السنة (2015)، إحياء ذكرى اختطاف واغتيال عريس الشهداء المهدي بنبركة طابعا خاصا لكون هذه الذكرى تصادف مرور خمسين سنة على الجريمة التي ذهب ضحيتها قائد سياسي فذ وزعيم وطني وعالمثالثي صلب، وهو في أوج عطائه. فمنذ نصف قرن والحظر مفروض على الحقيقة في هذه الجريمة السياسية النكراء التي تورطت فيها أطراف متعددة، وطنية ودولية. وإلى يومنا هذا، لا يزال عريس الشهداء دون قبر ولا تزال عائلته الصغيرة، كما عائلته الكبيرة، تطالب بالكشف عن الحقيقية.
وقد تميز الاحتفاء بذكرى الشهيد لهذه السنة، بمناسبة الذكرى الخمسين لاختطاف واغتيال المهدي بنبركة (والمناسبة شرط، كما يقول الفقهاء)، بعقد لقاءين متباينين و ربما متعارضين من حيث الدوافع، لكنهما متكاملين من حيث الأهداف الظاهرة؛ وذلك بالعاصمة الرباط، مسقط رأس المهدي ومحل إقامته: اللقاء الأول نظم يوم الخميس 29 أكتوبر من قبل قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بسينما رويال؛ أما اللقاء الثاني، فقد نظم يوم الجمعة 30 أكتوبر بالمكتبة الوطنية من قبل رفيق درب الشهيد المهدي الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
وبعيدا عن قراءة النوايا، وبالأخص السيئة منها (حتى وإن كانت حاضرة عند البعض، وبقوة كما تدل على ذلك بعض القرائن)، فإني أجد، شخصيا، في المكان والزمان المختارين لكل لقاء ما يكفي من مبررات ومسوغات لتنظيم اللقاءين معا ليتكاملا من أجل إبراز قامة وقيمة المحتفى به، إن ماضيا أو حاضرا، إن وطنيا أو دوليا، إن سياسيا أو إنسانيا، إن تنظيميا أو مؤسساتيا، إن فكرا أو ممارسة…
فالقاعة السينمائية التي اختارتها قيادة الاتحاد الاشتراكي لتخليد الذكرى الخمسين لاختطاف واغتيال القائد الاتحادي الرمز، تعتبر الأنسب للقاءات الجماهيرية التي تُلقى فيها الخطب السياسية؛ أما قاعة المحاضرات في مؤسسة مثل المكتبة الوطنية، فتعتبر الأفضل لنشاط ذي الطابع الأكاديمي الذي تلقى فيه مداخلات، حتى وإن كان موضوعها سياسيا، يغلب عليها الجانب الفكري والعلمي. ومن هنا، التكامل (أو على الأقل، بعض التكامل) الذي أشرت إليه في الفقرة أعلاه.
لقد دأبت قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المنبثقة عن المؤتمر الوطني التاسع، على تنظيم يوم الوفاء للشهداء؛ ويقام كل سنة، بشكل دوري، في مدينة من المدن المغربية. وقد اختارت لهذا الحدث يوم 29 أكتوبر، تاريخ اختطاف واغتيال “المهدي بنبركة”، الذي جعلت منه يوما وطنيا (يوم الشهيد) للتعبير عن الوفاء لشهداء الاتحاد؛ إذ أصبح هذا اليوم قارا في أجندة القيادة الحزبية، ومن المحطات الأساسية في الأنشطة الإشعاعية التي تنظمها. وقد تم إحياء الذكرى هذه السنة تحت شعار “المهدي بنبركة نصف قرن من الحظر المفروض على الحقيقة”.
وكان لافتا، في المهرجان الخطابي الذي أقيم بالمناسبة في سينما رويال، الحضور المتميز للهيئات والمنظمات الحقوقية؛ إذ اقتصرت الكلمات السياسية على كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، وشهادة الأستاذ عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول السابق للحزب، حول ظروف تعرُّفه على الشهيد المهدي والدور الحاسم الذي كان لهذا الأخير في مساره السياسي، وبينهما صدحت أصوات الجمعيات الحقوقية التي توالى رؤساؤها وممثلوها على المنصة للتعبير عن تضامنهم مع الاتحاد الاشتراكي وتأكيد دعمهم له في نضاله من أجل الكشف عن الحقيقة.
أما اللقاء الثاني الذي أشرف على تنظيمه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي، فقد تميز بطابعه الأكاديمي. لقد اختار اليوسفي أن ينظم، بالمناسبة (مناسبة مرور نصف قرن على اختطاف واغتيال رفيق دربه)، ندوة دولية حول “مكانة الشهيد المهدي بنبركة في التاريخ المعاصر”، ودعا لتأطيرها أكاديميين وباحثين وسياسيين، مغاربة وأجانب (لم يسعفني الحظ، مع الأسف، للحضور في هذه الندوة؛ وبالتالي، فليس لي فكرة واضحة عما دار وما راج فيها وحولها وعلى الجو الذي ساد أطوارها).
لن أخوض في ما قامت به بعض الجهات (إعلامية وسياسية) من استغلال مفرط وبشع لهذه المبادرة، منذ الإعلان عنها، للتشويش على الذكرى السنوية التي تقيمها القيادة الحزبية، بغية النيل من هذه الأخيرة وتصفية بعض الحسابات معها، وبغية زرع البلبلة والشكوك بين الاتحاديات والاتحاديين، من خلال تشويه الحقائق وتقديم قراءات مغرضة للحدث. كما لن أخوض، على الأقل حاليا، في الرسائل السياسية، الواضحة منها والمشفرة، لكلا اللقاءين، وسأكتفي بالإشارة إلى تلك الرغبة- التي تم التعبير عنها، بهذه الصيغة أو تلك في كلا اللقاءين- في تحقيق وحدة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومن ثم وحدة اليسار.
لقد أكد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، في ختام كلمته أمام الحشود الحاضرة بسينما رويال، “أن أخلص وفاء لذكرى شهيدنا المهدي بنبركة، وأصدق استحضار لروحه، وأروع استلهام للقيم والأخلاق التي ناضل من أجلها، هو أن نحافظ على شعلة التقدم مضيئة في هذا البلد، هو أن نسهر على تقوية الصف الوطني الديمقراطي، وأن نجتهد في إبداع أفضل الصيغ النضالية الملائمة، وفي ابتكار أرقى الأشكال الميدانية لتجميع قواتنا وتفعيل طاقاتنا، ضمن مقاربات اندماجية هادفة تتوخى التمكين من أجل إحداث التغيير المنشود ومن أجل تجذير المسار الإصلاحي”.
أما عبد الواحد الراضي فقد ختم شهادته المؤثرة بقوله إن أحسن وفاء لروح الشهيد هو العمل على وحدة الحزب؛ وبتوحيد الاتحاد لأبنائه، سيوحد اليسار؛ وفي ذلك خدمة كبرى للبناء الديمقراطي وللحداثة والتقدم، ومن ثم للوطن ولمصالحه العليا.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ انعقاد اللقاءين (29 و30 أكتوبر)، فسوف نستشف الرغبة في إتاحة الفرصة، لمن يستطيع إلى ذلك سبيلا، للمشاركة في اللقاءين معا. ويكفي التمعن في الوجوه الحاضرة في المكتبة الوطنية، من خلال بعض الصور(لمن لم يكن حاضرا في الندوة، مثلي) المنشورة أو بعض مقاطع الفيديو، لنكتشف الكثير والكثير من الوجوه الاتحادية واليسارية المعروفة، ومن بينهم الكثير ممن تمكنوا من الحضور في المحطتين (وهذا بفضل التاريخ الذي اختير للقاء الثاني؛ فهل كان هذا الاختيار اعتباطيا؟ الله وحده، وكذا الجهة المنظمة، يعلم ذلك)، مجسدين بذلك الرغبة في الوحدة و”جمع الشمل”.
وإذا كنا نأسف على غياب وجوه اتحادية بارزة على اللقاء الأول، لكنها حضرت في الثاني، وأخرى غابت عن الثاني وحضرت في الأول، فأسفنا يزيد بخصوص غياب وجوه أخرى عن اللقاءين معا(ونتمنى أن يكون المانع خيرا).
على العموم، لقد أدى كل لقاء مهمته (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) وبعث كل منهما رسائله. وتبقى الرسالة الأساسية، من بين كل الرسائل، من وجهة نظري المتواضع، هي تلك الموجهة، إما صراحة وإما ضمنيا، إلى المناضلات والمناضلين في الاتحاد وفي العائلة الاتحادية وعموم اليسار، مفادها ضرورة تجميع القوات ولم الصفوف واتخاذ المبادرات الضرورية لتجاوز أعطاب الذات. وسيكون هذا هو أفضل وفاء لروح المهدي ولباقي الذين استشهدوا دفاعا عن الكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
لقد وجهت القيادة الاتحادية الحالية، في شخص الكاتب الأول للحزب، الأخ إدريس لشكر، والقيادة السابقة، في شخص الكاتب الأول السابق، الأخ عبد الواحد الراضي، نداءا صريحا من أجل العمل على تثبيت أركان البيت الاتحادي ليلعب دوره الريادي في تعزيز النضال الديمقراطي (وعبَّر عن نفس الرغبة، ولو بشكل ضمني، كل من أصر على الحضور في اللقاءين معا، تجسيدا للوحدة، ولو بشكل رمزي، على أرض الواقع). فهل سيلبي المناضلون النداء؟
أفضل، حاليا، أن أمسك عن الخوض في هذا الأمر وأكتفي بالإشارة إلى أن هذا السؤال لا يعني أصحاب عقلية “أنا أو الطوفان” أو الذين تحركهم الرغبة في الانتقام، إما من أشخاص وإما من هيئة معينة، أو الذين يحملون في قلبهم غير قليل من الغل والحقد على هذا أو ذاك أو الذين تسيطر عليهم نزواتهم الذاتية أو يغلب عليهم ميولهم الانتهازي… وإنما يعني المناضلين الناكرين لذواتهم قدر المستطاع والحاملين لهموم الجماعة والحالمين بتنظيم حزبي ديمقراطي قائم على احترام المؤسسات وعلى مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة… وفي ذلك فليتنافس المتنافسون !!