كل الحكومات في البلدان الديمقراطية العريقة، تحرص على إيلاء الشأن التعليمي عناية خاصة، باعتباره رافعة أساسية للتنمية البشرية، وتسارع إلى الاحتفاء باليوم العالمي للمدرس كلما حل الخامس أكتوبر من كل عام، امتنانا بما يتحمله المدرس”ة” من مشاق في سبيل تربية وتكوين الأجيال، وعما يسديه من جليل الخدمات لإسعاد الإنسانية جمعاء.

بيد أن رئيس الحكومة السيد بنكيران، ومع مطلع موسم دراسي بئيس: 2015/2016، أبى إلا أن يغتنمها فرصة لمواصلة إصراره على تثبيط العزائم، وإرسال أسوأ كلمة تكريم لأسرة التعليم، محملا إياها مسؤولية فشل إصلاح منظومة التربية والتكوين.

ذلك أنه، بمجرد مرور أقل من أسبوع على هذه المناسبة الخالدة، حتى خرج علينا عبر شريط فيديو، نشر على نطاق واسع في الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، لا ندري متى ولا أين تم تصويره؟ يقول بشكل عام “معلوم أن تفشل كل محاولات إصلاح التعليم، مادام المعلم والأستاذ والمدير والمفتش والمعيد ومن لا أعرف، لا يحملون هم ما يجري، ولا يطالبون إلا بالمزيد من المكاسب دون تقديم التضحيات.. وأن البلاد كان يتهددها خطر داهم…” وما إلى ذلك من خزعبلاته، التي دأب على ترديدها منذ أن ساقته الصدفة إلى تولي مسؤولية قيادة “السفينة”. فأي مغالطات أخطر من أن تتحول المطالبة بالحقوق إلى لامبالاة وعدم التضحية؟

لقد كان حريا بسيادته، الإقرار بفضائل نساء ورجال التعليم، الذين نذروا أنفسهم قرابين لخدمة الصالح العام، وما فتئوا يبذلون كل ما في وسعهم من أجل تنوير العقول والنهوض بمستوى الناشئة، إيمانا منهم بقدسية الرسالة التربوية النبيلة المنوطة بهم، وتقديرا لثقل المسؤولية الملقاة على كاهلهم. وأن يدرك بأن صناعة أجيال المستقبل، ليست بالمهمة الهينة كما يظن بعض التافهين، وأن بلوغ غاياتها ومراميها رهين بمدى حرص الدولة على الرفع من شأن ومعنويات المربين، والعناية بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. وأن يبادر بلا تردد إلى تحفيزهم والعمل على إنصافهم وتمكينهم من حقوقهم المشروعة، والتعجيل بإخراج النظام الأساسي الجديد، شريطة الاستجابة لانتظاراتهم. والتفكير الجدي والمسؤول في توفير الموارد البشرية اللازمة والحد من الهدر المدرسي، ومعالجة الاختلالات البنيوية والهيكلية القائمة… بدل استفزازهم وبث الإحباط في نفوسهم، وشيطنتهم وتبخيس جهودهم، وبالتالي تحميلهم أوزار الواقع المتردي للمنظومة التعليمية، الذي أنفقت من أجل تجاوزه ميزانيات ضخمة من أموال الشعب دون جدوى.

وكان من باب أولى، الانشغال بدراسة الإشكالات المعقدة، والشروع في إيجاد حلول ناجعة لها، ومنها إصلاح التعليم والقضاء والصحة وتوفير مناصب الشغل للعاطلين وخاصة ذوي الشهادات العليا، وإيجاد الآليات الكفيلة بدفع العجلة الاقتصادية صوب كسب رهان التنمية، والتعجيل بتنزيل القوانين التنظيمية المكملة للدستور، والاتجاه باللوم للمفسدين الحقيقيين من المسؤولين المتورطين في سوء التدبير والجرائم المالية، عبر التلاعب بالصفقات العمومية المشبوهة ونهب وتهريب وتبديد المال العام، وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة…عوض تحويل أسرة التعليم وغيرها من الأسر المهنية إلى مشجب لتعليق إخفاقاته المتوالية.

إن معظم نساء ورجال التربية والتعليم، أشرف من أن يلطخ سمعتهم كلام طائش من أي جهة كانت، كبر شأنها أم صغر، ولا أن تنال من عزائمهم الأقلام المغرضة والأبواق المزعجة في مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والمواقع الإلكترونية، وقد عاهد شرفاؤهم أنفسهم على البقاء مخلصين لمهامهم وأوفياء لالتزاماتهم، متشبثين بالقيم الأخلاقية وحريصين على القيام بواجباتهم وفق ما تمليه عليه ضمائرهم، اعتزازا بمغربيتهم وتمسكهم بمواطنتهم الصادقة، غير مبالين بتلك الضربات العشوائية مهما بلغت قسوتها، فلن تزيدهم إلا إصرارا على شق طريقهم بهمة وحيوية…

ففي تقديري المتواضع، كان من اللازم على رئيس الحكومة القيام بوقفة تأمل عميقة ومساءلة نفسه، عما أعدته حكومته في نسخها الثلاث طيلة الأربع سنوات الماضية، للشغيلة التعليمية من فضاءات تربوية وموارد مالية ووسائل ديداكتيكية وبيداغوجية… وكل ما يساهم بفعالية في تطوير المهنة من مناهج وبرامج دراسية حديثة، وتجويد تكوينات الأطر التربوية والتعليمية، لتمكينها من امتلاك المزيد من الكفايات المهنية والتربوية الضرورية لتيسير مأموريتها، عوض الإمعان في تجريحها والتشكيك في نواياها؟ وماذا عملت لتحسين أحوالها المادية ودعم استقرارها النفسي والاجتماعي…؟

من المؤسف ازدياد الوضع التعليمي تأزما، فيما يحاول أصحاب القرار التملص من مسؤولياتهم، ومحاولة إلصاق التهم بأشخاص أبرياء والحط من كرامتهم. فالمشكل أكبر وأعمق من عدم اهتمام الأطر التعليمية بعملية الإصلاح، كما يزعم السيد بنكيران والسابحون في فلكه، وإنما يكمن في غياب إرادة سياسية قوية وحكامة جيدة، وإستراتيجية واضحة المعالم تؤسس لمدرسة عصرية ذات جودة وجاذبية، وفي نهج الدوائر الرسمية لسياسات عمومية فاشلة، تعتمد على الارتجال والترقيع والتخبط والمماطلة، والخوصصة وتفويت المدارس العمومية، والتراجعات الخطيرة عن المكتسبات، والانفراد بالقرارات دون مقاربات تشاركية حقيقية …

ومن الإجحاف، أن تتضاعف معاناة الأسرة التعليمية، وتتعمق جراحها بالافتراءات والمغالطات. وأن يتنكر سعادته وهو “المدرس” السابق، لما تقدمه من تضحيات جسام في المدن والحواضر والمسالك الوعرة بين الجبال والوديان، في ظل قساوة الظروف الطبيعية وقلة وسائل النقل، ناهيكم عن اكتظاظ فصول الدراسة (70 تلميذا بالقسم)، والأقسام المشتركة وإلغاء التفويج في المواد العلمية، وضعف البنيات التحتية وانعدام وسائل العمل الضرورية… ألا تعتبر مواجهة مثل هذه الإكراهات، جنسا من التضحيات؟

وإشفاقا منا على حال الرجل، الذي يبدو أن حجم المسؤولية أفقده الكثير من لباقته ولياقته، يجدر بنا إنعاش ذاكرته التي يظهر أنها أصيبت بالقصور، عبر تذكيره ببعض ما قدمه هؤلاء “الجنود” من تضحيات، لعله بذلك يعود إلى جادة الصواب في ما تبقى له من شهور على نهاية ولايته، إذ يكفيهم شرفا انخراطهم في الساعات التضامنية التي انطلقت مع مطلع الثمانينيات، حين لجأ المغرب إلى سياسة التقويم الهيكلي خلال ما عرفه من إكراهات اقتصادية، حيث لم يترددوا لحظة في الاستجابة لطلب المغفور له الملك الحسن الثاني، والتطوع للقيام بأربع ساعات إضافية في أسلاك التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي، تضامنا مع تنمية الأقاليم الجنوبية، دون أن يتم التراجع عنها إلى اليوم. فضلا عن مواصلة البالغين سن التقاعد القانوني عملهم إلى غاية 31 غشت من كل موسم دراسي، في انتظار إصلاح نظام التقاعد وسد الخصاص الحاصل، وما يتهدد المعلمات العازبات من أخطار في القرى والمداشر النائية، وما يعانيه الأزواج من تشتت أسري لا تنفع الحركات الانتقالية في إنهائه، علاوة على ما يتعرضون إليه جميعا من عنف وإهانات على أيدي التلاميذ وذويهم، وخاصة أثناء المراقبة في امتحانات البكالوريا…

من هنا، يتضح أن تكريم المدرسين، بات واجبا وطنيا، يستدعي تمتيعهم بكامل حقوقهم، وتوفير الشروط الضرورية من أمن وسلامة واستقرار لأداء مهامهم، فهم بناة حاضر ومستقبل الأمة…

  • الجمعة 16 اكتوبر 2015

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…