“نشرة المحرر “..نظرا لاهمية مساهمات الراحل محمد الجابري في التنظير والتحليل العلميين الرصينين للواقع المغربي والعربي والاسلامي ..ارتاينا اعادة نشر هذا المقال في اطار تسليط بعض الاضواء على التحولات التي يعرفها المغرب في علاقته بتحولات محيطه القاري والعالمي …
اليمين واليساراليوم …. بأي معنى؟
1- ضرورة إعادة تحديد المفاهيم !
أثار انتصار حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات الأخيرة بتركيا اهتما كبيرا لدى جميع الملاحظين، والسبب الرئيسي في هذا الاهتمام هو انتماء هذا الحزب إلى التيار الإسلامي في الجمهورية التركية العلمانية، إن لم يكن الممثل الرسمي لهذا التيار في الظرف الحاضر. ولكي ينفي زعماء هذا الحزب عن حزبهم هذه الصفة، صفة تمثيل التيار الإسلامي، بادروا منذ اللحظة التي ظهر فيها انتصارهم إلى التخفيف من علاقتهم بـما يعرف دوليا بـ “الإسلام السياسي” والتصريح بكونهم لا يناهضون العلمانية بل يحترمون دستور البلاد الذي ينص عليها وأنهم متمسكون برغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي الخ.
وسواء كانت هذه التعهدات والتصريحات تعبر عن أهداف استراتيجية أو عن تحركات تكتيكية ظرفية اقتضتها طبيعة الوضع السياسي في تركيا، فإن اللافت للنظر هو أن التعريف الإيجابي الذي اختاره زعماء هذا الحزب لمنظمتهم هو وضعها في خانة “اليمين المحافظ”. ومع أن هناك أحزابا “يمينية” في تركيا خسرت الانتخابات ولم تحصل حتى على نسبة 10% التي تؤهلها للدخول إلى البرلمان فإن “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي التوجه، قد خاض الحملة الانتخابية بوصفه كذلك ولم نسمع عن وصف “اليمين” المحافظ الذي خلعه على نفسه إلا بعد نجاحه الساحق في الانتخابات!
والسؤال الذي يهمنا هنا هو التالي: بأي معنى يجب فهو “يمينية” هذا الحزب “اليميني” الإسلامي المنتصر في تركيا، الذي لم يتردد في التصريح باحترام النظام العلماني القائم؟
قبل شهر ونصف جرت انتخابات حرة نزيهة –في جملتها- بالمغرب، وقد فوجئ الملاحظون ببروز حزب مغربي يحمل الاسم نفسه (حزب العدالة والتنمية) وينتمي إلى التيار عينه (تيار الإسلام السياسي). لقد حصل هذا الحزب على عدد من المقاعد يقترب من العدد الذي حصل عليه الحزبان الوطنيان الكبيران حزب الاتحاد الاشتراكي “اليساري” وحزب الاستقلال “اليميني”. ولو أن هذا الحزب –حزب العدالة والتنمية- اضطر إلى تعريف نفسه تعريفا سياسيا إيجابيا، لقال إنه حزب “يميني محافظ”، تماما كما فعل سميه التركي. ذلك أن هذه الحزب لا يخفي خصومته للاتحاد الاشتراكي “اليساري” والتقاءه مع حزب الاستقلال “اليميني”.
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا هو السؤال السابق نفسه: بأي معنى يجب فهم “يمينية” هذا الحزب “اليميني” الإسلامي الذي احتل موقعا معتبرا في الانتخابات الأخيرة بالمغرب، والذي لا يحتاج إلى التصريح باحترام النظام الملكي في المغرب لأن رئيسه الدكتور الخطيب هو أحد شخصيات القصر المعروفة منذ عام 1955، ولأن أطر هذا الحزب الذين كانوا يشكلون في الأصل جمعية إسلامية لم يسمح الحكم لهم، على عهد المرحوم الحسن الثاني، بالتحول إلى حزب إلا بـ” الدخول الجماعي” في حزب الدكتور الخطيب، الذي كان مجرد إطار فارغ تماما يوم دخلوه؟ ليس هذا الحزب إذن في حاجة إلى الإعلان عن احترامه للنظام الملكي في المغرب –كما فعل سميه بالنسبة للنظام العلماني في تركيا- فوجوده قائم أصلا على الاعتراف المسبق بالملكية في المغرب كما هي.
ولو قدر للعملية الانتخابية في الجزائر في أوائل التسعينات أن تتابع طريقها بسلام لما ترددت جبهة الإنقاذ الإسلامية في وصف نفسها بـ “اليمين” بهذا المعنى الذي وصف به حزب العدالة والتنمية في تركيا نفسه. ولو أنه أجريت انتخابات نزيهة شفافة في الأقطار العربية الأخرى لحصل فيها الشيء نفسه، إما بمقدار ما حصل في تركيا وإما بمقدار ما حصل في المغرب، أو بمقدار ما حصل في البحرين… والمهم هو أن الأحزاب والجماعات الإسلامية لن تترد في قبول وصفها بـ“اليمينية”؟
أما إذا انتقلنا إلى أوروبا فسيكون من السهل علينا أن نلاحظ أن حزب العمال اليساري قد تحول إلى حزب يميني في سياسته الخارجية وربما في كثير من مرافق السياسية الداخلية، ولولا أنه خصم تقليدي لحزب “المحافظين اليميني” لما تردد زعيمه الحالي في قبول وصف “يميني” أو “يساري محافظ”. وفي فرنسا فوجئ الجميع في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بتقدم زعيم الحزب اليميني المتطرف “لوبان” بصورة أدخلت الرعب في قلوب الفرنسيين مما جعلهم، وفي مقدمتهم اليسار الفرنسي- يتجندون للتصويت في الدورة الثانية لشيراك الذي يمثل أصلا “اليمين” (المعتدل، قياسا إلى المتطرف لوبان). وأخيرا وليس آخرا أسفرت الانتخابات الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية عن فوز الحزب الجمهوري الذي يصنف في “اليمين” مقارنة مع منافسه الحزب الديموقراطي “اليساري”.
والسؤال الذي يطرح نفسه مرة أخرى هو السؤال السابق نفسه: بأي معنى يجب فهم “يمينية” هذه الأحزاب؟
قبل محاولة تلمس الجواب عن هذا السؤال ينبغي استحضار معنى “يسار” و”يمين” في الخطاب السياسي الحديث. ولنبدأ بمفهوم: اليسار، ومن خلاله سنتعرف على مفهوم “اليمين” بصورة أوضح، “فبضدها تتميز الأشياء”.
معروف(1) أن كلمة “اليسار” ظهرت كمصطلح سياسي عندما استعملت أول مرة في أحد برلمانات أوربا، إشارة إلى النواب الذين كانوا يجلسون على يسار الرئيس، بينما سمي الذين كانوا على يمينه بـ “اليمين”. وكان من المصادفة أن الذين كانوا يجلسون على يساره كانوا يمثلون بصورة عامة الطبقة العاملة والقوى الكادحة على العموم، في حين كان الذين يجلسون على يمينه يمثلون قوة الرأسمال والأغنياء وأصحاب الأموال على العموم أيضا. من هنا إذن بدأ مصطلح “اليسار” يأخذ مضمونا أو بعدا إيديولوجيا، فصارت إيديولوجيا اليسار تعبر بصورة أو بأخرى عن هذه الواقعة الاجتماعية. وعندما انتشرت الماركسية بين صفوف المثقفين وصفوف العمال، وكان هذا في أوربا بطبيعة الحال، ارتبط اليسار نوعا ما من الارتباط بالفلسفة الماركسية نفسها. وبما أن رجال الكنيسة عموما كانوا مع القوى القديمة أي مع القوى المالكة لزمام الأمور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أي مع اليمين، فلقد صنفت الكنيسة وبالتالي الدين بالمفهوم الأوربي مع اليمين وربط به، بينما اعتبر اليسار ممثلا لتلك الطبقة الكادحة وعلى العموم للفئات الاجتماعية المتحررة نوعا ما من الهواجس الدينية.
هكذا إذن، أصبح مفهوم يسار/يمين ذا بعدين، بعد اقتصادي يتحدد أساسا بالعلاقة مع وسائل الإنتاج (بملكيتها: اليمين، أو عدم ملكيتها: اليسار)، وبعد إيديولوجي يتحدد أساسا بنوع النظرة الميتافيزيقية للكون، النظرة الدينية (اليمين)، والنظرة المادية الموسومة بالعلماية (اليسار). وبالارتباط مع هذين البعدين، ومع البعد الإيديولوجي بصفة خاصة، ظهر مرادفان، أو رديفان، لمصطلح يسار/يمين هو مصطلح تقدمي/رجعي، فأصبحت التقدمية سمة لليسار والرجعية سمة لليمين. وحيثما يكون البعد الاقتصادي في التصنيف ضعيفا أو منعدما كان البعد الإيديولوجي يقوم مقامه، وهكذا غدا التقدمي هو المتحرر دينيا، والرجعي هو المتمسك بالدين. فصار التقدمي بهذا المعنى يساريا حتى ولو لم يكن من صفوف الكادحين، وصار الرجعي بهذا المعنى أيضا يمينيا، حتى ولو لم يكن من صفوف الأغنياء.
وتعزز هذا التمييز المزدوج مع قيام الاتحاد السوفيتي وتزعمه للمعسكر الاشتراكي على الصعيد الدولي أي للطبقة العاملة كطبقة واحدة عبر العالم: “أيها العمال في جميع أنحاء العالم اتحدوا”. فأصبح اليسار –أو مصطلح اليسار- يتحدد إضافة إلى ما سبق بالارتباط مع الاتحاد السوفيتي، واليمين يتحدد بالارتباط مع الغرب الرأسمالي. هكذا أضيف بعد ثالث هو البعد الدولي إلى مضمون يسار/يمين.
وسيلعب هذا البعد الدولي دورا هاما خلال حقبة ما سمي بالحرب الباردة بين المعسكرين، إذ سيصبح الانتماء إلى اليسار يتحدد أساسا بمناصرة الاتحاد السوفيتي، والانتماء إلى اليمين يتحدد بالارتباط بالغرب الرأسمالي! وسيلعب هذا البعد الدولي دورا كبيرا وخطيرا في العالم الثالث حيث تحتفظ القبيلة والطائفة بمكانة في المجتمع تسمو أحيانا على مكانة الطبقة، نظرا لضعف الاقتصاد وتخلفه وغياب طبقة عاملة حقيقية صناعية تستحق هذا الاسم، وغياب طبقة رأسمالية مالكة لوسائل الإنتاج. فصار اليسار إذن يدل على انتماء دولي أكثر منه تعبيرا عن واقع اقتصادي اجتماعي! لقد أصبح دالا على مشروع مستقبلي يتحقق “في الحاضر”، في الاتحاد السوفيتي. وبما أن الاتحاد السوفيتي قد قام من أجل تحقيق الاشتراكية، فلقد ارتبط الكفاح من أجل الاشتراكية بالانتماء إلى معسكره. وصارت مناصرته مؤشرا على الاختيار الاشتراكي.
هذه المحددات الثلاث تغيرت اليوم أو على الأقل تعدلت كثيرا: فمن جهة، الاتحاد السوفيتي لم يعد قائما والمعسكر الاشتراكي الشيوعي أصبح في خبر كان. ومن جهة ثانية تعثر تطبيق الاشتراكية بل فشل عندما أصبح رهين بيروقراطية جامدة. وها نحن نشاهد “كفاحا” مريرا في روسيا من أجل العودة إلى الرأسمالية. أضف إلى ذلك أن الطبقات لم تعد كما كانت من قبل، لا من حيث تركيبها ولا من وظيفتها. فالصراع في المجتمعات المصنعة يميل اليوم إلى الكفاح من أجل توازن المصالح، مصالح العاملين والفنيين والفلاحين، ومصالح شركائهم في عملية الإنتاج من مدراء الشركات وأصحاب الأسهم وغيرهم. إنه لم يعد صراعا طبقيا بالمعنى الماركسي التقليدي للكلمة!
وهكذا لم يعد أحد، يسلم اليوم، بأن الصراع بين الطبقات سيؤدي إلى مجتمع لا طبقي أو إلى غياب الدولة. هذه فكرة لم تعد تحظى بأي اهتمام، على الأقل في أوساط المفكرين الذين في عقولهم متسع لآراء أخرى وقابلية للمراجعة. كذلك أصبحت الطبقات الاجتماعية التي كان ينظر إليها على أنها البديل التاريخي للقبيلة وبالتالي للقومية وللطائفة، وبالتالي للدين، أصبحت الطبقة الاجتماعية بهذا المعنى “تنهزم” أمامنا: تنهزم أمام كل من القبيلة والطائفة، أمام كل من القومية والدين. وها نحن نشاهد انبعاث الكنيسة في أوربا الشرقية وروسيا كما نشاهد صراع القوميات في كل مكان وبصورة دموية في أقطار كانت تنتمي عضويا وإيديولوجيا إلى ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، إلى بؤرة معسكر اليسار.
وفي العالم العربي نشاهد بصورة خاصة أن الدين قد صار ملاذا وشعارا للقوى التي تصنف موضوعيا ضمن اليسار. إن الجماعات الإسلامية ليست مجرد جماعات متشددة في الممارسات الدينية، وليست مجموعة، أو مجرد مجموعات، من رجال الدين الذين يمثلون بقايا المجتمع القديم! كلا إن مثال الجزائر في أوائل التسعينات من القرن الماضي ومثال تركيا اليوم الخ واضح للعيان: فتحت لواء الأحزاب التي توصف بـ”الإسلامية” انضوت كل القوى المطالبة بالتغيير، القوى التي كانت ولا زالت مهمشة، القوى المحرومة المهددة في مصيرها، المغتالة في طموحاتها، سواء درس هؤلاء في أقطارهم أو درسوا في أوربا، سواء كانوا ينتمون بتفكيرهم إلى الحقل العربي الإسلامي أو ينتمون إلى الحقل الثقافي الأوربي. كثيرون منهم مهندسون وأطر متخرجة من الكليات العلمية! فأين نضع هذه الجماعات التي تقود أوسع الجماهير المتعلمة وغير المتعلمة؟ هل نضعها في اليمين؟ أم نضعها في اليسار؟
إن الوضع الاجتماعي لهذه الجماعات، وجلها من الطبقة الكادحة (ولنقل من “الجماعات المستضعفة”) التي تنشد التغيير، يتناقض مع مفهوم “اليمين” بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي للكلمة، ولكنه يتناقض أيضا حسب إيديولوجيا اليسار مع ارتباطها التعبوي بالدين وبالزعامات الرافعة لشعار الدين! فكيف نفهم هذا “التناقض”؟
إن الأمر يطرح ضرورة إعادة تحديد مفهوم “اليسار” ومفهوم “اليمين”؟
ـــــــــــ
(*)- نستعيد هنا فقرات من نص مداخلة ساهمنا بها في ندوة عقدتها الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بالدار البيضاء في 30 يناير 1993 في موضوع : “مستقبل اليسار في المغرب !”
2- بدلا من التصنيف إلى يسار ويمين:
الكتلة التاريخية…!
منذ عقدين من الزمن و”اليسار” موضوع سؤال! إن المستجدات التي عرفها العالم عامة، والعالم العربي والإسلامي خاصة، بعد الثورة الإيرانية 1978 وبالخصوص منذ تضعضع الكتلة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي (1985-1991) جعلت اليسار العربي يعاني من أزمة، أزمة هوية وأزمة وجود! لقد بات مطالبا، بينه وبين نفسه قبل أن يطالبه غيره، بتعيين حدوده ومقابلاته: كيف يحدد نقيضه الاجتماعي وبالتالي التاريخي؟ كيف يحدد يمينه؟ هل يمينه هو الذي كان من قبل؟ أم أن الخريطة تغيرت وتستوجب إعادة النظر؟ هل يعتمد في التصنيف البعد الاقتصادي، أم البعد الإيديولوجي؟ أم سيكون عليه أن يبحث عن مقياس آخر؟ أم أن الوضعية الجديدة تفرض تجاوز التصنيف إلى يمين ويسار وإقرار تصور آخر؟
لقد كان اليسار دائما عبارة عن موقع على الخريطة السياسية الاجتماعية يحتله ممثلو الفئات الكادحة والمحرومة وشرائح من المثقفين والطبقات الوسطى إلى جانب صغار الفلاحين ومن لا أرض لهم. كان عموده الفقري دائما هم العمال. غير أن هذه الفئات الكادحة المحرومة، لم تكن تنتمي إلى اليسار فقط بوضعها الاجتماعي ذاك، بل كانت الإيديولوجيا والتنظيم يلعبان دورا أساسيا وحاسما في هذا الانتماء، وبعبارة أخرى كان اليسار دائما شريحة اجتماعية متميزة وإيديولوجيا محددة، إيديولوجيا التغيير التي تهدف إلى نزع السلطة السياسية والاقتصادية من اليمين، وتحقيق مجتمع العدالة والمساواة.
هذا في الحقيقة ما يميز اليسار عن اليمين. فاليمين في معناه السياسي –وليس في معناه اللغوي- محافظ بطبعه، يقاوم التغيير إذا كان في موقع المهيمن، أو يعمل من أجل الرجوع إلى ما كان من قبل، إذا حصل تغيير في اتجاه إيديولوجيا اليسار. اليمين لا يطرح مشروعا مستقبليا بل هو يحافظ على الواقع الحاضر أو يتجه إلى الماضي عندما يكون الحاضر ليس له. وإذن فالمشكلة، مشكلة التعريف والتعرف على الذات لا تطرح نفسها على اليمين، وإنما هي مشكلة خاصة باليسار لأنه هو وحده صاحب مشروع أو مشاريع للمستقبل
المشكلة هي مشكلة اليسار! والمشكلة التي تطرح نفسها عليه اليوم في العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة هي مشكلة التطابق بين الموقع الاجتماعي الذي يتحدد به اليسار، وبين الإيديولوجيا التي بها يتميز وما يرتبط بها من أساليب تنظيمية ونضالية. وقوام هذه المشكلة هي أن اليسار لم يعد يستقطب بمفرده –وهذا واقع نشاهده ويجب أن تعترف به- جميع القوى الحية الفاعلة في الموقع الاجتماعي الاقتصادي الذي يتحدد به موقع اليسار تاريخيا، بل لقد تقلص حجم اليسار إلى درجة كبيرة داخل هذا الموقع الذي أصبح فضاء لما يسمى دوليا بـ “الإسلام السياسي”. لم يعد اليسار –إذا وجد كتنظيم جدا- في وضع يمكنه من أن يتولى بمفرده قيادة القوى الاجتماعية والفكرية التي هي موضوعيا وتاريخيا في موقع اليسار. لم يعد هناك تطابق ما بين اليسار كإيديولوجيا وتنظيم وبين الموقع الاجتماعي الذي هو موقع اليسار أصلا. وإذا أردنا أن نستعمل تعبيرا آخر قلنا: لم يعد هناك تطابق بين الموضوعي والذاتي في فضاء اليسار.
إذن، كيف يصنف اليسار هذه القوى الجديدة التي تزاحمه على موقعه دون أن تشاركه في إيديولوجيا اليسار التقليدية؟ هل يعتبرها يمينا لمجرد أنها توظف الدين في تعبئة القوى التي هي موضوعيا قوى يسارية؟ وفي هذه الحالة أين نضع اليمين التقليدي أعني الماسكين لزمام السلطة الاقتصادية والسياسية، المستغلين لهما لمصلحتهم الخاصة على حساب مصلحة الأغلبية العظمى من الشعب؟
سؤال جوهري، نظري وعملي يفرض على اليسار مراجعة موقفه من الدين في المجتمعات العربية الإسلامية خاصة، ليس فقط بوصفه مقوما من أهم مقومات المجتمع وأكثرها صلابة كما بينت التجربة ذلك، بل أيضا بوصفه إحدى وسائل التعبئة، بل لعلها اليوم أكثرها تأثيرا وفعالية في تعبئة الجماهير الكادحة المحرومة…
هذا من جهة، من جهة أخرى إن انسحاب المعسكر السوفيتي من الميدان قد جعل طبيعة الصراع تتغير، سواء على المستوى العالمي أو على المستوى القطري الوطني. فعلى المستوى العالمي لم يعد الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية كما كان الشأن من قبل، بل لقد أصبح الصراع يكتسي شكل صراع بين الأقطار المصنعة الغنية والأقطار غير المصنعة الفقيرة، صراع بين الشمال والجنوب، وهو صراع يفتح الباب واسعا لعودة الروابط القومية والدينية والإقليمية لتحل محل الأممية، الشيء الذي تنعكس آثاره على الصراع داخل القطر الواحد، فيتحول هو الآخر من صراع طبقي يلغي القومية والوطنية ويخترقهما، إلى صراع طبقي وطني، قومي إثني مع القوى العالمية المستغلة، قوى الشمال وممثليها وعملائها في الوطن.
واضح أننا هنا أمام وضع جديد أشبه ما يكون بالوضع الذي كان عليه الحال زمن الاستعمار، حيث كان الصراع بين المحتل الأجنبي وعملائه من جهة، وبين القوى الوطنية بمختلف فئاتها واتجاهاتها الفكرية والإيديولوجية من جهة أخرى، هذه القوى التي كانت تشكل حلفا وطنيا ضد المستعمر وأذنابه وعملائه. وإذا أضفنا إلى ما تقدم الطابع الوطني للصراع القائم اليوم مع قوى الرأسمال العالمي، أي الشمال، فإن المهام المطروحة وطنيا هي مهام متعددة وجسيمة. مهام التحرر من التبعية وإقرار الديمقراطية وتحقيق التنمية الحقيقة؛ مهام لا يمكن -في ظل الوضعية الراهنة التي نعرفها جميعا- لا يمكن لفصيل واحد من فصائل القوى الوطنية القيام بها بمفرده، سواء حمل إيديولوجيا يسميها يسارا أو نطق باسم الدين أو باسم شيء آخر.
إذا أدركنا هذا، أدركنا كيف أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع، القوى التي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية التالية: التحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية، إقرار ديمقراطية حقيقية سياسية واجتماعية، تحقيق تنمية حقيقة في إطار تكامل إقليمي تجعل تلبية حاجات الجماهير الضرورية على رأس الأولويات.
هذه الكتلة ننعتها بأنها “تاريخية”، ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهدافا تاريخية، بل لأنها تجسيم أو يراد منها أن تكون تجسيما لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها إذن ليست مجرد جبهة بين أحزاب حتى ولو سمت نفسها “كتلة”()، بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها. وهكذا يمكن القول: إن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي:
أولا: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية أو فلاحية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية.
ثانيا: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الواضحة التي لا تمس لا وحدة الوطن ولا وحدة الشعب ولا الوحدة الروحية للأمة ولا الانتماء العربي الإسلامي للبلد.
ثالثا: القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والفلاحي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته.
رابعا: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة.
وإذن، فالكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة، وهي لا تستثني من صفوفها إلا من يضع نفسه خارجها. الكتلة التاريخية التي نتحدث عنها إذن تفتح صدرها لجميع القوى المذكورة، ولكنها لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها. ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل إن ما يجعل منها كتلة تاريخية هو انتظام الأطراف المكونة لها انتظاما فكريا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها.
والسؤال الآن هو كيف السبيل إلى تحقيق هذا الانتظام الفكري حول تلك الأهداف والعمل بالتالي من أجلها؟
إن التحرر من التبعية الاقتصادية والفكرية وإقرار ديمقراطية حقيقية سياسية واجتماعية وتحقيق تنمية مستقلة وجعل تلبية حاجة الجماهير الشعبية على رأس أولوياتها، تلك في الحقيقة هي العناصر التي تشكل المضمون الثابت للقوى الوطنية الشعبية التي يطلق عليها اصطلاحا اسم اليسار. وإذن فعلى هذه القوى سواء حافظنا لها على هذا الاسم أو أطلقنا عليها اسما آخر، تقع مهمة التبشير بالكتلة التاريخية والعمل من أجلها وتدشين عملية الانتظام الفكري حول أهدافها.
إن الفراغ الإيديولوجي القائم الآن (1993)(1) ليس من شأنه إلا أن يفسح المجال للتشرذم الفكري والغلو الطائفي والديني والتعصب القبلي، تماما مثلما أن عدم الارتباط بأهداف وطنية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يجعل المجهود الفردي الذي تبذله هذه القوة الفاعلة أو تلك، مهددا بالدوران في حلقة مفرغة، لأن المهام التاريخية المطروحة مهام لا يمكن كما قلنا أن يقوم بها فصيل واحد أو تيار واحد مهما أوتي أصحابه من العزم أو من القدرة على التضحية.
مستقبل اليسار في المغرب، كما في العالم العربي عموما، يتوقف على مدى قدرته على التعرف على نفسه أو إعادة التعرف على نفسه لا كطرف مقابل ليمين ما اقتصادي أو إيديولوجي، بل أولا وقبل كل شيء كمبشر بالأهداف التاريخية التي تطرحها المرحلة الراهنة، كمدشن لعملية الانتظام الفكري حولها وكقوة دفع للعمل على تحقيقها، إن هذا ما يجعل اليسار، أو ما سيجعله، ذا مستقبل.
ــــــــــــ
(*)- استعدنا في هذا المقال فقرات من مدخلة شاركنا بها في ندوة عقدت بالدار البيضاء يوم 30 يناير 1993. والإشارة أعلاه إلى “الكتلة الديموقراطية” التي تشكلت في المغرب بتاريخ مايو 1992، وقد ضمت خمسة أحزاب هي الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية (عبد الله إبراهيم). وقد جمد هذا الأخير عضويته فيها بعد فترة وجيزة من تأسيسها. فهذه الكتلة كانت عبارة عن استعادة موسعة لـ “الكتلة الوطنية” التي جمعت في غشت 1970 بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (والاتحاد المغربي للشغل) وحزب الاستقلال. كانت مطالب هاتين الكتلتين تدور حول إصلاحات دستورية بهدف ضمان انتخابات نزيهة الخ. أما الأطراف المكونة للكتلتين معا فكانت محصورة في الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية. كان الأمر يتعلق بجبهة للمعارضة الوطنية ضد الأحزاب الإدارية التي كانت تنشأ بمناسبة الانتخابات لتنال الأغلبية.
هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أننا طرحنا مفهوم “الكتلة التاريخية” كمطلب مرحلي لتجاوز مسألة التصنيف إلى يمين ويسار في بداية الثمانينات، بعد الثورة الإيرانية مباشرة. لقد لاحظنا آنذاك أن استئثار التيار الإسلامي في إيران بالثورة بعد نجاحها -ولو أنه كان يمثل الأغلبية التي قامت على أكتافها- قد كرر الخطأ نفسه الذي ارتكبه التيار القومي في الخمسينات والستينات حينما أسقط من الحساب التيار الإسلامي مع أنه كان له وجود فعلي. والشيء نفسه فعله التيار اليساري الماركسي حين أتيح له البروز! وبما أن المهام المطروحة مهام التحرير وإقرار الديموقراطية وإقامة أسس تنمية متينة وسليمة لا يمكن أن يقوم بها تيار بمفرده لأنه سيعاني ليس فقط من ردود فعل القوى الأجنبية المهيمنة بل أيضا من معارضة ومشاكسة القوى الوطنية التي تتشكل منها التيارات الأخرى فإن الحل كما تبدى لنا –وما يزال- هو هذا النوع من الكتلة التاريخية.
3- التطرف يمينا … والتطرف يسارا
عندما يذكر “الإسلام” أو “الإسلاميون” في الخطاب السياسي والصحفي المعاصر فإن الذهن يستحضر في الغالب الجماعات المتطرفة التي تحمل شعار “الإسلام” وتستظل به بطريقة من الطرق، وهذا من الأخطاء الذهنية التي تجر إليها الألفاظ. فالتيار الإسلامي أو ما يعبر عنه أحيانا بـ “الإسلام السياسي” يشمل قطاعا عريضا من الرأي العام العربي المعاصر، يمتد من وسط اليسار إلى أقصى اليمين حيث مواقع الجماعات الدينية المتطرفة، تماما مثلما ان التيار التحديثي في الساحة الفكرية العربية يمتد من وسط اليمين إلى أقصى اليسار حيث مواقع الجماعات المتياسرة، المتطرفة.
ونحن عندما نستعمل هنا الثنائي يمين/ يسار فإنما نفعل ذلك من أجل وظيفته الإجرائية لا غير، إننا نأخذه كوسيلة للتصنيف فقط. أما المضمون الإيديولوجي الذي يحمله هذا الثنائي في الغرب حيث يعبر بـ “اليمين” عن القوى الرأسمالية والليبرالية والرجعية، وبـ “اليسار” عن القوى الاشتراكية والتقدمية، فهو لا يدخل في اهتمامنا هنا، فضلا عن أنه لا يطابق الوضع القائم في العالم العربي مطابقة تامة، إذ ليس كل من يصنف في تيار الحداثة اشتراكي وتقدمي، وليس كل من يصنف في التيار الإسلامي رأسمالي أو ليبرالي. نحن نستعمل هنا الثنائي يمين/ يسار، فقط من أجل تحديد مواقع الجماعات المتطرفة، وهى صنفان: صنف نضعه في أقصى جهة نسميها “اليسار”، وصنف نضعه في أقصى الجهة المقابلة فنسميها “اليمين”.
والسؤال الذي نريد طرحه هنا هو التالي: ضد من يقوم التطرف الواقع في أقصى “اليسار”، وضد من يقوم التطرف المقابل له في أقصى “اليمين”؟
إن عدم طرح هذا السؤال يجعل الإنسان ينساق أحيانا مع سلطة الألفاظ فيعتقد أن التطرف في أقصى اليسار خصمه هو ذلك الذي يقع في أقصى اليمين. وهذا اعتقاد خاطىء، يكذبه تاريخ نشأة التطرف في هذه الجهة أو تلك كما تكذبه مواقف وأطروحات المتطرفين في الجهتين كلتيهما.
والواقع أن التطرف في اليسار هو موجه أصلا ضد اليسار نفسه، كما أن التطرف في اليمين موجه ضد اليمين، وغالبا ما يكون الخصم اللدود للمتطرف، في إحدى الجهتين، هو أقرب “الناس” إليه، على يمينه أو على يساره. لقد ظهر التطرف في اليسار، في العصر الحاضر، خلال النصف الثاني من ستينات القرن العشرين في أوروبا وبلغ أوجه هناك وفي جهات كثيرة من العالم في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، فتكونت جماعات متياسرة (أو يسراوية) قامت تطرح نفسها كبديل جديد لا لليمين، بل لليسار نفسه، وبالتالي كان خصومها المباشرون، أعنى الذين كانت تعتبرهم هي كذلك، هم الأحزاب الشيوعية التقليدية والأحزاب الاشتراكية عموما. ولم تكن الجماعات المتياسرة “تناضل” ضد اليمين أو يمين اليمين، بل كانت تتجه بكل قواها ضد اليسار نفسه الذي كانت تضعه على يمينها.
ومثل ذلك التطرف في اليمين: فالجماعات المتطرفة فيه إنما تتطرف احتجاجا واعتراضا على “المعتدلين” فيه هو نفسه، وليس ضد اليسار. إن الجماعات الإسلامية المتطرفة تتجه بالاعتراض والخصومة إلى التيار الإسلامي “الوسط ” أو “المعتدل، مثلها في ذلك مثل “الخوارج” في صدر الإسلام. لقد كان على بن أبي طالب يمثل الاتجاه الديني وكان معاوية يمثل الاتجاه الدنيوي داخل الإسلام لا خارجه. والتطرف الذي ظهر في صفوف علي، وسمى أصحابه باسم “الخوارج”، قام أصلا ضد علي نفسه، وقد سموا “خوارج” لأنهم خرجوا عليه وقاتلوه عندما قبل “التحكيم”، أي حل الخلاف بينه وبين معاوية بصفة سلمية على يد “محكمين”، وهم بمثابة خبراء أو قضاة. صحيح أن “الخوارج” كانوا أيضا ضد معاوية، ولكن خروجهم لم يكن يضر معاوية في شيء، بل بالعكس لقد كان لفائدته. وأكثر من ذلك فهم عندما خرجوا على علي احتجاجا على قبوله “التحكيم” لم يذهبوا لقتال معاوية مباشرة، بل لقد قاتلوا عليا وأصحابه. ثم إنهم لم يدبروا مؤامرة لاغتيال معاوية بمفرده، بل لقد أرادوا اغتيالهما معا إضافة إلى عمرو بن العاص الذي كان يعتبر اليد اليمنى لمعاوية في ذلك النزاع. لقد نجحوا في اغتيال علي ولم ينجحوا في الوصول لا إلى معاوية، ولا إلى عمر بن العاص. ولو انهم فكروا قبل الإقدام على تنفيذ مؤامرتهم لتبين لهم أنه من الممكن جدا أن ينجحوا في اغتيال علي لأنه لم يكن يحيط نفسه بالحراسة والحماية بينما أن حظوظ نجاحهم في اغتيال معاوية كانت ضئيلة جدا لأنه كان محروسا وكان يأخذ احتياطاته. إن التطرف يعمي صاحبه ويحجب عنه الحقائق الموضوعية ويجعله ينظر إلى العالم نظرة سحرية.
وشأن الجماعات المتطرفة على اختلاف مواقعها شأن “الخوارج” ، فهي وإن كانت “تخرج” أو “تثور”- في الغالب- ضد تساهل أو اعتدال الجهة التي تنتمي إليها إزاء الجهة المقابلة، الخصم: المتياسرون يثورون على اليسار احتجاجا على تعامله مع اليمين، والمتطرفون في اليمين يثورون على هذا الأخير لجنوحه إلى نوع من الاعتدال، فان النتيجة، في الأغلب الأعم، تكون ضربة للجهة التي خرج منها التطرف ولفائدة الطرف المقابل. وهذا يؤدي في النهاية إلى انعزال الجماعات المتطرفة يمينا ويسارا فتبقى على الهامش تكرر التجربة ذاتها مع نفسها، تجربة التطرف، فتنقسم إلى جماعات يخاصم بعضها بعضا و”تكفر” كل جماعة منها الأخرى، كما حدث في صفوف “الخوارج “. ويكون الخصم الأول دائما هو الجار الأقرب! “هكذا تنتهي الحركات المتطرفة إلى التفتت والذوبان، عاجلا أو آجلا.
ومما يجب تأكيده هنا أنه لم يحصل قط، وما أظنه سيحصل يوما ما، أن جماعة متطرفة، في هذه الجهة أو تلك، غيرت الوضع أو صنعت التاريخ. التاريخ تصنعه القوى المتصارعة في الوسط غالبا. والثورات تنتهي، حتى ولو ساهم فيها المتطرفون، إلى نتيجة واحدة، هي أن السلطة يتسلمها “المعتدلون” الذين يقعون في “الوسط” أو قريبا منه. وهذه حقيقة يعرفها المتطرفون، ولذلك تجد شعارهم المعلن عنه، في الغالب، ليس استلام السلطة بل “الاستشهاد” من أجل “القضية”. أما نوع هده القضية، أما إمكانية تحقيقها، أما وسائل خدمتها بصورة عملية تاريخية، فهذا ما لا يفكر فيه المتطرف، ولا يستطيع أن يفعل! إن التطرف في مثل هذه الحال يصبح نوعا من النظرة السحرية للعالم، يكتسي طابع الهروب إلى الأمام. ولذلك فليس غريبا أن ترى المتطرف يقفز من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس! وقد يكتسي الهروب إلى الأمام طابع “الهجرة” إلى دول أخرى كانت في الأصل خصما، والقيام فيها بدور “الخادم” أو “الحاجب” المرتزق من أجل “لا-قضية”… مطالبا وحده الطعن والنزال”! إنه نمط من الوعي المزيف الذي ينسى معه الفرد حقيقة وضعيته وطبيعة موقعه، فلا يرى إلا ما يعتقد أنه ليس هو إياه.
التطرف أشكال وأصناف… والتطرف داخل التيار السلفي في الفكر العربي المعاصر يجد بعض مبررات وجوده، بدون شك، في غياب الديمقراطية السياسية منها والاجتماعية، ولكن من مبررات وجوده أيضا عدم تمكن الاتجاه السلفي لحد الآن من القيام بالتجديد المطلوب في الفكر الإسلامي، التجديد الذي يجعله يساير التطور ويرتبط بالواقع. تماما مثلما أن التطرف في اليسار، الذي بلغ أوجه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، في أوربا خاصة، كان يجد تبريره في تفسخ الديمقراطية فيها نتيجة هيمنة الرأسمالية والإمبريالية واستشراء البيروقراطية وسيطرة الآلة والآلية من جهة، وفي الجمود الذي أصاب “اليسار” نتيجة عدم متابعته للتطور والتكيف معه، من جهة أخرى.
يبقى بعد هذا أن نشير إلى أن التطرف في الدين يتبع السياسة دوما: فعندما تمارس السياسة في الدين على مستوى العقيدة يكون التطرف في ميدان العقيدة، وعندما تمارس السياسة في الدين علي مستوى الشريعة يكون التطرف في ميدان الشريعة: في القديم (أواخر العصر الأموي، وفي العصر العباسي) كان التطرف يمارس في ميدان العقيدة، على مستوى صفات الله وأفعاله والوعد والوعيد الخ)، وباسم هذا النوع من التطرف كانت خصومات وكانت حروب! أما في عصرنا الحاضر فالتطرف يمارس في مجال الشريعة (وضع المرأة كالحجاب، كيفية أداء العبادات مثل طريقة وضع اليدين أثناء الصلاة الخ). والسبب في هذا الاختلاف، بين الأمس واليوم، هو أن السياسة كانت تمارس قديما بواسطة الدين، أما اليوم فيبدو أن الدين هو الذي يمارس بواسطة السياسة.
*عن موقع محمد عابد الجابري رحمه الله رحة واسعة