1*في المغرب وحده، يمكن أن تقرأ من يدعو الي أن ُيمْنع القتيل من أن يكون الضحية.
(ومن الأحسن أن يكون ذلك باتفاق معه!!).
في المغرب اليوم، يمكن أن يكون المهدي بن بركة قتيلا، لكن علينا ، بناءً على دعوات تعود كل سنة مثل شجر الكستناء، أن نتابعه ولا شك بعقدة .. القاتل ونطالب بنسيانه!
في الدعوة إياها ، يمكن أن يلتقي التقنوقراط الملتحي في رواق العدل
والتقنوقراطي المسلح في أرشيف الجيش
والتقونواقراطي اللذيذ الذي يبحث للدولة عن عطر جديد وعن سراويل قصيرة كي تساير هواه الجديد،
في تقديم الصك النهائي للوفاة، بدون أن يعرف أحد نهاية الجثة
ولا القبر..
ولا أداة الجريمة
ولا الفاعلين
كما لو إن انعدام كل وسائل التدقيق في الجريمة يعني بأن .. القتيل لم يوجد بعد
أولم يوجد أبدا!!!
عندنا – في هذه البلاد وحدها- يمكن أن نفكر ، بجدية كبيرة ، بأن تحرير الحقيقة في عملية قتل سياسية،مثل اغتيال الشهيد المهدي يمكن أن يتم بالنسيان!
وندعو الى أن نرث عقدة القاتل، في محاولته نسيان القتيل.
بل لا بأس من أن يشعر ورثة القتيل بغير قليل من عقدة الذنب:
أولا لأنه مات..ولم يستطع أن يموت تماما!
ثانيا لأنهم لم يستطيعوا أن يجدوا جثته، بالرغم من أنهم كانوا بجوار القبر …عند ضاحية الحكومة!
ثالثا :لأنه يخرج عن عادة كل الموتى، أي أننا لا نعرف القتلة ونحرجهم بالبحث عنهم!!
انها معادلة بالغة في الغرابة:انسوه لكي تنسوا أننا قتلناه!
وللمزيد من الغرابة، لا بد من أن نرافع من أجل ذلك بلغة سليمة، وربما باحساس نبيل بأننا نقدم خدمة .. للحقيقة وللقضية وللوطن.، كلما تركناه معلقا في كرسي الغيم!
أحيانا أخرى يكون ادعاء الانتماء اليه مبرر قتله من جديد
فنقوم بذلك لأننا منه:لقد تعبنا من هذه الجثة، فليحملها أحد ما الى جهة ما ويرميه في النسيان؟
ولما تسأل:لكن اين الجثة يا رفيقي؟
يحتار في الجواب ويسب القبور لأنها لم تفكر أن تضع استثناء وتبني واحدا بلا جثمان.
قبرا فارغا للنسيان الجميل.
ويصرخ بغير قليل من الضجر: اكان من الضروري أن تكون لكل قبر جثة؟؟
يااااااخ:يمكن أن نقنع الوطن بأننا نخدم بحرص كبير مصلحته ، عندما نرث منطق القاتل وندعو الى اتهام القتيل بأن عمره طويل للغاية ..
ووجوده مزعج للغاية
وقضيته لا تضمحل، بالرغم من كل قرارات التدمير الموسع للذاكرة!
وينسى الذين يحبون الشهيد الى درجة التعب منه ، أنه في غياب القتيل، يتم التفاوض مع ..القتل وليس مع أحد آخر:أمام الدولة محاولة لكي تعيش بعيدا عن الجثة إن كانت تريد أن تعيش قريبة من ضميرها وأن تعلن مسؤولية دورها في العملية،وإن لم تكن هي المسؤولة عنه اليوم ،بالقدر الذي تعرف أنها كانت متورطة فيها بفعل ديمومة المؤسسات والإدارات.
يمكن لها الاعتذار عن جريمة وقعت في مرحلة التباس في توزيع الأدوار وتوزيع عُدَّة التنفيذ، لكن بالإقرار أن ذلك تم في زمن وضوح السياسة والقصد.
أحسن اجتهاد هو أن تفكر الدولة بعقلها التاريخي الراجح والكبير، الذي يفوق عقول رجالاتها الذين حضروا وقتها أو الذين يحملون نعوش ضحاياهم، وأن تعلن مسؤوليتها عن جزئها في القضية وتطلب الصفح من العائلة وتعلن ميلاد الحقيقة في مياهها الاخلاقية وحدها وتترك الآخرين للتاريخ..
يمكنها أن تفعل ذلك، لزنها أكبر من حسابات العابرين في ردهاتها
أو في حدائقها السرية.
هناك من يعتقد بأن بناء المغرب سيكون ناجا وسليما .. بالحرص علي حديقة النسيان، شريطة ألا يتم تذكير المتنزهين في المغرب الرائع بوجود قبو أو سجن في الحدائق السرية !
المغرب كتحصيل يجمع بين حديقة العاب للاطفال وما تحت سجن.
المغرب كحصيلة بين الاوديسة ، وبين انجيل المهدي ..!
والحقيقة الاخلاقية هي أنه لا حق لأحد في أن يحرم القتيل من حقيقة موته:سواء كانوا منه أو كانوا من أعدائه، فعلى درجة الالتزام بهذه الحقيقة يمكن أن تتحدد درجة القرابة معه، ومع الحق ايضا.
ومع الوطن ايضا.
2*محاولات كثيرة تمت لكي يموت المهدي من جديد:
فقد كان المقصود مع انطلاق المصالحة الوطنية ومحاولة طي صفحات الماضي أن يتم التوجه نحو الحقيقة بما يكفي من وجوه عارية وأرواح مطمئنة الى بناء ذاكرة مشتركة، بعد تحريرها من ظلال المقصلة.
لكن الذي حدث أن خيارا آخر انتصب في قضية المهدي، وأصبح الهدف كلما وُضَعت أوراق العدل على الطاولة، أن يتم نصب المشانق..للقتلى المتهمين بأنهم ماتوا من فرط ما قتلوا آخرين!
وشهدنا أبشع أنواع التنكيل الأخلاقي بمن قتلوا:وشاهدنا محاولة لوضع معادلة لتوازن الرعب:هؤلاء الذين قتلناهم وعذبناهم ونكلنا بهم لعقود، إنما فعلنا بهم ذلك، لأنهم متهمون برعب مماثل لو أنهم استطاعوا التغيير!
وكان القتيل هو الدليل الوحيد على أنهم يكذبون، واستمرت المعادلة الى أن تعبوا.
فقالوا مرة أخرى:لم يكن القتيل هو القتيل، بل وجدنا تحت مخداته أقنعة عديدة، فهو عميل للموساد وعميل للمخابرات البلغارية، وربما كان وراء محاولة قتل جميع الانبياء من كثرة تردده على الشرق!
شرقيا كان أو اشتراكيا.
بعض الناس، يدافعون عن حق ، وصواب عن رفع عقوبة الاعدام، ويودون لو أن المغرب يحسم انتماءه، الى نادي الدول التي توقف العمل بهذه العقوبة.
لكنهم سرعان ما يفكون ارتباطهم المعنوي مع هذه الدعوة، لأن خلف المقصلة ظل الشهيد وفوق الرؤوس صورته.
يدافعون عن الحق في الحياة لمن نعرف أنهم متهمون، لكنهم يذرعون الفراغ طولا وعرضا، كلما قلنا إن إعداما تم بدون محكمة ولا قرار سوى قرار الجلادين.
وان الموت أيضا حق في قضية بلا جثة ولا معزين..!
لنكن واضحين قليلا:
ليس المهدي إرثاً اتحادياً حصرياً، إن شاء الاتحاديون أحيوه أو شاؤوا تركوه وحيداً وسط الموتى المعلقين..
المهدي إرث وطني مغربي، الوسيط بين شعب كان مستعمراً والحرية.
لهذا يجب أن يحبه المغاربة واضح النهاية، كما كان واضحاً في حبه لحريتهم.
على الدولة، الموجودة في حالة صُلْح وطني، أن تعتبر حقيقة موته جزءاً من حقيقة حياتها.
ولهذا أيضاً لا يملك أي آخر، ومنهم الصحافيون وأصحاب الرأي والكتاب الذين يرددون لازمة النسيان، الحق في أن يقرر في موت شخص آخر، لاسيما إذا كان… قتيلاً!
يسمح لنا كل هؤلاء إذا لم نقتنع معهم بأنهم سيضيفون مجهوداً آخر… لم يقم به القاتل وهو يمسح من الوجود اسماً وضاءً مثل المهدي.
وان حظهم من النجاح لن يفوق بأي حال من الأحوال حظ القاتل الأول!
أحينا يتم الزج بفرنسا، لا كمسؤولة أخرى عن قتل المهدي، بل كاسترجاع بعدي لتقوية حظوظ النسيان من الوجاهة الاخلاقية!
ـ في البداية، كانت فرنسا شريكة في القتل، واليوم يُرادُ لها أن تكون حجة في النسيان، والمنطق يتدحرج على الشكل التالي: إذا كان الفرنسيون أو بعضهم يحيون ذاكرة المهدي بن بركة، فذلك لأنهم يريدون استفزاز المغرب!
ونجد أنفسنا أمام انتقال سلس من الشراكة في القتل مع مغرب الاستبداد إلى الرغبة في استفزاز ضد المغرب الديمقراطي!
بدون الحاجة إلى منطق يتساءل مستنكراً: لماذا يحتاج المغرب إلى استفزاز فرنسا ولا أحد نسي الشهيد في وطنه!
وأحياناً أخرى تكون الحرب التي خيضت ضد ذاكرة المهدي، هي الحجة في طي ذكراه: فإذا كانت 50 سنة من الهجوم والتنكيل والتعتيم في حق المهدي جعلت شعباً لا يعرف أبطاله (كعبد الكريم الخطابي نفسه)، فتلك حجة الذاكرات القصيرة لكي… يقنعوننا بأنه لا يستحق الذكرى!
فنستقوي بالجهل لفائدة النسيان.
- عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
* كسر الخاطر * اطمـئنـوا، هذا القتيل سيـعـمر طـويـلا 1و2 ..* بقلم :عبد الحميد جماهر.
- الاثنين 12 اكتوبر 2015