أعادت لي تداعيات «الأزمة التواصلية» بين المملكة المغربية ومملكة السويد، هذه الأيام، والتي في القلب منها موقف أحزاب اليسار الحاكمة بستوكهولم، من قضية استكمال وحدتنا الترابية (في الجزء المتعلق منها بالصحراء الغربية للمغرب). كونها تقدمت كفرق برلمانية، خاصة الحزب الإشتراكي وحزب الخضر، بمقترح إلى الحكومة يدعوها إلى الإعتراف ب «الجمهورية الصحراوية» التي هي مجرد فكرة على ورق للنظام الجزائري، لا حقيقة جغرافية ولا تاريخية ولا سيادية لها. أعادت لي، تلك التداعيات، تفاصيل لقاء، كان قد جمع بالطابق الخامس لجريدة «الإتحاد الإشتراكي» ب 33 زنقة الأمير عبد القادر، بالدارالبيضاء، بين الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، في أواسط التسعينات (أعتقد في ربيع 1997)، وشاب سويدي كان يتحمل حينها مسؤولية القيادة ضمن منظمة «اليوزي»، أي «الإتحاد الدولي للشباب الإشتراكي» (International Union of Socialist Youth).
كان ذلك الشاب، متخندقا في موقف مبدئي لحزبه الإشتراكي السويدي من قضية صحرائنا الغربية المغربية، وكانت تلك أول زيارة له إلى المغرب. وبالكياسة الديبلوماسية للسي عبد الرحمن، شرع، يشرح له، حقيقة قصة ملف الصحراء، منطلقا من فكرة، جعلت ذلك الشاب السويدي، يخرج عينيه تعجبا منها، حين قال له ذلك الزعيم الوطني المغربي، بالحرف: “هل تعرف أن المغرب أقرب البلدان إليكم في السويد؟”. وحين تساءل ذلك الشاب الإشتراكي السويدي، مستغربا، رد عليه اليوسفي: “إنكم في السويد تخطؤون كثيرا حول حقيقة علاقاتنا بكم مغربيا. إننا نعتبركم أقرب جيران لنا، لا يفصلنا عنكم سوى 14 كلمترا. ألستم عضوا فاعلا في الإتحاد الأروبي. بالتالي فأنتم جيران لنا وشركاء لنا، مثلكم مثل الإسبان والبرتغال”. مضيفا، أنه يستغرب كمواطن مغربي، كيف تنسى بعض النخبة السويدية دوما ذلك. وبعد أن شرح له رهان المغرب على الدول الإسكندنافية كتجربة مجتمعية في مجال التضامن الإجتماعي والتنمية المستدامة، وكيف أن رهان حزب الإتحاد الإشتراكي، هو أساسا على شبابه. بل، وأن المغرب كله، قدريا، لا يملك من ثروة غير شبابه وطاقاته البشرية، لأننا بلد بدون بترول وغاز أو ثروات طبيعية وازنة ماليا، لكننا نتوفر على ثروة بشرية مهمة. بعد أن شرح له ذلك، انتقل ليشرح له بهدوء ورصانة، جمدت ذلك الشاب السويدي، بإنجليزية واضحة، قصة قضية الصحراء الغربية للمغرب.
كانت الصدمة الثانية، التي جعلت ذلك الشاب يرفع حاجبيه تعجبا، حين قال له سي عبد الرحمان: “واحد منا على خطأ، وعليه أن يلتحق بالآخر. إما أننا كمناضلين تقدميين من أجل الديمقراطية ودولة المؤسسات والحق والقانون على خطأ، وعلينا أن نلتحق بإخوتنا الصحراويين الذين قادتهم ظروف متشابكة للبقاء رهينة في تندوف. وإما أنهم على خطأ وعليهم الإلتحاق ببلدهم، ليكونوا جزء من نضالنا من أجل مغرب ممنع بدولة المؤسسات والديمقراطية والتنمية”. مضيفا في تحليل مفحم، أنه متيقن أن “إخوتنا الصحراويين” هناك، هم من على خطأ، لأن التاريخ يقول ذلك والجغرافية والعلاقات الإجتماعية والإنسانية مع المغرب تقول ذلك، ولأن منطق الرؤية الجيو ستراتيجية يقول ذلك. معتبرا، أن عالم اليوم هو عالم التكتلات وأن لا مستقبل للكيانات الصغرى فيه.
حين خرج ذلك الشاب السويدي، وكان مرفوقا بشباب من قيادة منظمة “اليوزي”، أغلبهم من أمريكا اللاتينية، كان آخر تماما. أهدأ، ومنفتحا على نقاش طويل مع وفد الشبيبة الإتحادية الذي كان يرافقه. (أذكر من ضمن الشباب الذين رافقوا ذلك الشاب السويدي في زيارته إلى المغرب، شاب من الشيلي، قمت معه بجولة في الدارالبيضاء، وحين وقفنا في قلب ساحة محمد الخامس، وشرحت له هندسة المكان حيث بنايات الولاية والقيادة المحلية للجيش وبنك المغرب والبريد ومقر مجلس المدينة والخزينة العامة ثم بناية المحكمة، وكيف أنها وحدها التي أدراجها أعلى من باقي أدراج باقي تلك البنايات الإدارية، لأن العدل دوما أسمى وأعلى. انبهر وقال : “هذه ملامح عاصمة”. قلت له: العاصمة في الرباط، اليوم، والمغرب تاريخيا كانت به دوما عواصم متعددة منذ 12 قرنا. فأيقن ومن معه كما قال، لباقي رفاقه، أن القصة المغربية مختلفة).
الحقيقة، إن قصة العلاقات المغربية السويدية، أقدم مما نعتقد ونتصور. والعطب فيها، خلال العقود الأخيرة، كامن في فكرة، أن كلينا يتوهم أننا بعيدون جدا عن بعضنا البعض، بسبب البعد الجغرافي. وهذا واحد من الأخطاء التي تؤطر الرؤية الديبلوماسية الرسمية للرباط، التي لا تهتم، ضمن الجغرافية الأروبية، سوى بما نعتقد أنها العواصم التقليدية للقرار السياسي والإقتصادي بأروبا، وهي لندن وباريس وبرلين ومدريد وروما. متناسين أن المجموعة الإسكندنافية ذات وزن حاسم أيضا ضمن تلك الجغرافية المصالحية بأروبا. يضاف إلى ذلك، أننا بقينا نسجن دوما أنفسنا، في خانة واحدة، هي أن طريقنا إلى أروبا لا يمكن أن يمر سوى عبر باريس، وهذا غير سليم دائما. بل إن من المفارقات التاريخية، أن من بين أول البلدان الأروبية، التي توجهت صوبها الهجرة المغربية، منذ الخمسينات، هي السويد، حتى قبل إيطاليا وبلجيكا وهولندة. مثلما أن من أقدم العلاقات الديبلوماسية للمغرب، مع الدول الأروبية، علاقاتنا السياسية والتجارية والأمنية مع مملكة السويد، بذات الشكل الذي كان مع مملكة هولندة ومع مملكة النمسا ومع الإمبراطورية الروسية. بدليل، أن من أقدم العلاقات الديبلوماسية للمغرب مع الملكيات الأروبية، هي تلك التي جمعتنا بإنجلترا (أكثر من 500 سنة)، ومع هولندا (التي احتفلنا معها سنة 2005، بمرور 400 سنة من العلاقات الرسمية معها)، ثم مملكة السويد، التي التجأت إلى المغرب في القرن 18، لتطلب منه رسميا حماية سفنها التجارية بالمتوسط والمحيط الأطلسي. وهو الأمر الذي ترجمته، بعد سنوات من التواصل السياسي والتجاري، اتفاقية 1763، بين السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث، الذي حكم بين 1757 و 1790)والملك السويدي آدولف فرديريك (الذي حكم بين 1751 و 1771).
ما الذي تقوله تلك الإتفاقية المغربية السويدية؟. إنها عمليا، تقول نفس ما ستتضمنه أول اتفاقية تجارية في العالم للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1778، التي وقعتها مع ذات السلطان المغربي، التي تقول بحماية الأسطول البحري المغربي للسفن التجارية السويدية بمضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلنتي. مع تحديد تعويض مالي سنوي تقدمه مملكة السويد إلى المغرب. وهي اتفاقية مرت عليها حتى الآن 252 سنة. بل إنها ستكون المقدمة، خلال أول القرن 19، كي تكون السويد، من أول الدول الأروبية، التي سيصبح لها سفير مقيم بشكل دائم بالمغرب، بمدينة طنجة. ويعتبر “البيت السويدي” واحدا من أقدم البنايات الديبلوماسية الأجنبية بتلك المدينة المغربية، التي كانت لقرون هي مقر الديبلوماسية المغربية ومقر كل السفارات الأجنبية. والذي كان يجاور “البت الهولندي” و”البيت البروسي” و”البيت الفرنسي” والبيت النمساوي” و”البيت الإنجليزي”، ثم مقر “السفارة الأمريكية” التي تعتبر إلى اليوم “الأثر القومي الأمريكي” الوحيد بالعالم، الواقع خارج الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يزال الأرشيف الرسمي للخارجية السويدية يتوفر على وثائق جد هامة ترسم خريطة علاقات المغرب مع بلدهم، مثلما لا يزال المتحف الوطني السويدي يتوفر على العديد من الهدايا النفيسة التي كان السلاطين المغاربة قد أهدوها إلى ملوك السويد، متعلقة بالجياد وسروجها وعدد من الألبسة الحرير والأواني النفيسة. بل إن المكتبة السويدية، تضم عددا من المؤلفات الغنية حول تاريخ العلاقات المغربية السويدية القديمة، من بين أشهرها، كتاب “مذكرات أسير سويدي بالمغرب”، الذي كان عنوانه الأصلي هو “وصف الإستعباد في مملكة فاس” للأسير السويدي ماركوس بيرغ، الذي كان قد اختطف مع رفاق له سويديين، من قبل الريفيين، قبالة السواحل المتوسطية ونقل إلى تطوان، ومنها نقل إلى فاس، حيث قضى سنوات في الأسر بسجن قصر فاس على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي اعترف له في كتابه الوصفي ذاك، أن له مكرمات خاصة في تعامله معهم كسجناء مسيحيين، حتى مع ظروف التشديد القاسية التي كانت تميز السجون السلطانية حينها. وسيحكي أيضا كيف أنه كان ممن شاركوا مع عدد من السجناء المسيحيين الآخرين من مختلف الدول الأروبية، خاصة الإسبان والبرتغاليين والهولنديين والإنجليز والفرنسيين، في بناء جزء من سور قصر فاس الجديد حينها. هو الذي قضى في الأسر سنتين وسبعة أيام، وأطلق سراحه يوم 30 غشت 1756، وسلم للسفير الإسباني مع 8 من مواطني بلده، بتطوان.
بالعودة، إلى “الأزمة التواصلية” اليوم بين المغرب والسويد، التي في القلب منها ملف قضية وحدتنا الترابية، فإنه لا يمكن مقاربة هذه الأزمة، بدون استحضار لكل هذه القصة الطويلة من العلاقات التي جمعتنا بذلك البلد الإسكندنافي. وأيضا باستحضار لطبيعة الحضور الثقافي والرمزي لصورة المغرب في المخيال العام للمواطن السويدي ولنخبه السياسية. مع تكييف ذلك كله، مع معطيات واقع العلاقات الدولية اليوم، وكذا طبيعة ما يؤطر علاقاتنا بهم، ضمن اتفاق العضو المميز (أكثر من شريك وأقل من عضو) الذي يجمعنا بالإتحاد الأروبي. وللمغرب أوراق كثيرة، يمكنه أن يحسن توظيفها بما يخدم عدالة قضيته الوطنية، وكذا ضمان استمرار علاقاته سلسة، على أكبر قدر ممكن من الفائدة، مع الإتحاد الأروبي التي السويد عضو مهم فيه. ولعل أسلم أطروحة يمكن الإستناد إليها، أن السويد، هي التي سجنت نفسها في ورطة مع المغرب ومع الإتحاد الأروبي ومع الأمم المتحدة. كونها اختارت الخروج عن المنهجية التدبيرية المتبعة أمميا، حول ملف الصحراء ،والتي يتبناها الإتحاد الأروبي، وهي مسار التفاوض برعاية أممية بين مختلف الأطراف المعنية بملف صحرائنا الغربية، للوصول إلى حل سلمي متفاوض بشأنه، على قاعدة “مقترح الحكم الذاتي” الذي قدمه المغرب، الذي تمة إجماع منذ 2007، على أنه “جدي وواقعي وذي مصداقية”. بل، أكثر من ذلك، إنها بموقفها الجديد، هذا تضع نفسها خارج المجهود الدولي لمقاومة الإرهاب ومخاطر التوتر الجدية، التي تهدد ليس فقط شمال إفريقيا ودول الساحل، بل يهدد أروبا، التي هي عضو فيها. فهي، بموقفها التصعيدي هذا، لن تضر فقط بالمغرب (عمليا لن تضره في العمق، لأن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، وصيرورة الإصلاح السياسي والتدبيري متواصلة مغربيا، خاصة بعد دستور فاتح يوليوز 2011). أقول، لن تضر المغرب، بل إنها ستضاعف فقط من تأزيم الوضعية في منطقة شديدة الحساسية أمنيا واقتصاديا وجيو ستراتيجيا ضمن منظومة الحلف الأطلنتي، مثل منطقة غرب إفريقيا ومضيق جبل طارق. فالسويد هنا، هي التي في خصومة مع منطق الأمن العام، ومع حيوية مصالح فضائها الأروبي.
عمليا، المغرب، في مصالحة مع روح منظومة العلاقات الدولية، من خلال اصطفافه ضمن المجموعة الدولية العاملة فعليا من أجل تحقيق السلم العالمي وضمان حماية المصالح الإستراتيجية للتكتلات الدولية الكبرى، بمنطق الدولة المسؤولة. أما ستوكهولم، بخطوة مماثلة، فهي من يسجن نفسه في خصومة مع هذه الروح العالمية. كما قال اليوسفي لذلك الشاب السويدي الإشتراكي المتحمس: “التاريخ والجغرافية ومنطق المصالح الجيو ستراتيجية وروح العصر التي هي روح التكتلات الكبرى، التي لا مكان للكيانات القزمية فيها” كلها تجعلنا نوقن مغربيا أننا على الطريق السليم، وأن السويد هي التي على خطأ وعلينا أن ننبهها إلى ذلك، بكل الوسائل الممكنة، التي تهبها عادة الأدوات الديبلوماسية وميزان القوى. وعلينا أيضا، تذكير بروكسيل، أن من واجب الإتحاد الأروبي أن يذكر عضوه البارز والهام، أنه مخطئ على طول الخط، وأنه في خصومة حتى مع سياسة الإتحاد الأروبي في هذا الملف، وفي خصومة مع الدور الأممي.
- عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
- نشر بها الخميس 1 شتنبر 2015