من نحن حتى «نكفر» الآخر أو نحكم عليه؟! أي ديمقراطية هذه ونحن «نكفر» الآخر وندعو لمقاطعته فقط لأنه رفض آراءنا؟ مواقف متطرفة ترفض احترام الاختلاف. من ليس معي فهو ضدي! وكأن خلافنا هو نقطة ضعفنا وليس العكس.
طوال فترة ما سمي «الربيع العربي»، كُتبت مئات المقالات عن ما أصبح «يرقى» إلى مستوى «تكفير» الآخر. ونتذكر أنه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حملت القوى التقدمية على كاهلها الدفع بمطالب التغيير والديمقراطية في البلدان العربية، لكن دورها ما لبث أن أخذ بالتراجع والتآكل بعد أن مورست ضدها عملية تهميش ممنهجة، في ظل قوة وسطوة أجهزة الأنظمة الحاكمة من جهة وصعود قوى «الإسلام السياسي» من جهة ثانية، ففقدت القوى التقدمية مكانتها وتأثيرها الجماهيري.
لا ينكر أحد أن بدايات ما سمي «الربيع العربي» كان سببه القمع والاضطهاد ورفض الرأي الآخر والظروف الاقتصادية الصعبة، وربما خيانة الأوطان، حتى وصلت الأمور إلى درجة لجوء الأنظمة إلى تكفير قوى في شعوبها بحيث شملت التقدميين منهم بخاصة في ظل تحالف الأنظمة تلك مع قوى أخرى (إسلامية وغيرها) في المجتمع، وذلك من خلال ممارسة «التكفير» ضد القوى المعارضة. وقد اتضح أن «فيروس التكفير» ليس سلاحاً في أيدي الأنظمة فحسب. في البداية، كانت الحركات الإسلامية هي أكثر من مارس «تكفير» الرأي الآخر عبر إعطاء «صكوك» التبريرات الشرعية والأخلاقية والسياسية لترسيخ قوتها كبديل أوحد للأنظمة، بل وصلت فوضى التكفير داخل الحركات الإسلامية إلى «تكفير» متبادل بين التيارات الإسلامية نفسها. لكن، يبدو أن العدوى قد انتشرت، إذ اتضح أن «فيروس التكفير» بات سلاحاً بين القوى التقدمية نفسها، بين ما هو شيوعي أو يساري أو ليبرالي أو اشتراكي أو قومي، أي أنها شملت مجمل ألوان الأطياف السياسية، وكان الاستناد في هذا كله إلى مبدأي «عدم الاعتراف بالرأي الآخر» و«التخوين» تمهيداً للإقصاء، وهذا كله يتم باسم الديمقراطية! و«التكفيريين»، من كافة الخلفيات والأيديولوجيات، وجدوا ملاذاً فكرياً وسياسياً آمناً لغلوهم، فشكلوا مرجعيات فكرية لكل موجات العنف، في ظل استمرار معركة التجهيل الرافضة للعلم والمعرفة والوعي والتنوير. أدواتهم جاهزة لاتهام الآخر بالتآمر والتخوين الذي يؤدي لا محالة إلى «التكفير»، حتى باتت لدينا قوى وتنظيمات يسارية (يسراوية) وقومية (قومجية) وشيوعية (تحريفية) لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد بأي شيء يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكل ما يقولونه هو مجرد تعابير إنشائية لا قيمة لها على أرض الواقع.
لقد انتقلت «العقلية العرفية» التي تحتكر الحقيقة، من النظم وأنصارها إلى القوى والتنظيمات اليسارية «المعارضة» بشكل عام وتغلغلت في أوساطها فأضحت مرضاً باتت معه تتعنت في مواقفها وكأنها منزلة من السماء ترفض النقاش حولها، ما دفعها أيضاً إلى تخوين و«تكفير» أصحاب الرأي الآخر! وعليه، شاهدنا كيف أن قوى وطنية عربية نفرت منها شعوبها بعد أن توافقت في سياساتها مع نظم معينة، وباتت هذه القوى والتنظيمات تمارس سياسة التكفير والتخوين ضد الآخر، فتعززت قيم سلبية جوهرها انتشار العقلية الاستئثارية الإقصائية بدلا من العقلية التشاركية السياسية المجتمعية، وغير ذلك من قيم وصيغ وممارسات سلبية، فازدادت لدى هذه القوى صعوبة تقبل النقد أو الرأي المخالف، ما أدى لعصبيات مرفوضة على قاعدة «من ليس معي فهو ضدي»! وقد تحولت هذه الأمور إلى «ثقافة» ترفض الاعتراف بالآخر مع اتهام واضح في النيات حد التكفير، وإصرار على الاستئثار واحتكار «الحق» والحقيقة، عاكسين ذلك – في نطاق السلطة- على الاحتكار والاستئثار بالقرار السياسي والانفراد بكل ما يتعلق بالقرار الوطني دون اكتراث لعواقب ذلك، فكانت النتيجة كارثية، حيث انتشر فيروس «هذه الثقافة»، فشملت «التقدميين» أيضاً في ظل تحالف «الدول القِطْرية» مع قوى أخرى في المجتمع من ذات الطينة الثقافية، حتى ولو كانت لها منطلقات دينية أو عقائدية مختلفة.
يبدو أن عديد القوى والتنظيمات، على اختلاف توجهاتها السياسية والأيديولوجية، باتت تفتقر لأساسيات الحوار الموضوعي البناء المتفهم للآخر وكأن الحقيقة لم تعد تعنيهم بمقدار ما يعنيهم التثبت بمواقفهم، متناسين أن الحوار هو من يثري التجربة الإنسانية. صحيح أن الخلافات الأيديولوجية والفكرية بين التنظيمات السياسية في بلد ما عادة تكون واسعة ومن الصعوبة التوفيق بينها، لكن الأهم من ذلك أن على القوى والتنظيمات خوض «تنافسها» مع الآخر على أرضية «العمل الجبهوي» على درب بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وعلى قاعدة حقوق وحرية الإنسان وكرامته وتوفير الضمانات الاجتماعية، وهناك دائماً فرص للتفاهم والتشارك على صعيد العمل السياسي.
- عن التجديد العربي
- 27شتنبر 2015