لم يجد عبد الإله بنكيران من صيغة للتعبير عن فوزه الكاسح أفضل من الحديث عن انتخابات 4 شتنبر باعتبارها نهاية التحكم.
وهو في الحقيقة، وضع كلمة الختام في مسلسل انتخابي تحكمت فيه هذه المقولة بشكل كبير، كما قاده هو و حزبه و بعض حلفائه، فكان إعلانه الانتصار ..نهاية التحكم!
لكن خلف ذلك، وفي خضم الصراع الانتخابي، اكتشفنا أن ثنائية »التحكم يخالف الحداثة». هي المقولة المركزية في تأطير الصراع الانتخابي، إذ لم تتكرس هذه الثنائية في تحديد مسار الصراع السياسي و واجهته الانتخابية، اصطلاحا و لغة، كما حدث يوم 4 شتنبر امتدادا لطفرة 25 نونبر 2011 وقبلها 20 فبراير 2011 .
– وقائع:
فقد خرجت القوى السياسية المعارضة (ما قبل 20 فبراير) و تحديدا حزب العدالة و التنمية من الشارع ودخلت الحكومة لكي تحتج من داخلها على ما لم تحتج عليه في الشارع الفبرايري وترفع شعار مناهضة التحكم، لتبرير وجودها و استمرارها.. في حين خرجت قوى المعارضة الأصلية و لاسيما قوى المعارضة الديمقراطية من الحكومة و دخلت إلى الشارع و رفعت شعار الحداثة لتبرير مواقفها ومواقعها و معارضتها.
فأضحت الثنائية القائمة بغير قليل من جدلية الغرابة:هي من يقيم في قلب الدولة يدعو إلى مقاومة التحكم و من يقيم في الشارع يدعو إلى الحداثة..
وفي هذا التقابل المضني، بدا للرأي العام كما لو أن المعارضة الديمقراطية أسقطت بند الديمقراطي(أي مغالبة التحكم) بما هو صلب عملية الحداثة و…. سقطت في الفخ.
في حين نجح الفريق الآخر في استثمار تاريخ طويل من مناهضة التحكم (سواء هو حقيقيا أو افتراضيا) ..
الذين قرأوا رواية يوسف فاضل «قط أبيض جميل يسير بجانبي» سيقامرون بالقول إنهم وجدوا التفسير لنجاح شعار محاربة التحكم في إيجاد الصدى وسط الناس..
كيف؟
الرواية تشرح بعمق كبير كيف أن السلطوية أصبحت متحكمة في الجسم الاجتماعي كله، و كيف أنها بكل رموزها السلطوية ، نخرت المجتمع كله، و أصبحت عدوه المستتر تقديره هو (النظام…).
لهذا يجد الذين تابعوا “غزو التحكم” تفسيرا لصدى الشعار!
ولهذا أيضا بدا أن الحداثة تُسقط شرط مناهضة التحكم ومن يدافع عنها.. بدا كما لو أنه يفعل ذلك لكي لا يحرج نفسه بسؤال الديمقراطية، أو لتبرير التحكم وصنوه»الدولة العميقة»و بدا من يرفع شعار مناهضة التحكم كما لو أنه يفعل ذلك لكي يحرج الدولة بعمقها (إحراج الدولة بالدولة العميقة التي تمثل في السياسة ما يمثله اللا شعور في علم النفس) بالديمقراطية….
متحصنا بالهوية !
2 – لقد بدت الحداثة و الدفاع عنها .. في الانتخابات وقبلها بقليل، كما لو أنها مشروع بديل عن الديمقراطية في كثير من بلدان الربيع الديمقراطي، و كانت التوليفة التاريخية تقضي «برفع» الديمقراطية الشاملة لمواجهة منعطف الماضوية باعتبارها نفيا مطلقا للديمقراطية و الحداثة معا وكان هذا “التعليق ” يجد بعضا من عمقه الفكري و الفلسفي في فهم الدولة “كأداة لعقلنة التاريخ(و القطع مع الدولة كجهاز فوقي ناجم عن مولدات طبقية يهيمن عليها الأقوياء).
وفي هذه الشبكة المنذورة لقراءة الواقع بدا أن الدولة – منطقيا- تقوم بالتحديث المادي، و بالتالي فهي الحامل المادي للحداثة.. و القوى الديمقراطية و اليسارية خصيصا تقوم بالتحديث الفكري و القيمي، وبالتالي فهي الحامل الفكري أو اللامادي للحداثة.
و بدا منطقيا أن غياب أي حامل حزبي أو سياسي آخر – من خارج القوى الوطنية المتنورة و اليسار – لهذا التحديث اللامادي يجعل هذه الأخيرة و الدولة – موضوعيا و تاريخيا – في خانة واحدة !
هل كان ذلك تسرعا منطقيا؟
على كل، لم نطرح السؤال كما بنته الذهنية المستقبلية لخطاب بنكيران و من معه و من ناصره: هل يمكن أن تكون الحداثة مناهضة للديمقراطية ؟
حسب هذه الذهنية لقد نجح خطاب المد الأصولي في اختزال الواقع الديمقراطي في الحرية الفردية. و النزعة الحقوقانية كالحق في المتعة وفي الدفاع عن الثقافة المتواضع عليها ..) دينيا واجتماعيا…..الخ ) و أصبح ذلك هو السجل العقاري و التجاري لليمين المحافظ الجديد،
وكشفت النتيجة أن هذا الخطاب المناهض للديمقراطية الحقيقية حصر الصراع في مواجهة النزعة الاستهلاكية – اللذية عوض أن تعني الديمقراطية السلطة المستمدة من الشعب!
ذلك لأن خطاب المد الأصولي نجح في أن يجعل من الديمقراطية… المقابل المغربي للحداثة! و تم تقديم هذه الأخيرة على أساس أنها ” نزع ملكية ” السلطة من الشعب.
و هذا ما يفسر اللجوء الدائم إلى الشعب في كل نزاع ( قالها بنكيران في الدفاع عن سياسته العمومية، قالها الرميد في الدفاع عن القانون الجنائي الجديد…الخ).
لم يستطع المد الأصولي أن يعود إلى أدبياته الثابتة في محاكمة الديمقراطية ) كما لا زال التيار الجهادي يفعل ذلك ( بل تم تعويضها بمحاكمة الحداثة!( ولعل عقاب الحداثة بدا كعقاب بديل للديموقراطية ..) في لعبة مهارة خطابية أسقطت في فخها جزءا من قوى الديمقراطية التي لم تغد خطاب الحداثة بخطاب الديمقراطية و منازعته التحكم …) أو على الأقل تفكيك ما ينتج حوله) .
3 – لم ينجح خطاب القوى اليسارية في أن يقنع الناخب بأن التحكم القديم يترك مكانه لتحكم جديد ينبع من محاولة جر الدولة كجهاز أو أجهزة الي الاصولية والحقل الدلالي المرتبط بها. ولم يقنع الناخب بأن التحكم يغري وجهه وأن رمزه هو من يحارب الحداثة في تقية جديدة تخفي الديموقراطية في الصناديق بعد أن تخرجها .. من المعيش.
وقد استعادت الخطابات الحومية المستمدة من الاصولوية وكما اعتقنها القتدم والشتراكية نفسه معادلة فبيرار 2011: هناك مجموعة يقودها الاحرار تضم في عضويتها الصالة والمعارصة، ومموعة زو حزبا يقود المعارضة فيمواجهته، وبدون بيدل ثالث يفتح الاخيتيار.
وقتها نجحت المعادلة التي طالما نبأت بعها اقلام محترمة وذات امتداد في الراي العام الفاعل اقتصاديا وسياسيا، والتي دعت وقتها الي ذوبان الاحزاب الوطنية كلها في قالب يقوده البام لكي تتم القطبية ضدا علي قطب يقوده البيجيدي.
وفي تقدير العبد الضعيف لربه وشعبه، فلو لم يكن هناك «بام« لكان بنكيران قد صنعه لكي يعود الى هذه الثنائية ، لأنها بكل بساطة مربحة..له!
4 – فاجأني صديق يساري بالقول «الم تنتبه الى أن معارك بنكيران مع التماسيح والعفاريت ليست بالسحرية التي تقدمونه بها»؟
قلت كيف..
قال: إن من موقعه من داخل السلطة يعطي معنى لهذه التماسيح والعفاريت و إن تركزيه على التحكم من داخل الدولة قد أحيى في الرأي العام ما أسمته أدبيات الاتحاد »اخطاء صراعاتنا مع النظام في الكواليس، بدون اطلاع الجماهير عليها..» في حين أنه ينشرها في الاسواق وفي الفيديوهات ويشهرها في الملأ..هناك مايدعو الى التفكير في النجاح في »رسملة« هذا الشعور العميق لدى النخبة المتنورة وجزء كبير من الطبقة الوسطى وممن تعلموا تاريخ المغرب الحديث.
طبعا كان الرد الجاهز عند العبد الضعيف لربه وشعبه هو«لا قياس مع وجود الفارق»، والحال إنني استعدت هذه الملاحظة لكي أقول« القياس ربما! ولكن المقارنة لا تصح الا مع وجود الفارق»..!
فعل تمت استعادة تراث اليسار في التربية المناهضة للتحكم (كما عرفناه مع العهد القديم ..) بأثر رجعي؟ (رجعي رجعي النيت ..؟).
قد يكون… وهذه مهمة رجال الفكر والتاريخ وليست مهام الصحافيين البسطاء، وخاصة اذا كانوا مصابين بلوثة..الشعر أيضا!
لقد نجح خطاب الحكومة وعمودها الفقري في أن يقنع جزء كبيرامن الطبقة الوسطى والرأي العام بأن دعاة الحداثة يناهضون الديموقراطية وأن الذين في الحكومة يناهضون التحكم. وهي لعبة سمجة أو ربما سحرية تشبه الخدعة في الحرب لكنها فعلت فعلها ويبقى تحرير العقل الانتخابي من هكذا التباس ضرورة حيوية لاستعادة الفعل الديموقراطي.