لن أدّعي في هذا المقال الوجيز تشخيص واقع منظومتنا التعليمية، وإنما سأقتصر على التمهيد لبلورة الأسئلة التي يطرحها اليوم تطور المعرفة على تلك المنظومة. لنقل إننا سنحاول أن نتوقف قليلا عند الهزّة التي لحقت ميدان المعرفة والتحوّلات التي أصابت مجالاتها ووسائطها، وما يمكن أن يكون لذلك من وقع على مدارسنا وبرامجنا وطرائق تدريسنا.
لمدة غير قصيرة، ظلت المعرفة موسومة بالانغلاق، وبقيت حكرا على دوائر محدودة. فكانت محطّ أسرار جماعات محافظة، ولم تتحرر من ذلك إلا في عصور متأخرة حينما فرض التحوّل الديمقراطي مبدأ الانفتاح، فشَرّع الأبوابَ أمام فضاءات عمومية تُنشر فيها المعارف وتتناقل. وقد كان لظهور أدوات الطباعة والنشر دور مهم في إخراج المعارف، وجعْلها في متناول عدد متزايد من المستفيدين. وهكذا ولىّ زمن الدير والمساجد والبلاطات، ليبرز زمن المدارس والجامعات، ولتغدو المعرفة حقا من الحقوق الأساسية للمواطن.
إلا أن تطوّر الأدوات التقنية الذي نشهده اليوم، لم يكتف بتوسيع مجال نشر المعارف، وإنما خلق هو بدوره فضاءات جديدة لإنتاجها وتداولها، بله علائق جديدة بين منتجي المعرفة ومستهلكيها، هذا إن لم نقل إنه ألغى التمييز بين منتج ومستهلك وحَوّل طبيعة المعارف ذاتها، والدّور الذي تلعبه في سَنّ علائق بين الفرد والمجتمع.
من القول المكرور التأكيد بأن عصرنا مسرح لهزات قوية دفعت البعض إلى الحديث عن ثورة صناعية ثالثة، هي بالضبط ثورة الأشكال الجديدة لتقنيات الإعلام والاتصال، تلك الأشكال التي واكبتها تحوّلات عميقة في أنظمة المعرفة. هذه التحوّلات أخذت تشمل، منذ عشرات السنين الأخيرة، أساليب إبداع المعارف ونشرها وتداولها، فعملت على توسيع الشرخ بيننا وبين معرفة تعتمد الشفوي فالكتابي فالمطبوع. سمح انتشار الرقمي بازدهار لم يتقدم له مثيل للشبكات، وذلك وفق محورين: محور أفقي تسارعت عبره طرق انتشار المعارف وذيوعها، ومحور عمودي تكاثفت عبره الروابط والاتصالات. لقد اقتحمنا عصرا صار من اللازم علينا، إذا ما أردنا أن نوجد ونستمر في العيش ونواكب ماجريات الأمور، أن نتواصل بشكل أكثر اتساعا وأقوى سرعة.
تؤثر الأشكال الرقمية للتكنولوجيا تأثيرا مباشرا على سرعة انتقال المعلومات، لكنها تؤثر كذلك، وعلى الخصوص، على معالجة المعارف وكيفية تلقيها. بناء على ذلك لم يعد بإمكاننا أن نفهم عملياتنا الذهنية وفقا للنموذج الذي سنته النظريات التقليدية للمعرفة، تلك النظريات التي تنظر إلى تلك العمليات على أنها أفعال نفسية لا تتعدى الأفراد. إن اللجوء إلى معالجة النصوص الالكترونية أو استعمال محركات البحث عادات مستحدثة، إلا أنها ما فتئت تترسخ في السلوكات واللغة المتداولة إلى حدّ أن أفعالنا الذهنية أخذت تبدو أكثر فأكثر كأنها عمليات لا يمكن أن تتم من غير سند الكمبيوتر. لقد تمكن الرقمي من تحويل المعطيات إلى لغة هي بطبيعتها، ومن حيث إنها أداة تواصل، جماعية في جوهرها. وإن نتائج هذه البرمجة تقتضي منا فهما جديدا للمعارف التي لم يعد بالإمكان اعتبار إنتاجها لحظة متميزة عن باقي الفعاليات البشرية الأخرى. إن الطابع التبادلي للشبكات الرقمية يعطي لمستخدمي التكنولوجيات الجديدة مكانة لم يكونوا ليتبوأوها فيما قبل، إذ لم يعد بإمكانهم أن يمكثوا سلبيين أمام المعلومة، ماداموا لا ينفكون عن جردها، وبالتالي عن تصنيفها وترتيبها حسب الأهمية. على هذا النحو، فإن تكنولوجيات الاتصال أصبحت تتفاعل بشكل متبادل مع عملية بناء المعرفة وتُواكبها بدل أن تتقدمها.
كما أن ازدهار الأشكال التقنية الرقمية أدخل، إضافة إلى الأشكال التقليدية لحفظ المعارف وتسجيلها، حوامل أخرى للتخزين تتمتع بقدرات تظهر لا نهائية. الأمر الذي تمخض عنه تحوّل في قدراتنا على التذكّر. إن الثورة الرقمية جعلت من الذاكرة وظيفة “مادية” آلية وصُنعية. ما أبعدنا إذاً عن الذاكرة التقليدية، ذاكرة علم النفس. فعلى غرار اكتشاف الكتابة وتعميم الطباعة، يمكننا أن نعتبر أن اكتشاف الإنترنت تحوّل انقلابي في تاريخ الموْضعة الخارجية لقدراتنا الذهنية. فالإنترنت، مثله مثل أية وثيقة مكتوبة، هو جهاز تذكّر خارجي، إنه جهاز تخزين، ومع ذلك فربما لا يصحّ أن نقول إنه يتذكر، لأنه لا ينسى.
وعلى الرغم مما سبق، فلا ينبغي أن نستنتج أن وظائفنا الذهنية من إدراك ومحاكمة وتذكّر أصبحت تتقوى كوظائف ذهنية، بل إنها لا تتقوى إلا كقدرات. إلى حدّ أن هناك من يذهب إلى القول: “إنه كلما اتسعت ذكرياتنا، ضاقت ذاكرتنا”. وكل منا يشعر أن اعتماده المطول على الآلة، واستعانته الدائمة على التذكر عن طريقها من شأنهما أن يضعفا من ذاكرته. مما جعل البعض يتخوف مما قد تحدثه الأشكال الجديدة للتقنية على مهاراتنا السيكلوجية، وعلى قدراتنا على العمل التي توجد من خلف كثير من المهن والحرف التي غدت عرضة للضياع بفعل ظهور هذه الأشكال الجديدة للتقنية. ومهما كان الأمر، فلا يمكننا هنا إلا التأكيد أن قدراتنا لم تعد قدرات سيكلوجية محض، وأننا أصبحنا نتوفر على قدرات استيعاب وإدراك علائق وخزن معلومات مغايرة لما كانت عليه فيما قبل.
هذا عن مفعول الأشكال التقنية الجديدة وتأثيرها على الأفراد من حيث يتمتعون بقدرات ويتقنون مهارات، فما هو وقع تلك الأشكال على تداول المعارف وانتشارها؟
معروف أن التحولات التكنولوجية قد قلصت من تكلفة الاتصالات، كما سمحت بتضاعف سرعة انتشار المعلومات وكمّها، الأمر الذي أدّى إلى ظهور ما أصبح يدعى، بعد إمانويل كاستيل: بـ “مجتمعات الشبكات”. صحيح أن هناك في كل تنظيم اجتماعي خيوطَ شبكات يَنْسُجُ الأفراد عبرها علائقهم، سواء أكانت تلك العلائق أسروية، عرقية أو اقتصادية أو اجتماعية، دينية أو مهنية أو سياسية، إلا أن سياق الثورة المعلوماتية، سمح لأشكال جديدة بالظهور لا تخضع لمنطق تمركز الفضاءات المعهود، ولا لأقطاب القرار المألوفة. فمقابل الطابع العمودي الذي كان يسم التدرجات التقليدية حلّ تزايد العلائق الأفقية التي غالبا ما تتخطى الحدود الاجتماعية والوطنية. وهذا لا يعني البتة أن تعميم الشبكات يدل على أن بإمكاننا ولوجها والدخول فيها أينما كنا وبنفس الكيفية، سواء في بلدان الشمال أو بلدان الجنوب. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكننا إلا أن نؤكد أن مواكبة ازدهار الإنترنت والهاتف النقال والتكنولوجية الرقمية لـ “الثورة الصناعية الثالثة”، قد أحدث هزة كبرى في المكانة التي تحتلها المعرفة، أو على الأقل يحتلها انتشار المعلومات في مجتمعاتنا.
إن تأثير الأشكال الجديدة للتقنية على الإبداع المعرفي تأثير بالغ. ولا نحتاج إلى كبير دليل لنؤكد ما أصبحت هذه الأشكال توفّره للتوصّل إلى المعلومة وتحصيل المعرفة، بل وتحويرها والاقتباس منها والإسهام في تبليغها ونشرها. ذلك أن انتشار موضوعات افتراضية، قابلة للتحويل بكيفية لامتناهية، أصبح ييسّر العمل الجماعي والتحصيل المشترك للمعارف. فالتعلم الذي طالما ظل وقفا على فضاءات بعينها، هو في طريقه لأن يصبح فضاء افتراضيا على المستوى الكوني، يمكننا ارتياده عن بعد، كما يمكننا أن نتصور بشأنه مالانهاية له من الأوضاع.
وعلى الرغم من ذلك، فالمعلومة، إن كانت أداة للمعرفة، فهي ليست معرفة، المعلومة معطى خام. إنها المادة الأولية لبناء المعرفة؛ فالشبكات لا يمكنها لوحدها أن تُرسيَ أسس مجتمع معرفة. الشبكات تُمكن من التزويد بالمعلومات، بل إن بإمكانها كذلك أن تُيسّر انتشار الشائعات. وهكذا، فقد تجعلنا نغرق في المعلومات، الصحيحة منها والخاطئة، إلا أن المعرفة وحدها هي الكفيلة بأن تمكننا من أن نقود تفكيرنا ونفحص معلوماتنا. فإذا كان مفهوم مجتمع المعلومات يقوم على تقدم تكنولوجي، فإن مجتمع المعرفة يشمل أبعادا اجتماعية وأخلاقية وسياسية، وهي أبعاد أكثر شمولا واتساعا بطبيعة الحال.
المعلومة هي، مبدئيا، سلعة تباع وتشترى، واقتصادها يخضع مثل باقي المواد الاقتصادية لقانون الندرة. أما المعرفة، فرغم وجود بعض الحدود التي تحد انتشارها وتداولها (مثل أسرار الدفاع، والأشكال التقليدية للعرفان المنغلق على ذاته)، فإنها تكون مبدئيا في متناول كل ذي عقل مفكر، من غير أن يكون هذا في تناقض مع ضرورة حماية الملكية الفكرية.
والحال أننا أصبحنا اليوم، أمام مجتمع إعلام عملت فيه التقنية على الزيادة التي فاقت كل التوقعات من كمّ المعلومات المتوفرة، وسرعة انتقالها. وعلى الرغم من ذلك فإن الطريق المؤدية إلى مجتمع المعرفة مازال طويلا. ومادمنا لا نتمتع في مختلف أنحاء المعمور بالحظوظ نفسها في مجال التربية كي نستطيع التمكن من المعلومات المتوفرة، والتعامل معها بروح نقدية متفتحة، بهدف تمحيصها وتحليلها، والتمييز فيها بين ما يصلح قاعدةً لبناء معارف وما لا يليق، فإن المعلومات ستظل مجرد ركام من المعطيات المختلطة. وهكذا فلا ينبغي لظهور مجتمع المعلومات، الذي تمخَّض عن ثورة الأشكال الجديدة للتكنولوجيا، لا ينبغي أن ينسينا أن هذه الأشكال لا قيمة لها إلا من حيث هي وسيلة لبناء مجتمع معرفة، وإبداع حلول جديدة للقضايا التربوية والثقافية، بله الصحية والاجتماعية التي أصبحت تتخبط فيها مجتمعاتنا سواء في البلدان المتقدمة أو في البلدان النامية.
نتيجة لما ألحقته الأشكال الجديدة للتقنية بقدراتنا السيكلوجية، وكمّ معلوماتنا وكيفية توزيعها وتداولها، فقد غيرت بفعل كل ذلك طبيعة المعارف وفضاءات اكتسابها، فلم يعد تحصيل المعارف اليوم محددا بحدود: إنه لا يتوقف عند جدران، ولا ينحصر في سنوات من العمر. فـ “مواطن” مجتمع المعرفة ما يفتأ يتعلم، بل إنه ما ينفك يتعلم كيف يتعلم؛ ذلك أن التعلم لم يعد حصرا على نخبة، ولا وقفا على سنّ. ما يطبعه اليوم هو الامتداد، الامتداد بأوسع معانيه: فلا هو وقف على أفراد، ولا هو يحفظ في الصدور، ولا هو يؤخذ عن أفواه معينة، وفي وقت بعينه، وداخل فضاء محدَّد محدود، بل إنه لم يعد “يؤخذ”، لأنه لم يعد تحصيل معلومات، بقدر ما هو اكتساب مهارات. إنه لم يعد تعلما، وإنما غدا تعلم كيفية التعلم، وحتى هذه الكيفية لا تتوزع بين من يمتلكونها ومن يتلقوْنها؛ فحتى إن لم يجز لنا القول إننا اليوم أمام عدالة معرفية، فنحن أمام نوع من “الديمقراطية المعرفية”.
لقد أقامت الشبكة مسلسل توزيع للمعارف يسهم فيه جميع الأطراف، حيث يتعذر علينا تعيين من هو المرسِل بينهم ومن هو المتلقي، من المنتج ومن المستهلك، إذ أن كل طرف يعمل في الشبكة، حتى إن تطلب منه الأمر مجرد انتقاء مصدر من مصادر المعلومة، ليسهم بذلك في التداول الخلاق للمعلومات والمعارف. وهكذا يغدو مستعملو الشبكة ورُوادها، ليسوا متلقين ولا مالكين، وإنما أعضاء في عمليات لا نستطيع أن نميز فيها الفاعل عن المنفعل.
ما يهمنا في الأمر، هو أن التعلم لم يعد مرتبطا بمؤسسات فعلية تحدها جدران، وترعاها إدارة، وتسهر على “تلقين” الدروس فيها هيئة مختصة. لقد جعلت الأشكال الجديدة للتقنية التعليم اليوم تعليما عن بعد. ولنا في “الشبكة الوطنية للتعلم” التي أحدثتها المملكة المتحدة خير مثال على ذلك. يتعلق الأمر بالربط في ما بين أكبر عدد ممكن من الخزانات والمتاحف والمدارس والمراكز التربوية بهدف توفير مركز ضخم لكل الموارد الافتراضية ذات الهدف التربوي. هذه الفضاءات لتخزين المعارف، التي بإمكانها أن تتواجد في أكثر من مكان وفي الوقت نفسه، بإمكانها كذلك أن تكون في متناول الجميع، وفي أية جهة من جهات العالم. إلى حدّ أن التعبير: “التعلم عن بعد” أصبح يبدو وكأنه يشمل نوعا من المفارقة، مادام يلغي قي الحقيقة مفهوم البعد ذاته. إن الروابط التي توفرها اليوم الأشكال الجديدة للتقنية لا تكتفي بتقريب المسافات، وإنما تذهب حتى “قتلها” والقضاء عليها.
ما أبعدنا إذن، عن المدرسة التقليدية التي تخضع لضوابط البرمجة والتفريق بين المستويات، وبين أيام العطل وأيام العمل؛ فقد نجد أنفسنا في القريب العاجل في مراكز تضمّ أفرادا لا تميّز فيهم بين عارف وجاهل، كبير وصغير، مراكز ترتبط مباشرة بقواعد المعطيات، حيث لا يبقى فيها لـ “المعلم” إلا دور الموجّه، وحيث يفرض فيها الافتراضي كامل “واقعيته”.
ذلك أن الافتراضي، ليس هو الممكن الذي يقابل الواقع ويعارضه، فهو يتوفر على “واقعية” تجعله نمطا من الوجود يتمتع بخصوبة وقوة يفتحان آفاقا ويتمخضان عن دلالات في ما وراء سطحية المادي المباشر. فأن يغدو الراهن افتراضيا ليس هو أن يتخلى عن واقعيته، وإنما أن يستبدل هويته ويزحزح مركز ثقله. فبدل أن يتحدد الكيان براهنه، بدل أن يتحدد كحل، فإنه يتحدد كإشكال. بدل أن ينغلق على ممكناته، فإنه ينفتح على دينامية السؤال. الممكن مركب من حلول، أما الافتراضي فمن إشكالات. الافتراضي فتح للراهن على السؤال. لذا، فهو حركة وترحال؛ إذا كان تحقق الممكن تحققا لما سبق تحديده، فإن تحقق الافتراضي إبداع حل لما يطرحه مركب الإشكالات.
أن تغدو منظومة التعليم افتراضية هو أن تصبح الأبعاد المكانية والزمانية لعملية التعليم إشكالا قائما على الدوام، ومسألة لا تنفك تطرح، عوض أن تكون حالة قارة. إنها تغدو افتراضية إذا لم يعد مركز ثقلها مجموعة قارة من الثوابت والمقررات ومن جداول الزمن، وعندما تصبح حركة تنسيق تعيد بصفة مسترسلة ومتباينة توزيع الأبعاد المكانية والزمانية لمجموعة العمل التربوي بدلالة إكراهات ما تفتأ تتجدد.
وهكذا لن نعود أمام مؤسسات قارة تتحدد مكانا وزمانا، وإنما أمام حركية لامتناهية، ويقظة لا تلين لحل مشاكل لا تنفك تطرح. لن نعود أمام ما يمكن تحصيله والبتّ النهائي في أمره، وإنما أمام ما نفتأ نتعلمه، وما نفتأ نبنيه.
وعلى الرغم من ذلك، فلا ينبغي أن تنسينا “واقعية” الافتراضي هاته، أن الافتراضي ذاته يظل مدينا للبنية المادية التي وفرتها، وما زالت توفرها، الأشكال الجديدة للتقنية، إذ لولا هذه الأشكال لظل الافتراضي ذاته مجرد سراب، ولظلت المعرفة معرفة لا “تؤخذ” إلا عن “أفواه الرجال”، ولظلت المدرسة بناية منغلقة ومؤسسة قارة تحتكر إنتاج المعارف وتنفرد بنقلها، حتى لا نقول بـ “تلقينها”.
- عن موقع مجلة انفاس
- الجمعة 25 شتنبر 2015