طرح الزميل صفر من الوطن الآن سؤالا كبيرا عليَّ، وأجمله ببداهة من يكتشف قبرا في مقبرة الشهداء محاطا بالأوفياء. في الصيغة التالية :هل مات اليسار؟
وكان المبرر، ولا شك، هو السياق الانتخابي الحالي، الذي أعطى وفرة انتخابية حضرية بالأساس للمد الأصولي، حيث انكمش اليسار حتى عاد بلا رقبة، كما تقول قصيدة مظفر النواب.
والحقيقة أنه لم يعلن أحد ميلاد اليسار لكي يعلن وفاته، فهو قد نبت من تربة تاريخية، شاركت البشرية كلها في رعايتها، ولضرورة حضارية شاركت فيها البشرية برمتها بما فيها الدهن الليبرالي..وقيمه. ولا أحد يملك منذ البداية مدة الصلاحية لكي يعلنها.
1 – لكن هل يعني ذلك أن اليسار، كتوجه قيم وتشكلات ومسار تاريخي يمكن أن يدعي أنه قائم كقوة قادرة على قلب موازين القوى، لا سيما في خارطة سياسية لا تقوم على اصطفافات واضحة، قائمة بدورها على المرجعية وعلى البرنامج وعلى القيم، سواء ليبرالية أو رجعية أو يسارية؟
حقيقة الواقع أن اليسار يسارات، وبالرغم من المرجعية التاريخية الكبرى لمنشئه، فهو يخضع لتوجهات مغايرة، لكننا نعتقد بأنه يمكن إجمالها بالانتماء إلى فكرة التقدم التاريخي، وقدرة الإنسان على الفعل التاريخي وقيم الحقوق الكونية، والتضامن والتآزر والعدالة الاجتماعية والانحياز الواضح للمظلومين والفقرء ..وعابري الآلام الطويلة.
بعض من هذه التموقعات الاجتماعية احتلتها القوى الأصولية، كما تعرف نفسها، وأصبحت في معادلات تقسيم العمل التضامني تحتل مكانة التيار الاجتماعي إذا صح التعبير..
وهي ، أيضا لا تقدم الدعوى كدعوى أو المنتمي إليها كعضو عاد يبحث عن الغفران وحده، بل هو مناضل سياسي (إما يقاطع العملية الانتخابية برمتها كأي يساري مقاطع ) أو هو مناضل من داخل الاستراتيجية الديموقراطية ( وهو كأي إصلاحي يساري ) أو .. هو برجوازي ورع ينتمي ككل برجوازية تقية إلى حساسية ليبرالية.
غير أن الإضافة التي يقدمها التيار الأصولي هو أنه يعطي مع الإحسان والقفة رؤية للوجود، تبدأ من تفسير معنى الحياة، ثم ما بعد الحياة.. وتنمط السلوك بناء على قواعد لا زمنية وفوق طبقية ..الخ.
وهنا لنا أن نسأل أي رؤيا للوجود ما زال اليسار يعطيها، إذا افترضنا أنه عوض بالقرب المدني فكرة الجوار الإحساني؟
سؤال يستنطق قدرة هذا اليسار على تقديم نموذج سلوكي وثقافي وحياتي يمكن أن يطمئن له الآخرون من خارج منظومته، بل حتى من داخلها.
وفي هذا المنطق ذاته:هل تمكن اليسار أن يغذي الاصطفاف الفكري، القيمي، والسوسيو ثقافي، تغذية تجعله يقدم رؤيا مقنعة تعتمد على سمو الأخلاق ووضوح الفكرة والتعالي الذي لا يقطع الرابطة مع المجتمع؟ هذا سؤال لا يمكن أن نجيبه عنه بالإيجاب مطلقا،…
فقد اعتبر جزء من النخبة ومن العقول اليسارية أن «الاصطفاف الذي يميز المشاريع معركة قديمة»! وهو ما سمح للتيارات الأخرى بالدخول من باب اعتبار أن حركات التحديث في المجتمع، ومنها اليسار (سواء قادت التحديث باسم الديموقراطية، التاريخ، أو باسم الحداثة..). سبب في الشقاق الوطني أو في إذكاء التطرف الديني.
وأصبح اليسار الفكري مثلا، الذي قاد معركة تحرير العقل المغربي، في لعبة بوكير جديدة هو سبب التطرف الإرهابي السلفي الجهادي!
2 – لا يمكن أن نناقش اليسار على ضوء الانتخابات بدون تحديد المسؤولية المنبثقة على تمييع الانتماء إليه، وتبخيس النموذج اليساري في الحياة الوطنية، والهجوم المزدوج على حركات التحديث، وذلك إما باسم الطهارة الحضارية والعودة المجيدة للماضي، أو باسم من اعتبر بأن معركة التحديث هي صيغة جديدة لتحديث المخزن ليس إلا..
والحال أن مقولة من هذا القبيل غذت احتياطي المخزن نفسه…
وتقوت قدرات التيار الأصولي عبر …رفض مبدأ المساواة، وإعادة الاعتبار لرموز رجعية ولجلادين عبر تحديث بنيات الاستقبال وتطعيمها وتقديم الهوية كأنها معرضة للانقراض بفعل تكالب الغرب والمغتربين، مما يقتضي تحرير الدولة نفسها من .. التغربيين!
– اليسار كضرورة يثبت نفسه من هذه المعادلة بالذات:في غيابه سيكون على المجتمع أن يعيش حربا مطلقة بين عناصر التحديث، ولا سيما من داخل الدولة وعناصر التقليد التي ستتحدث باسم المجتمع في حالة غاب اليسار كحامل لقيم التحديث، وفي الوقت ذاته يمتلك المشروعية من الطبقات الاجتماعية، ومنها الطبقات التي تسند المشروع الأصولي نفسه في جزء منها..
3 – هناك مظاهر تفكك داخل اليسار لا يمكن أن يعفي نفسه منها بناء على مقولة النقد والنقد الذاتي:وهو عملية تخصيب لا يخافها اليسار بمكوناته الصادقة، بالنسبة لليسار الاتحادي قام به مع المهدي والأخطاء الثلاثة، ومع المؤتمر الاستثنائي والأخطاء الثورية، ومع عبد الرحمان اليوسفي وأخطاء التناوب.. وبالتالي هناك تراث ينبني على مفهوم النقد الذاتي كمفهوم سام وتاريخي أكثر منها شعور انطوائي استسلامي..ومن الخطايا.. التبرجز السريع لأطراف واسعة من اليسار، الابتعاد عن الُذات المعبر عنها والتضحية بمفهوم الشعب لفائدة مفهوم الفئات المؤثرة، الاستسلام لمقولات ليبرالية ومقاولاتية في تدبير الهيآت..معركة تكسير القيم وتعويضها بالمقولات الجاهزة كانهيار التمييز الإيديولوجي وتفكك العمل الاجتماعي والعلاقات الموضوعية..
4 – هناك امتحان غير معلن يتعرض له النموذج السياسي المغربي ..الذي أسسته القواعد المتوافق عليها إلى حد الساعة.. ولم يعد التاكتيك السياسي القصير المدى قادرا على التعبئة بدون شعارات العمق (الحضاري أو الاجتماعي أو غيره..) وقد كان منتظرا وطوال التاريخ أن تتغير أساليب اللعب السياسي من زوايا المقاربة اليسارية لما يمور في الحقل السياسي المغربي. ومن المنطلق ذاته لابد من أن تسود ثقافة النتيجة في تقدير مواقف اليسار، هو الذي ظل يؤمن بالتحليل الملموس للواقع الملموس!
ومن هذه القواعد، النصوص المؤطرة للفعل السياسي و الآفاق المرسوم له، والأساليب التي تؤطره..وهي مهام النخب برمتها..
وقد ألفنا بالفعل أن نحلل الكل من زاوية أزمة الدولة أو أمة النظام في تدبير المراحل السياسية الصعبة أو القاتمة.. وهو ما يفرض علينا أن نطرح السؤال بصدده حقا:هل هناك أزمة في الدولة.. مع ما يحتمل هذا من هزل! ولكي نستطيع الجواب عن السؤال المتفرع عنه:هل يمكن أن نكون كيسار انعكاس لأزمة تدبير الدولة للمحيط الإقليمي الشرس وللمعطيات التي ظهرت بعد الربيع العربي..؟
يمكن أن نطرح السؤال، ولكن لا يمكن أن نطمئن لأي جواب يعفينا من تأزيم الذات لفهم ما يجري للقوة اليسارية..بمعنى آخر، لا يمكن أن نعفي انفسنا من الأزمة بتبرير أزمة المركز في تدبير إسقاطات الربيع العربي!!
لقد دبر النظام المغربي، في عز أزماته الانتقالات التي هزت العالم (سقوط جدار برلين مع المرحوم الحسن الثاني ونهاية القطبية الدولية ) وانتقالات الربيع (مع الملك محمد السادس)، ولم يسقط في الاستحالة السياسية التي أوصلت دولا عربية ومشرقية إلى الحرب الأهلية..
ومن اللافت أن اليسار كان يساعد النظام على الأجوبة ، وتقديم الحلول، كما في حالة اختيار استراتيجية النضال الديموقراطي بعد استعصاء الصراع في قمة االدولة (انقلابات 71 و72..).
5 – هل مات اليسار؟..
لقد فعلت الدولة ما يجب عليها لكي تنفذ القتل، و إذا كانت قد استطاعت تنفيذ أحكام الإعدام، القضائي أو السياسي في الأفراد وبعض الجماعات، فإنها لم تستطع طوال خمسين سنة.. أن تقتل الفكرة اليسارية.
ويسعى التيار الأصولي إلى نفس النتيجة، وهو في ذلك تقاطع مع الدولة في تنفيذ الاعدام في الاشخاص ، من اليسار بالذات ومن المجتمع عموما، بمبررات ثقافية واجتماعية أقوى، وما زال يشتغل باحتياطي اليسار من الآليات والطرق والضمانات الديموقراطية..ولم يستطع أن يتجاوز التفوق الأخلاقي لليسار الأصلي كما عرفه المغرب وكما بشرت به الفكرة اليسارية..
ولكن من يمنع اليسار من قتل نفسه؟
قتلا غير رحيم وبتبعات تاريخية وأهلية لا يمنع تقديرها من الرعب والتوجس سواء على فكرة التعددية نفسها أو على فكرة الاختيارات المدنية.
(يتبع)
- عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
- السبت 19 شتنبر 2015