‘الرَّاسْ اللِّي مَا يْدُورْ كُدْيَة’ مثل مغربي
مشكلة الثقافة العربية اليوم، أنها ثقافة بلا رأس. نفس الأمر ينطبق على الإيمان، أو على الدِّين. كل شيء عندنا مُكْتَمِل، نهائي، ومُغْلَق. دَوْرُنا أن نُكَرِّسَ الانغلاق، بتفسيره، وتبريره، أو تدبيره، بالأحرى، وليس لنا الحق أن نعمل على مُساءلته، أو وضعه خارج سياجاته الدوغمائية المُغْلَقَة، أو الشَّك فيه، وتفكيكه، ونقده.
ما في الحاضر، هو ما كان في الماضي، فكراً، وشِعْراً، وتشريعاً. السَّلَف أعْفانا من عَنَتِ التفكير، وهَيَّأَ لنا كل شيء على طَبَق من ذهب: كل عِلْم له قوانينه، وقواعده، وتَمَّ تأسيسُه، أو تشييدُه بشكل، كُلِّيٍّ، كامل ونهائي. حتى اللغة، فهي بين المَحْمِياتِ التي أصبحت لها حديقتُها التي لا يجوز فيها الصيد. ‘لسان العرب’، كان مَحْمِيَةَ عربية ما قبل القرن الثاني الهجري، أي مرحلة ما قبل التدوين، وكل عربية لَهَجَ بها شاعِرٌ، أو كاتب، مهما كان شأنه، فهي عربية لا حِمايَةَ لها، أو هي عربية ‘متوحِّشَة’ بالتعبير الأنتربولوجي لكلود ليفي شتراوس، لأنها تقع خارجَ سياج القاعدة، والمعيار، وليست لها شرعيةَ ‘التدوين’، أو التأسيس.
هذا ما كان قيلَ عن أبي تمام، مثلاً، واعْتُبِرَ شِعْرُه تهديداً للعربية، لأنه شِعْر غامضٌ، وهو شعرٌ انْتَهَكَ معايير البلاغة، ومعايير التركيب. خلخل المجازَ، وأعادَ ‘تَشيِْيدَ’ الصورة، و’بناءَ’ هَا، بمنظور، ليس هو منظور التعبير البلاغي الذي تَمَّ حَصْرُه، داخل سياج التشبيهات القريبة، أو التي حافظت على ‘المُقاربة’، كشرط من شروط، ‘عمود الشِّعر العربي’، أو كشرط من شروط ‘البيان والتبيين’.
كل اخْتِراق، هو مَسٌّ بنظام المعرفة في هذه الثقافة، وبالأساسات التي تَشُدُّ بناءَها كاملاً. وأي اختراق، هو، في جوهره، هَدْمٌ للبناء، وحَلْحَلَةٌ لهذا ‘النظام’، وتمزيقُه، كما يُمَزَّقُ الثَّوْبُ من على الجَسَد. وهذا ‘النظام’، ليس سوى هذا الإبستيمي، الذي كان ضمن ما حرصت السلفيات الماضوية على تَثْبِيتِه، وحِراسَتِه، أو حمايته من ‘عَبَثِ العَابِثِينَ’!
نظام التعليم والمعرفة، في المدارس العربية، محكوم بهذا السياج، ومحكوم بهذه المعرفة التي ليس فيها للرأس مكانٌ. الرأس وِعَاءٌ، وصندوق، يَحْتَمِل المَلْء، كما يَحْتَمِل الإفراغ. فهو آلةٌ، حَرَكتُها تأتي من خارجِها، من هذا النظام المُكْتَمِل، المُغْلَق، والعامِّ.
البرامج التعليمية، هي ظِلال لهذا النظام القابع في كَهْفٍ مُظْلِمٍ، سَحِيقٍ، مُقَيَّدٍ بسلاسل الماضي، وبسياجاته التي تَقِي مَحْمِياتِه من الانقراض، رغم أن الهواء، هو هواء الحاضر، وهواء الفكر المُبْدِع، المُبْتَكِر، الخَالِق، والمُشْبَع بخيالاته التي لا تفتأ تُزاوِل اختراقاتها، وَتَنْفُذُ إلى صميم الفكر والوجدان، رغم هامشيتها، وما يعتريها من ضيق، وسُوء فَهْم.
السياسة التعليمية، عندنا، هي سياسة الحَشْو والإطناب، وسياسة الاستعادة والتكرار، أو هي سياسة صَدًى، واسْتِنْساخٍ، ينقصها الابتكار، والجُرْأة في اختراق السياجات التي لا يُسْمَح بتجاوزها. كل تفكير من هذا النوع، غير مقبول، وهو تفكيرٌ طائِشٌ، لأنه تفكير هَدْم، وإعادة بناء.
نظام التربية، هو الآخر، محكوم بنفس الإبستيمي، أي بنفس النظام المعرفي، الذي يجري تحت طبقات القيم، مثل الماء الذي يكون كامناً تحت التراب، لا نراه، لكنه هو ما تتغذَّى منه الأعشاب، وما يصبغ الطبيعةَ بألوانه. فالأسرة، ما تزال، في فكرها، وفي ما تعيش عليه من نظام قيمي، أسره أبيسية، السلطة فيها في يد الرجل: القائد، و ‘ رَبّ الأسرة ‘، الذي بيده الأمر والنَّهْي، ولا سلطةَ تعلو على سلطته، ولا كلام يأتي بعد كلامه. فهو الراعي، وباقي أعضاء الأسرة، رَعِيَّة، وهو المسؤول عن رَعِيَّتِه، فهو من يُدَبِّر شؤونَها، ويَتَّخِذ القرارات الحاسمة بشأنها.
نفس البنية التي يصدر عنها المُعَلِّم والمُدَرِّس. فهو محكوم بـ ‘توجيهات’، يعمل على تنفيذها، وهو، في معناه النهائي، آلة، وليس رأساً.
في هذا ما يجعل من الثقافة العربية، تكون ثقافةَ استعادة وتبجيل، لا ثقافة نقد وتحليل. نقول نفس الشيء، بنفس اللغة، وبنفس الكلمات، ووفق نفس النظام. ليس ما نُفَكِّر فيه، هو ما يحكمنا، بل ما نُفَكِّر به، أي ما يكون سابقاً علينا، وسابقاً على تفكيرنا. وفي هذا ما يجعل من المُتَشابِه، يكون هو أحد أهم مكونات بنية هذه الثقافة، التي هي ثقافة فيها الجِسْم هو ما يُحَرِّك الرأسَ ويقوده، وليس الرأس ما يُحَرِّك الجسمَ ويقوده.
لا نتعلَّم التفكيك والتساؤل، ولا نقبل النَبْشَ، أو الحَفْرَ في تُرَب تاريخنا، وفي طبقاته، وما فيه من معارف، هي اليوم، تراث وإرث، جاءنا من هذا الماضي الذي ما تزال كثير من مشكلاته تبدو لنا، في ما يقترحه علينا من نصوص، ومن رموز، وتعابير، وأفكار، أو ما يَبُثُّه في نفوسنا من نُظُمٍ في التفكير، وفي بناء المعارف والأفكار، وصياغتها، وفي النسيج العام لسرد الأحداث والوقائع.
قراءة التاريخ، في مَضَانِّه الأساسية، أو في مصادره، ووفق الطريقة التي وَصَلَنا بها، وما فيه من فراغات، وتناقضات، أو ما يبدو فيه من تَصَدُّعات، لاتُسْعِفُنا في تفسير السياقات التي رافقت النص الديني، مثلاً، بل إنها تزيد من تأجيج شَكِّنا، ومن قلقنا الذي هو قلق معرفة، ورغبة في إجلاء الغبار عن المرايا التي لم تَسْلَم من شروخ الماضي، ومن طريقة روايته، وجمعه، وتدوينه. الأسطوري، والسِّحري، والعجيب، هي ما يحجب عنَّا ‘الحقيقي’ و ‘الواقعي’، أو ما وقع، وهذا ما يتسرَّب للمدرسة، وما يتسرَّب للمعرفة المنقولة عن المدرسة، أو الخارجة منها، أي للاوعينا العام، لأن مشكلة المنهج، وتدريس هذه النصوص، والمعارف، لا تزيدُ الطينَ إلاَّ بَلَّةً.، كما يُقال.
إذا كان المذهب الذي يُرادُ لنا أن نعرفه، ونؤمن به، أو نعتبره هو المذهبَ، دون غيره، وهو نفس ما يسري على الدين، فالتاريخ الذي نقرأه، هو أيضاً تاريخ ما يزال في حاجة للمراجعة، ولاختبار ما يسكن في طياته من نُظُم، هي ما بَثَّها فيه هذا السَّلَف الذي لم يرغب في أن نكون قلقين، راغبين في المعرفة، ليس بطريقته، بل بطريقتنا، وبما ظهر من معارف ومناهج، لم يكن هو على معرفة بها، أو لم يَسْتَحِبَّها، لأنه كان يعرف ما سيترتَّب عنها من نتائج، وهو ما لا يقبله السلفي التابع، حارس نظام الماضي، الذي يعيش معنا الحاضرَ، بعقل وفكر الماضي.
ما تفعله الحداثة، اليوم، هو تشغيل هذا الجزء العاطل، الواقف، من جسم الإنسان العربي، أعني الرأسَ. ووضعه في صُلْب مهمته المنوطة به، وهي التفكير والتخييل. لا التبعية والتبجيل، وهذا ما يعمل الفكر الديني، منذ لحظات التقعيد والتأبيد الأولى، على تفاديه، لأن في تحريك الرأس، وتشغيله، تحريك وتشغيل لنظام معرفي جديد، يخترق ويتجاوز نظام ‘الفقيه’ و ‘والمرشد’ و ‘الواعظ’. وفي هذا المعنى، الحداثة ليست مجرد تقدم في الزمن، أو هي الحاضر، كما يتوهَّم بعض من يختزلون الحداثة في بعدها الزمني، بل إنَّ الحداثة، ‘إنما تنطوي على قطيعات ابستمولوجية أو معرفية’، كما تنطوي على ‘رهانات هامة جداً’، كما يقول محمد أركون.
ما سيميِّز الحداثة عن التقليد، أو الاتباع، هو حركيتها، وديناميتها التي لا تفتأ تُعيد مُساءلة نفسها، وما تتميز به من قلق دائم، لا يعرف الاطمئنان، ولا معنى فيها للاستراحة والاستقرار.
نَهْرٌ جارفٌ، لا ماءَ يُشْبِهُ ماء، كما لا شمسَ هي نفسُها، بين البارحة واليوم.
*عن القدس العربي