كان جان جاك روسو، في زمنه، ثم ميشال فوكو في زمنه (كنموذجين فقط لمفكري أوربا بمسافة ثلاثة قرون)، ينطلقان في الكثير من أبحاثهما الفكرية، ومن أطروحاتهما، من طبيعة روح زمانهما، المؤثرة في توجيه أفعال الناس. أي أنهم ينطلقون دوما من الروح الثاوية في حياة مجتمعاتهم، ونوع التعبيرات التي تفرزها. لهذا السبب ظل الفكر الأروبي، حيا، يقدم دوما الجواب الملموس عن الواقع الملموس، خلال القرون الثلاثة الأخيرة. كان ذلك أيضا حال الكثير من مفكري العرب والمسلمين في أزمنة غابرة، لعل آخرهم، قبل لحظة “النهضة العربية” أواخر القرن 19، المفكر التونسي الكبير عبد الرحمن ابن خلدون.
إن ما يدعونا، الآن، للإشارة إلى هذا المعطى التاريخي، فكريا، في حياة الشعوب والمجموعات البشرية التي يوحدها “وعاء حضاري” متمايز وخاص ومختلف، كامن في أزمة السؤال التي تواجه الفرد العربي في وجوده. ولعل أكبرها اليوم، ما يمكننا وصفه ب “أزمة الأمل” في يومي العربي والمسلم. وعلينا هنا، أن نحذر كثيرا، من وهم الاعتقاد، أن “سؤال الأمل” مجرد سؤال فردي، ذاتي، نرجسي، مثالي، حالم. بل إن المقصود، هو إحساس الجماعة البشرية العربية والإسلامية، التي يشكلها ويصنعها وعاء حضاري هائل، اسمه اللغة العربية، كبنية لإنتاج المعاني،، أن قدرها أن لا تجد من طريق للحق في الأمان والتصالح مع الذات، سوى في الجهة الأخرى لكينونتها: الجهة الأخرى لأوطانها (عبر الهجرة)، والجهة الأخرى لوجودها (الآخرة)، ترجمانا على أزمة في “الأمل” في سقفها الكيوني، بأوطانها، بمدنها، بأحيائها، تحت سقف بيوتها، وهي تذب في الأسواق.
إن هذا “الهروب الكبير” للفرد العربي المسلم، بعيدا عن واقعه اليومي، يحتاج سؤالا فكريا مؤسسا جديدا، من قيمة ما أنجزه روسو أو فوكو، أو أبوالعلاء المعري وابن رشد وابن خلدون، كل في زمنه وضمن قلق سؤال جماعته البشرية. وهو هروب عنيف، يمارس من خلال عناوين تطرفات متراكبة، في اللغة والسلوك واللباس وفي السياسة. مما يعكس جديا أننا كأفراد عرب مسلمين، توحدنا اللغة كوعي حضاري، نعيش “أزمة أمل”. الأمل في الحياة بذات الشكل النبيل والجميل والعميق الذي يقوله حديث نبوي، ينسب مصدره لعبد الله بن عمرو بن العاص: “أن اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. أي منطق التوازن بين الحق والواجب. الحق في الحياة والواجب في الانضباط لقانون محدد في تلك الحياة.
أليس “أمل” العربي اليوم، هو هذا بالضبط، أن يحوز حق “نظام المدينة” في معانيه المحققة للرضى عن الذات والجماعة والانتماء، وأن يمارس واجب الانضباط لذات “نظام المدينة” كشروط مؤسسة لدولة المؤسسات واحترام القانون (أولها احترام إشارة المرور وآخرها تأدية الضرائب). ها هنا نحن أمام ورش كبير للتأمل الفكري، يحتاج ابن خلدون جديد، يحسن إعادة قراءة سؤال “العمران” في واقع “الهروب الكبير” للفرد العربي، كعنوان عن “أزمة أمل” و”أزمة وجود”.
- عن جريدة الاتحاد الاشتراكي