لقد ألفنا في مختلف الدّراسات المهتمّة بقضيّة السّياسة أو الدّولة وعلاقتها بالخطاب الإسلاميّ في المنظور الحضاريّ الحديث؛ أن نقرأ جملة من الآراء التي لا تخرج عن ذاك التّصنيف الثّلاثيّ المعتاد. فإمّا أن يكون الموقف أوّلا، رافضا لكلّ علاقة بين الإسلام والسّياسة، معليا من سلطة الخطاب اللّيبراليّ الدّيمقراطيّ الحديث على المرجعيّة الدّينيّة ومقصيا لها تماما، أو أن يكون الموقف ثانيا، بخلاف ذلك منحازاً إلى فلسفة الملّة ومشرّعاً لمركزيّة الأمّة، أو أن يكون الموقف ثالثا، متوسّطاً للرّأيين السّابقين ساعياً إلى إيجاد نقاط توافق والتقاء بين طرحين متضادّين كلّ التّضادّ على المستوى النّظريّ – المرجعيّ من جهة، وكذا على المستوى التّطبيقيّ الإجرائيّ من جهة ثانية.
أمّا الطّرح الكلاميّ، فيقدّم نفسه بوصفه قراءة مغايرة لهذه الأطروحات الكلاسيكيّة، حيث ينبني على خلفيّة هرمينوطيقيّة ساعية إلى استقراء التّجربة الإسلاميّة من وجهة نظر تأويليّة – فلسفيّة تعاد في ضوئها صياغة القضيّة على نحو متجدّد، رهانه الأكبر تحقيق ضرب من الإرشاد القيميّ في سياق إثارة الإنسان لسؤال المعنى الكامن في تجربته العقديّة.
مقدّمة:
يتحرّك هاجس تجديد الخطاب الدّينيّ في علم الكلام الجديد في فضاء سؤال شامل، هو سؤال الإنسان عن المعنى في علاقة بالتّجربة الدّينيّة، وهو طرحٌ مشكلٌ من أوجه عدّة، لعلّ أبرزها تحقيق التّواؤم للمسلم المعاصر بين خصوصيّة انتمائه العقديّ بما يستتبعه من وضعيّة وجوديّة مخصوصة من جهة، ومقتضيات لحظته الحاضرة التي تحتكم إلى براديغم الوعي الحداثيّ واستتباعاته من جهة أخرى. وفي إطار السّعي إلى تجديد الفكر الدّينيّ، يطرح اختصاص الكلام الجديد مسائل من صميم مشاغل المسلم المعاصر، ويثير من الأسئلة أبرز ما يلحّ عليه، ومن بينها قضيّة العلاقة بين الدّين الإسلاميّ والشّأن السّياسيّ.
ونحن لا نطرح هذه المسألة في هذا المقام، بسبب أنّها قضيّة راهنة وشائكة فقط، أو لكونها محلّ نظر من الجميع، وسؤالاً محيّراً لكلّ المنشغلين بالشّأن الحضاريّ اليوم. ولكن يثيرنا في الحديث عنها، في السّياق الكلاميّ الجديد، سبب رئيس آخر، وهو أنّ المتكلّمين الجدد، ومن بينهم آية الله محمّد مجتهد سبشتري[1] وعبد الكريم سروش[2] ينشغلان بها من زاوية نظر هرمينوطيقيّة. وذاك في تقديرنا مكمن الجدّة في طرح قضيّة نظام الحكم السّياسيّ في علاقة بنظام القيم الإسلاميّ.
وانطلاقا من الوعي بدقّة هذا المشغل وخطورة طرحه، وبضرورة ابتناء آفاق تأويليّة جديدة، كان سعي المتكلّمين الجدد حثيثا إلى أفق تفكيريّ يكسب المسألة المطروحة بعداً تأويليّاً وفلسفيّاً عميقاً بمنأى عن التّنازع المحموم حول مقبوليّة طرح دون آخر.
إنّ لقضيّة العلاقة بين المشروع السّياسيّ الحديث والطّرح الإسلاميّ – التّشريعيّ في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة حينئذ أفقَ تفكير جديد، كما يقترح ذلك شبستري وسروش في مؤلّفات عدّة، قدّماها لتدارس هذه المسألة على خلفيّة مرجعيّة فلسفيّة، تعيد تقليب بعض المفاهيم وبعض المصطلحات وماهيّاتها بغاية تسليط الضّوء على جوانب خفيّة من القضيّة السّياسيّة الحادثة، مراهنين في ذلك على أن تقدّم المقاربة الكلاميّة الجديدة بعض الآفاق أو بعض الحلول للإشكاليّات الفكريّة والعمليّة التي تسود المجتمعات الإسلاميّة في علاقة بالمسألة الدّيمقراطيّة. وليس بالإمكان استشراف أبعاد هذا الرّهان قبل الاضطلاع بالدّور النّقديّ الذي يمثّل أولى خطوات المشروع التّأويليّ الطّامح إلى وضع إسلاميّ جديد.
1. نقد مباني الفكر السّياسيّ الاستبدادي
إنّ المقصود من عبارة “الاستبداديّ”، كلّ فكر أساسه إقصاء المخالف ورفض التّفاعل معه والسّعي إلى إخضاعه لمرجعيّة معيّنة. ويتّخذ هذا الاستبداد أشكالاً متعدّدة. فإمّا أن يكون مستنداً إلى مرجعيّة دينيّة أو أيديولوجيّة أخرى.
والإشكال في هذا الطّرح، أنّه قائم على مغالطة كبرى تكمن في وهم امتلاك الحقيقة الإطلاقيّة وفي تجريد الآخر منها ودفعه إلى الانخراط ضمن المرجعيّة المحوريّة المتعالية لهذا الفكر.
ولكون القضيّة السّياسيّة تطرح في السّياق الكلاميّ الجديد في إطار علاقة هذه المرجعيّة بالمرجعيّة الدّينيّة، فإنّ النّقد الموجّه للفكر الاستبداديّ سيختصّ بملامح الاستبداد باسم الدّين والشّرعيّة العقديّة تحديدا، وهو أبرز مظاهر الممارسة السّياسيّة في الأوساط الإسلاميّة الرّافضة للفلسفة الدّيمقراطيّة الحديثة. من هنا، كان نقد شبستري وسروش لهذا الخطاب الاحتكاريّ والانحصاريّ، وهو نقد يدور أساساً حول مأخذين أساسيّين؛ هما أوّلا، فرض مبدإ التّكليف الشّرعيّ على المبدإ الانتخابيّ، وثانيا فرض رسميّة القراءة الأرثوذكسيّة وإقصاء مبدإ البلوراليّة.
أ- التّكليف الشّرعيّ مقابل المبدإ الانتخابيّ
لم يكن الوعي التّكليفيّ في الأوساط الإسلاميّة القديمة يطرح إشكالاً فكريّاً ولا إجرائيّاً، إذ “التّكليف كان هو الأصل والمحور في الثّقافة الدّينيّة والأخلاقيّة في العالم القديم. وكان أجدادنا القدماء يعيشون في ظلّ هذه المنظومة من التّكاليف”[3]، على حدّ تعبير سروش؛ بمعنى أنّ تأصّل هذا الضّرب من الوعي في الممارسة اليوميّة القديمة، جعل منه الشّكل الوحيد لتجربة المسلم العقديّة والحياتيّة، حيث لم تكن تنازعه أشكال وعي أخرى على الحجّية أو المشروعيّة.
ويتّفق شبستري مع سروش في هذا الرّأي، بدليل قوله: “في المجتمعات التّقليديّة نرى أنّ لغة التّكليف هي الحاكمة، وذلك بتطابق مع مجموعة من الحقائق الموجودة في الواقع الطّبيعيّ، فلا ينبغي تغيير الواقع ولا يمكن ذلك.
وعليه، فلا ينبغي أن يفكّر شخص بتغيير الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ (…) إنّ فكرة التّغيير تمثّل انتفاضة في وجه نظام الخلقة”[4] فكأنّ الخروج من منطق التّكليف إذن، يُعرِّض لخطر الخروج عن الفطرة التي خلق الله الكون عليها. لذلك، فالالتزام بثقافة التّكليف هو عين العبادة والطّاعة لله في المرجعيّة القديمة.
أمّا في المجال السّياسيّ، فكان مفهوم التّكليف ممثّلا في مفهوم الطّاعة والتّبعيّة للحاكم، بوصفه حاكما بأمر الله. وقد تكرّست هذه الفكرة على امتداد التّاريخ الإسلاميّ على التّدريج، حيث سيطرت على جلّ الممارسات السّياسيّة القائمة بين الحاكم ومحكوميه، بوصفهم رعايا له منضوين تحت سلطانه ومكلّفين بطاعته واتّباعه.
غير أنّ أبرز مظاهر الانزياح عن خصوصيّة العصر، وفرض رؤية متقادمة ومتخارجة عن ظرفيّة المسلم المعاصر، تتمثّل في سعي الإسلام الفقهيّ – الحكوميّ إلى فرض مبدإ التّكليف الشّرعيّ وعمله على أن يتمّ تقييم الأداء السّياسيّ دينيّا وفق منظومة الأوامر والنّواهي ومعيار الحلال والحرام الشّرعيّين. في حين أنّه – بتعبير شبستري – “في العصر الحاضر لا يمكننا التّحدّث بلغة التّكليف في باب السّياسة والحكومة. فالمجتمعات الإسلاميّة قد دخلت عصر الحداثة بالفعل (…) وأنّ السّياسة والحكومة في عصر الحداثة يرتبطان بالعلم والفلسفة وانتخاب الإنسان”[5].
فإذا كان منطق التّكليف قائما على اتّخاذ القرار في محلّ الإنسان المسيّر، فإنّ منطق الانتخاب يقوم على طرف نقيض منه، إذ يحمّله مسؤوليّة قراره بوصفه إنساناً مخيَّراً. هاهنا يبدو التّعارض صريحاً بين الانتخاب والتّكليف. ذلك أنّ “الإنسان في عصر الحداثة يعيش الانتخاب والاختيار على مختلف المستويات، وقد حلّ الانتخاب محلّ التّقدير والمصير المحدّد سلفا”[6].
ب- رسميّة القراءة الأرثوذكسيّة ورفض البلوراليّة
يُعرّف كلّ من سبشتري وسروش القراءة الرّسميّة للدّين بكونها القراءة اللاّهوتيّة الفقهيّة – الحكوميّة، التي تتعامل مع الشّأن السّياسيّ بشكل استعلائيّ – إملائيّ، وتجعل من معيار الحلال والحرام والحقّ والباطل مصطلحات سياسيّة تشريعيّة في آن واحد. ولأنّها تتوهّم حيازتها لكلّ هذه المشروعيّة، فهي تتموضع في حالة عدائيّة متواصلة مع كلّ أشكال البلوراليّة الفكريّة والمذهبيّة والسّياسيّة.
هذه “القراءة الرّسميّة لا تعرض نظريّات وآراء في باب نوع الحكومة وكيفيّة التّخطيط للتّنمية وإقامة العدالة كوظائف للحكومة، بل تقدّم سلسلة من الأوامر والأحكام والآداب والمقرّرات في مجال الحلال والحرام والواجب والمباح على شكل “فتاوى” تطلب من المؤمنين أن يتحرّكوا في مجال السّياسة (…) على غرارها”[7]. ومعنى ذلك، أنّها قراءة تفتقر إلى كلّ أفق عمليّ فعليّ، لتوغل في حيّز مجرّد مفارق ومتعال لا يرى من صيغة للخطاب الإسلاميّ إلاّ الصّيغة الآمرة النّاهية. هذا إضافة إلى أنّها في دفاع مستمرّ ومتواصل عن مصالحها السّلطويّة والمرجعيّة الضّيّقة، وهو ما يزيد من إضعاف حجّيتها.
يبدو جليّا إذن، أنّ مثل هذا الفكر الإقصائيّ لا يمكن أن يرسي دعائم الفكر الاختلافيّ البلوراليّ طالما أنّ رأي الآخر المقابل لا يملك الحقّ في النّموّ، ولا حتّى في الوجود أصلا. ومن دواعي نقد مثل هذا الفكر أنّه كما يتعسّف على الحاضر ومقتضياته، فهو يتعسّف على التّاريخ وحيثيّاته أيضا. ومن هذا الوجه، يؤكّد المتكلّمون الجدد أنّ الإشكال لا يكمن في التّجربة الإسلاميّة القديمة، بقدر ما يكمن في فهمها من قبل المرجعيّات التّقليديّة اليوم. ذلك أنّ القدامى قد مارسوا الشّأن السّياسيّ وفق ما اقتضته ظروفهم ومعطياتهم الاجتماعيّة والدّينيّة والثّقافيّة السّابقة.
وذلك ما نطالب به نحن في عصرنا الحاضر؛ بمعنى أنّه على كلّ جماعة بشريّة أن تعيش زمانها وأن تنسجم مع خصوصيّة ظرفها الرّاهن، وذلك ما قصر عنه الاتّجاه الأصوليّ الرّجعيّ في العصر الحاليّ. ونجد على ذلك شاهدا في قول شبستري: “إنّنا أبناء هذا العصر، وأولئك الفقهاء هم أبناء ذلك العصر، وعملنا يقوم على أساس تشخيص وبيان وظيفتنا في العصر الحاضر، لا التّقليل من قدر وقيمة العلماء السّابقين”[8].
يجري هذا المطمح النّقديّ إلى رهان فعليّ أكبر، مداره تأسيس فكر دينيّ – سياسيّ ينافس الطّرح الرّسميّ التّقليديّ بآليّات المنطق الاستدلاليّ–العقلانيّ لـ “يفتح الطّريق أمام تعدّد القراءات، وبالتّالي يمنح الجميع حقوقا متساوية”[9]. فكيف نتبيّن خصائص هذا المشروع الهرمينوطيقيّ التّجديديّ في إطار جدليّة الإسلام والسّياسة؟
2. البديل الكلاميّ في المسألة السّياسيّة الحديثة
لا يعتبر المتكلّمون الجدد أنّ الخلفيّة الدّينيّة الإسلاميّة معادية لفلسفة الدّيمقراطيّة الحديثة، ولكنّهم يرون أنّ الفهم المشوّه للدّين تسبّب في فهم خاطئ ومغالط لطبيعة العلاقة بين الإسلام والسّياسة في صياغتها الغربيّة المعاصرة. من هذا المنطلق، فإنّ البديل الكلاميّ يتأسّس خاصّة على تصحيح مفهومين يتعلّق أحدهما بالقيم الدّيمقراطيّة، والثّاني بالقيم الدّينيّة، ليصل إلى صياغة جديدة لأبعاد العلاقة بينهما وآفاقها الاستشرافيّة المنفتحة. ونقرأ هذا الرّهان بشكل صريح، في قول شبستري: “إنّنا نسعى لإيجاد فضاء حرّ يستطيع من خلاله جميع النّاس، ومنهم علماء الدّين أن يطرحوا نظريّاتهم في باب السّياسة والحكومة، ويشاركوا في العمل السّياسيّ بحقوق متساوية”[10]، وبفعل السّعي إلى هذا الفضاء الفكريّ الحرّ يكون الجمع بين الدّيمقراطيّة والدّين نموذجا تاريخيّا “للتّوفيق بين العقل والشّرع”[11]، بعبارة سروش.
أ- التّنظير السّياسيّ من موقع الانتماء الإيمانيّ
يدعونا هذا العنوان إلى طرح سؤالين اثنين:
1. لماذا التّنظير السّياسيّ؟
2. بأيّ معنى نفهم الانتماء الإيمانيّ؟
يرى مجتهد شبستري وعبد الكريم سروش أنّ الفكر السّياسيّ الإسلاميّ يشكو من ضعف تنظيريّ فادح. ولعلّ ذلك ما يسبّب ظهور عدد من المواقف العشوائيّة في هذا الإطار. ومأتى العشوائيّة هو الافتقار إلى خلفيّة نظريّة صلبة يتمّ على أساسها ابتناء الرّأي ودعمه بجهاز برهانيّ ومفاهيميّ متين؛ فجملة ما لدينا، يعدّ آراء متفرّقة واعتباطيّة تنشغل ظاهريّا بالمسألة السّياسيّة الشّائكة، ولكنّها في الباطن لا تلج إلى عمقها ولا إلى أصول إشكاليّاتها الأولى.
من هنا، تلقى على عاتق المفكّرين المعاصرين مسؤوليّة ملء هذا الفراغ ببدائل نظريّة تتضمّن شروط تطبيقها وتفعيلها في الواقع، وذاك شرط وجاهتها ومقبوليّتها.
أمّا التّنظير من موقع الانتماء الإيمانيّ، فيتّخذ أبعاداً مخالفة لما قد يفهم من ظاهر اللّفظ؛ إذ ليس المقصود من الانتماء ذاك التّعلّق بالمستوى السّطحيّ– القشريّ من العقيدة، حيث يقتصر مفهوم الإيمان على الالتزام بجملة الأوامر والنّواهي والتّشريعات الفقهيّة؛ لأنّ هذا النّوع من “الإيمان المصلحيّ” كما يعبّر عنه سروش لا يعدو أن يكون مجرّد تطبيق آليّ خال من البعد الأعمق للمقاصد الشّرعيّة ومفتقر إلى فلسفة التّجربة العقديّة، كما ينبغي أن تكون عليه في حياة المسلم المعاصر.
في هذا الإطار، يدعو الكلام الجديد إلى تأسيس مفهوم جديد للإيمان والتّديّن، لأنّه يكفل للمرء في آن واحد تحقيق انتمائه العقديّ، ويضمن انفتاحه على التّجربة السّياسيّة الحديثة.
وبهذا، ينتفي ذلك الصّراع المغلوط بين الخطاب الإيمانيّ والمنطق العقلانيّ، لأنّه لا يوجد تعارض جوهريّ يحكمهما، خلافاً لما سعى الطّرح الأيديولوجيّ إلى إظهاره؛ ذلك أنّ القيم الدّينيّة يمكن أن تؤسّس لثقافة سياسيّة متينة.
ولا أدلّ على ذلك من مركزيّة قيمة العدالة في الإسلام، وهي قيمة، لو عمل السّاسة على تفعيلها لتحقّق انسجام القيم الإسلاميّة مع القيم الدّيمقراطيّة بشكل جليّ. يقول شبستري في هذا السّياق: “أعتقد أنّ الخطاب السّياسيّ والاجتماعيّ للإسلام يتلخّص في تحقيق العدالة، إنّ رسالة الدّين السّياسيّة تتركّز على تشويق النّاس لإقامة العدالة في واقع المجتمع والاهتمام بالقيم الأخلاقيّة في عالم السّياسة، وبعبارة أخرى إفهام النّاس ضرورة عدم الفصل بين السّياسة والأخلاق ورعاية القيم الأخلاقيّة في السّياسة”[12].
والملاحظ أنّ الاشتغال على هذه العلاقة القيميّة لا يكفل فقط البعد الدّيمقراطيّ للتّجربة السّياسيّة؛ بل يكفل كذلك ممارسة التّجربة الدّينيّة من خلالها. ونقرأ ذلك في قول سروش: “إنّ مراعاة “العدالة والحرّية و… لا تضمن ديمقراطيّة هذه الحكومة فحسب، بل تكرّس دينيّتها أيضا”[13].
إنّ التّفاعل بين المنظومتين القيميتيّن الدّيمقراطيّة والإسلاميّة يسنده قانون ثقافيّ راسخ عبر تاريخ الحضارات الإنسانيّة المختلفة، وهو قانون الأثر الثّقافيّ الذي يربط اللاّحق بالسّابق، والذّاتيّ بالغيريّ، وهو ما يجعل من مبدإ تفاعل الفكر الإسلاميّ مع الأطروحة الدّيمقراطيّة أمرا بديهيّا، بل وضروريّا من جهة، ويجعل من أمر العودة إلى الموروث الدّينيّ لاستلهام القيم الأخلاقيّة منه، وإيلاجها في الطّرح الدّيمقراطيّ كذلك، شرطا أكيدا لابتناء القيم السّياسيّة على قاعدة أخلاقيّة صلبة من جهة أخرى.
ذلك أنّ مشكل الدّيمقراطيّة في المحضن الغربيّ، أنّها فرّطت في الزّاد القيميّ – الأخلاقيّ حسب تصوّر مجتهد شبستري. فـ “المجتمعات التي تسودها قيم النّظام الدّيمقراطيّ أغفلت الرّأسمال المعنويّ للإنسان، وأهملت ميراثه وقيمه الأخلاقيّة. وبذلك تواجه هذه المجتمعات في هذا العصر أزمة المعنويّة والأخلاق (…) وقد وصلت هذه الحالة إلى الذّروة، عندما تمّ فصل السّياسة عن الأخلاق المعنويّة والدّينيّة تماماً (…) ولا ينبغي لعالم السّياسة والحكومة أن يبتعد عن القيم المعنويّة”[14].
من هذا المنطلق، تأكّدت حاجة المنظومة الدّيمقراطيّة إلى منظومة القيم الأخلاقيّة– الدّينيّة في إطار الصّياغة الكلاميّة الجديدة للتّجربة السّياسيّة في بعدها الإسلاميّ.
فالطّرح الكلاميّ إذن، يراهن في رأي مجتهد شبستري على “البحث عن النّظريّة السّياسيّة للحكومة والعدالة التي تسهم في تيسير تجربة الخطاب الإلهيّ وسائر التّجارب الدّينيّة للخواصّ، وتيسير التّخلّق بالأخلاق الوحيانيّة للأغلبيّة من النّاس الذين يعيشون واقعا اجتماعيّا معيّنا(…) في هذه الصّورة نلجأ إلى التّحكيم الدّينيّ، ويكون الكتاب والسّنّة من العوامل المؤثّرة في مجال السّياسة والحكومة”[15].
أ- الدّيمقراطيّة في الصّياغة الإسلاميّة
إنّ تمثّل القيم الدّيمقراطيّة في الأوساط الإسلاميّة يقتضي العودة إلى منظومة القيم المضمّنة في المتون الدّينيّة والتّفكير في مدى انسجام المرجعيّتين فيما بينهما. لأجل ذلك، فإنّ مهمّة إصلاح الموروث الدّينيّ تعدّ أولويّة كبرى في الكلام الجديد لكونها الشّرط الأوّل لتنقية الفكر الإسلاميّ من رواسب الجزميّة والتّقليد التي تكبّل التّجربة المعاصرة للمسلم اليوم.
وعلى هذا الأساس، تصاغ ماهيّة الدّيمقراطيّة؛ أي من منطلق إعادة قراءة النّصوص الإسلاميّة في ضوء المعطيات الفكريّة والفلسفيّة تفاديا لإعادة إنتاج القراءة الكلاسيكيّة الرّافضة لكلّ انفتاح على المفاهيم الجديدة ممّا عمّق الهوّة بين الفكر السّياسيّ الحديث والفكر الإسلاميّ. من هنا، يستعيد كلّ من مجتهد شبستري وسروش تشكيل جملة من المفاهيم السّياسيّة في ضوء الفهم الإسلاميّ المنفتح على المرجعيّة الهرمينوطيقيّة الفلسفيّة الحديثة بغاية الإسهام في صياغة فهم إسلاميّ جديد للفكر السّياسيّ المعاصر ولآليّاته الدّيمقراطيّة تحديدا.
ب- الحرّية وشرط المسؤوليّة.
يتأسّس الطّرح الدّيمقراطيّ على قيمة الحرّية البشريّة، ويعتبرها أصلا راسخا لتحقيق إنسانيّة الإنسان. ومن منطلق رفض أيّة وصاية تحدّ من حرّية هذا الإنسان وتكبّل حقوقه، فإنّ من شروط النّظام الدّيمقراطيّ أن يكفل له جملة من الحرّيات بفعل القوانين والمقرّرات الرّسميّة.
ومن بين مجالات هذه الحرّيات، المجال الفكريّ والسّياسيّ والدّينيّ، ويشترط في الحكومة التي توصف بالدّيمقراطيّة أن تكفل هذه الحرّيات، وهو ما يؤكّده شبستري بقوله: “إنّ هذه الحرّيات الأساسيّة تشكّل بمجموعها الأركان النّظريّة لهذا الشّكل من الحكومة (…و) أهمّها: حرّية البيان وتبليغ العقيدة السّياسيّة وغير السّياسيّة، حرّية الاجتماعات، حرّية الدّين والمذهب وتساوي الحقوق بين جميع أفراد المجتمع في مسألة الانتخاب وتشكيل الأحزاب والجمعيّات السّياسيّة والمشاركة في الحكومة”[16]. وليس بالإمكان ضمان حقّ الحرّية لكلّ فرد من أفراد المجتمع ما لم يكن التّعامل معهم مبنيّا على أساس المساواة في المعاملة بغضّ الطّرف عن الانتماء العقديّ أو غيره. ويذهب شبستري إلى أنّ “المقصود من الحرّية في النُّظم الدّيمقراطيّة هو أنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بغضّ النّظر عن عقيدته وقيمه الأخلاقيّة وانتمائه السّياسيّ، وبمجرّد كونه إنساناً يملك حرمة (…) وله حقّ العمل بحرّية، ولكنّه مسؤول في مقابل حرّية وحقوق الآخرين. والأساس في هذا التّعريف للحرّية، يدور حول فرديّة الإنسان مع شرط الحرّية في العمل وشرط المسؤوليّة في مقابل حرّيات الآخرين”[17].
إنّ وجه الالتقاء بين المرجعيّتين الدّيمقراطيّة السّياسيّة والإسلاميّة الدّينيّة حول ماهيّة الحرّية يكمن تحديدا في المراهنة على إيجاد المعادلة بين الحقّ والواجب في التّجربة الوجوديّة للمسلم المعاصر ببعديها السّياسيّ والدّينيّ على نحو من المحايثة والمماهاة وليس على خلفيّة التّنافر والتّصارع على الحجيّة.
-ج- “سيادة الشّعب” ديمقراطيّة أم دينيّة؟
إنّ إضافة كلمة “الدّينيّة” لمصطلح “سيادة الشّعب” تنضوي تحتها جملة من المغالطات، وتكرّس في النّتيجة طرحاً تقليديّاً رجعيّاً يدّعي لنفسه مواكبة الطّرح الدّيمقراطيّ، بل وضمّه إلى مرجعيّته المخصوصة في حين أنّه في تصادم جوهريّ معه.
ذلك أنّه في ظلّ هذا الفهم لمسألة سيادة الشّعب دينيّا “يتمّ حذف وإلغاء قيم الدّيمقراطيّة ولا يتمّ انتخاب المسؤولين والحاكمين بوسائل ديمقراطيّة، وعلى أساس الأكثريّة، ويكتفي هؤلاء بعنوان “سيادة الشّعب”، والقول بأنّهم ديمقراطيّون ولكنّهم في مجال العمل والممارسة يعيشون أفكاراً وقيماً مضادّة للدّيمقراطيّة وسيادة الشّعب”[18] كما يوضّح ذلك شبستري. فالانتماء إلى الدّيمقراطيّة في ظلّ هذا الاستحواذ التّأويليّ على مبادئها، لا يعدو أن يكون انتماءً قشريّاً زائفاً.
من هنا يخلص شبستري إلى أنّه “لا يمكن إضافة “كلمة دينيّة” لمصطلح سيادة الشّعب (…لأنّ) هذا القيد وهذه الإضافة بإمكانهما تفريغ سيادة الشّعب من مضمونها ومحتواها الحقيقيّ، فالمقصود من سيادة الشّعب هو هذا النّظام الدّيمقراطيّ السّائد في الفكر الحداثيّ”[19].
وما لم يتمّ السّعي إلى تجديد الفهم الدّينيّ بالبحث عن مقاصده الكبرى وبالتّعمّق في فلسفة خطابه، يصبح من المتعذّر الحديث عن علاقة تجمعه بالمفهوم الدّيمقراطيّ لمبدإ “سيادة الشّعب”. ذلك أنّ التشبّث بميكانيزمات الخطاب التّقليديّ يستبطنه الحفاظ على جملة من المفاهيم، ومن بينها مفهوم الأمّة في مقابل مفهوم الشّعب، وهو ما يحول دون تمثّل فلسفة السّيادة الشّعبيّة كما تصاغ ديمقراطيّا. والإشكال أنّ هذا الإصرار على التّفكير انطلاقا من المرجعيّة القديمة في ظلّ المستجدّات السّياسيّة الحادثة لا يفضي إلى الإضرار بالشّأن السّياسيّ فحسب، إنّما هو مضرّ بالشّأن الدّينيّ كذلك.
ينبغي حينئذ أن نصحّح الفهم القائل بضرورة أن تكون الحكومة دينيّة حتّى تحمي البعد الدّينيّ في وجود المسلم اليوم، لنقول في المقابل إنّ هذا البعد يمكن له أن يحضر بقوّة في حياة المسلم في ظلّ نظام سيادة الشّعب الدّيمقراطيّة حينئذ، فـ “لا ضرورة لإضافة كلمة (دينيّة) أو (إسلاميّة) إلى هذا المصطلح”[20].
إنّ تحقيق الدّيمقراطيّة في المجتمع الإسلاميّ إذن، لا يشترط أن تكون إسلاميّة بالضّرورة، إنّما يفترض أن يكون الإسلام مقاما تعبّديّا وشكلا من أشكال الانتماء الوجوديّ – العقديّ للمسلم المعاصر يتحايث ويتماهى مع أبعاد وجوديّة شتّى للإنسان، لا تجد من نظام سياسيّ نظريّ يكفلها، ويضمن حرّية ممارستها بشكل أفضل ممّا يكفله النّظام الدّيمقراطيّ الحديث.
بذلك، تجتمع للمؤمن المصلحتان السّياسيّة- الدّنيويّة، والدّينيّة – العقديّة على خلفيّة نظريّة وتطبيقيّة في آن معا، في ضوء طموح الرّؤية الكلاميّة الجديدة إلى حداثة إسلاميّة في بعدها الأنطولوجيّ العميق.
خاتمة:
يبدو لنا ممّا تقدّم، أنّ المشروع الكلاميّ الجديد بما يثيره من مفاهيم ويقلّبه من قضايا، هو على درجة من الوجاهة البالغة. ولعلّ ذلك ما يجعله جديراً بالدّراسة والتّحليل، وحقيقاً باعتماده نموذجا جادّا من بين النّماذج التّجديديّة المكوّنة للمشهد الثّقافيّ الإسلاميّ الحديث؛ إلاّ أنّ عدّه كذلك يزيد من مسؤوليّة الدّارس له، حيث لا يكفي الوقوف على دلائل الإصابة والإجادة فيه، وإنّما ينبغي اتّخاذ مسافة نقديّة من مقدّماته ونتائجه بغاية تعميق النّظرة إليه من جهة، وبهدف إثراء خطابه ببعد نقديّ يزيد من نضج هذا المشروع، ويعدّل من مساراته واختياراته من جهة ثانية.
*قائمة المصادر:
أ- سروش (عبد الكريم):
– بسط التّجربة النّبويّة، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت، بغداد، ط1، 2009
– التّراث والعلمانيّة، البنى والمرتكزات، الخلفيّات والمعطيات، ترجمة أحمد القبانجي، الانتشار العربيّ، بيروت، لبنان، ط1، 2009
– الصّراطات المستقيمة، قراءة جديدة لنظريّة التّعدّديّة الدّينيّة، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت، ط1، 2009
– العقل والحريّة، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت، ط1، 2009
– القبض والبسط في الشريعة، ترجمة دلال عباس، دار الجديد ، بيروت، لبنان، ط1، 2002
– Sorouch (Abdolkarim(, Reason freedom, and Democracy in Islam, translated, edited and with a critical introduction by Mahmoud Sadri, Ahmed Sadri, Oxford University Press,New York, 2000
ب- شبستري (محمد مجتهد):
– قراءة بشريّة للدّين، الانتشار العربيّ، بيروت، لبنان، ط1، 2009
– مدخل إلى علم الكلام الجديد، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2000
– الهرمنيوطيقا، الكتاب والسنة، ترجمة حيدر نجف، دار التّنوير للطّباعة والنّشر، بغداد، ط1، 2013
[1] مفكّر إيرانيّ مختصّ في الدّراسات الفلسفيّة وفي علم الكلام الجديد، راجع سيرة شبستري الذّاتيّة ضمن كتاب مدخل إلى علم الكلام الجديد، ص ص 53، 57
[2] مفكّر إيرانيّ ينشغل حاليّا بدراسة علم الكلام الجديد، ويقدّم في إطاره إسهامات عديدة. راجع ترجمة سروش في كتاب القبض والبسط في الشّريعة، ص، ص 15، 17. وفي كتاب العقل والحرّيّة، ص ص 5، 23
[3] سروش، التّراث والعلمانيّة، ص 71
[4] شبستري، قراءة بشريّة للدّين، ص ص 95، 96
[5] نفسه، ص 89
[6] نفسه، ص ص 89، 90
[7] نفسه، ص 88
[8] شبستري، نفسه، ص 106
[9] نفسه، ص 257
[10] نفسه، ص 257
[11] سروش، التّراث والعلمانيّة، ص 146
[12] نفسه، ص 117
[13] سروش، نفسه، ص 152
[14] شبستري، نفسه، ص ص 218، 219
[15] شبستري، نفسه، ص 116
[16] نفسه، ص 206
[17] شبستري، نفسه، ص 202
[18] شبستري، نفسه، ص 222
[19] نفسه، ص 223
[20] نفسه، ص 267
* مقال منشور ضمن ملف العدد الرابع عشر من مجلة ذوات الثقافية الإلكترونية “المعرفة الدينية وسؤال القيم“
* لتصفح العدد كاملا يرجى زيارة الرابط أدناه على موقع “مؤسسة مؤمنون بلا حدود”:
* لتصفح أعداد “مجلة ذوات” الثقافية الإلكترونية يرجى زيارة الرابط أدناه على موقع “مؤسسة مؤمنون بلا حدود”: